أسرار ودوافع زيارة حميدتي لجنوب أفريقيا

رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا (يمين) أثناء لقائه قائد قوات الدعم السريع السودانية محمد حمدان دقلو "حميدتي" (يسار) في بريتوريا، الشهر الجاري (الأناضول)

لم تُثر زيارات قائد التمرّد محمد حمدان دقلو، دولَ الجوار الأفريقية في شرق القارة، استغرابًا مثلما أثارت زيارته جمهوريةَ جنوب أفريقيا من تساؤلات واستغراب، فالزيارة تم ترتيبها على مستوى عالٍ من مجموعة شركات علاقات عامة دولية، وسخّرت فيها أبوظبي عَلاقاتها الدبلوماسية؛ بغرض تسويق الرجل في المحيط القاري، وتسليعه في سوق السياسة بالإقليم، وعرضه على أرفف المتجر المفتوح على الروّاد، وهم بعض رؤساء دول المنطقة، وجعل الباعة المتجولين يعرضونه على قارعة الطريق مع سخام الأسواق السياسية رغم كسادها العظيم.

نادي المبادرات

السؤال: لماذا جنوب أفريقيا وكيف..؟ الإجابة تتضمن بعض التفاصيل، ففي سبتمبر الماضي بدأت أطراف حكومية في العاصمة بريتوريا تطرح على الرئيس سيريل راما فوزا، أفكارًا حول ما إذا كان ممكنًا لجنوب أفريقيا أن تدخل نادي المبادرات حول الحرب في السودان، على خلفية زيارة نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار إلى جنوب أفريقيا في يوليو الماضي، ولقائه الرئيسَ راما فوزا وإبلاغه رسالة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان حول الحرب والأوضاع بالسودان وسبل حلها .

تبنَّى فرع القرن الأفريقي في الاستخبارات الجنوب أفريقية طرحَ الفكرة عبر مستشار الرئيس الأمني والمسؤول السابق عن منطقة القرن الأفريقي الجنرال ( تني إيكو جورج هلو نجواني – TINYIKO G HLUNWANE )،  ووافق الرئيس راما فوزا، وكان يشعر بقدرة بلاده على تحقيق شيء في الملف السوداني بعد نجاحه- بالتنسيق مع واشنطن- في توقيع الاتفاق بين الحكومة الإثيوبية، وجبهة تحرير التغراي بعد حرب طاحنة، وتم التوقيع على اتفاق السلام بالعاصمة بريتوريا في 3 نوفمبر 2022م.

من هنا بدأت لجنة برئاسة مستشار الرئيس راما فوزا السيد هلو نجواني، التحرك في دول المنطقة والاتصال بقيادة الاتحاد الأفريقي ودول المنطقة ذات الصلة بالقضية السودانية، حيث أطلعت في أديس أبابا السيّدَ موسى فكي رئيس المفوضية الأفريقية على المبادرة، وكذلك التقت لجنةُ مستشار الرئيس راما فوزا بمفوض الشؤون السياسية رئيس مجلس السلم والأمن الأفريقي النيجيري بانكولي أديو، كما تم إجراء اتصالات ولقاءات مع قيادة وسكرتارية منظمة الإيغاد في جيبوتي .

تهيئة الأجواء

أجرى مستشار راما فوزا ووفده اتصالات مع مسؤولين في إثيوبيا، وكينيا، وتشاد وجنوب السودان بغرض الإخطار وتهيئة الأجواء لطرح المبادرة والاستماع لوجهات النظر المختلفة، وزار الوفد ليبيا وعقد اجتماعات منفصلة مع المسؤولين في العاصمة طرابلس ومع مجموعة حفتر في بنغازي، فضلًا عن جولة شملت المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وتركيا، وقطر.

إلى هذا الحد، الأمور كانت طبيعية، لكن الانعطاف الذي حدث، أن الوفد الجنوب أفريقي المكلف بإجراء الاتصالات، التقى في العاصمة الإثيوبية بالدكتور عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السابق الذي كان قد اختير للتوّ رئيسًا لمجموعة (تقدم)، وجاء مقترح اللقاء مع حمدوك من جهات داعمة للتمرّد في الإمارات وأديس أبابا دفعت به لوفد بريتوريا.

استقطاب الدعم المالي

كان واضحًا منذ البداية أن جنوب إفريقيا – حسب ما ظلّ يردده موفد ومبعوث الرئيس راما فوزا – لا تريد أن تعمل وحدها في ملف المصالحة السودانية، ولا ترغب في جمع قائد الجيش وقائد المليشيا المتمردة، إنما تريد العمل على مبادرة شاملة تجمع مكونات الصراع والحرب والقوى السياسية والاجتماعية في السودان، كذلك طرحت فكرة ابتدائية مؤداها محدد وواضح؛ أنها تريد شريكًا يعمل معها خاصة من دول جوار السودان أو في الإقليم، كما تريد ضمان النجاح في استقطاب الدعم المالي لمقابلة تكلفة إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وإعادة الإعمار بالسودان إذا أُقر السلام، وتم التوقيع على مصالحة شاملة .

على هذه الخلفية، كانت الخطة المشتركة للإمارات وأديس أبابا ومجموعة حمدوك وأطراف دولية أخرى هي احتواء المبادرة الجنوب إفريقية في مهدها، وجرّ الرئيس راما فوزا إلى مربع آخر حتى تلبّي مبادرته كل الشواغل المطلوبة، وتحويل الموقف العام لبلده من الحياد الكامل في هذا الصراع والحرب الدائرة، إلى موقف يقارب ما بين دوره كوسيط، وفي الوقت نفسه دور داعم ولو بشكل غير مباشر للمُرادات التي تخدم مصالح قوى دولية وإقليمية.

بينما واصل حمدوك ومجموعته العمل على تهيئة وتأهيل قدرات التمرد وقيادته للعب الدور المطلوب، بجانب تنسيق التحركات والاتصالات مع دول المنطقة ودوائر غربية وسفراء ومسؤولين غربيين، للالتفاف على المبادرة الجنوب إفريقية وتجييرها لصالح تحالفهم مع التمرد واستغلال عدم الإلمام الكافي من جانب بريتوريا بتفاصيل وأبعاد الصراع المسلح والحرب في السودان.

تعريفات مضللة

وسعت مجموعة حمدوك في إعداد تصورات غير صحيحة، وتعريفات مضللة لما يجري في السودان، خاصة التركيز بشكل محدد على الإيعاز الواضح للجنوب أفريقيين بضرورة استبعاد فكرة مشاركة جميع القوى السياسية السودانية في المبادرة أو تسويق فكرة إتمام مصالحة وطنية شاملة لا تستثني أحدًا أو سَودَنة مشروع المصالحة. والحقيقة الذي جرى في جنوب أفريقيا مع الهزيع الأخير من عهد الفصل العنصري وتصفية نظامه وانتصار الإرادة الحرة لشعب جنوب أفريقيا.

ومن هنا تم التحرك من أطراف متعددة لمحاصرة المبادرة المطروحة من جنوب أفريقيا، وعملت مجموعات أوروبية وجهات داخل الاتحاد الأفريقي للالتصاق الطلحي بالمبادرة الجنوب أفريقية.

ونظرًا لوجود خلفيات أخرى متعلقة بطبيعة البيئة السياسية وتوجهات السياسة الخارجية لجنوب أفريقيا وحساسيتها المفرطة من طبيعة النزاعات في القارة، كان من السهل إدراج موضوع زيارة قائد التمرد (حميدتي) إلى بريتوريا للاستماع إليه وتقييم الموقف.

خاصة أنها استقبلت نائب الرئيس السوداني مالك عقار، فمثلما فعلت في السابق مع زعماء معارضين ومتمردين في دول أفريقيةـ كاستقبال الرئيس راما فوزا زعيمَ جبهة البوليساريو في أكتوبر 2022م، وقادةَ حركات معارضة من الكونغو الديمقراطية، والصومال، وليبيا، ورواندا، ومن دول في غرب أفريقيا، بجانب تاريخ زيارات زعيم المتمردين السودانيين السابق الراحل جون قرنق وقيادات حركته ــ فإنه بالإمكان استقبال حميدتي في السياق ذاته دون أن يتلطخ وجه المبادرة.

جهات غير مرئية وشخصيات نافذة

هناك عوامل أخرى لعبت فيها جهات غير مرئية وشخصيات نافذة، تعمل في مجال العلاقات العامة الدولية لكسب جنوب أفريقيا لصالح المسرحية التي يراد من عرضها على المسرح السياسي، وجعلها مقدمة لصياغة واقع سياسي جديد في السودان، لم يكن ظهور قائد التمرد إلا صورة باهتة وظلالًا على ستارة العرض ستتم إزالتها بعد تحقيق الأغراض وبلوغ المرام .

وحسب التقصي والاستطلاع عن حقيقة ما جرى، فإن الفريق الأمني في بريتوريا الذي طرح مسألة المبادرة وعكف على الاتصالات بدول المنطقة وأعد تصورها ويعمل على هذا الملف، تم تغييبه تمامًا عن زيارة حميدتي، ولم يكن على علم بها، فقد حضر اللقاء مع الرئيس الجنوب أفريقي فقط الناطق الرسمي ومسؤول الإعلام في الرئاسة والذي كان يجلس شمال الرئيس وموظفة أخرى وهما من صاغا الخبر الصادر عن الرئاسة، ولم يظهر آخرون في الصورة  وهم ممثلو شركة العلاقات العامة البريطانية والإماراتية التي تولت ترتيب كل زيارات حميدتي لدول المنطقة .

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.