القلق الإقليمي والدولي من أزمات جنوب الصحراء

الحلول المتعلقة بالسودان تتطلب في المقام الأول موقفا حازما للحفاظ على الكيان السوداني موحدا وإحياء التضامن الوطني (رويترز)
الحلول المتعلقة بالسودان تتطلب في المقام الأول موقفا حازما للحفاظ على الكيان السوداني موحدا وإحياء التضامن الوطني (رويترز)

بدأت الأوضاع الأمنية والسياسية المتفاقمة في دول أفريقيا جنوب الصحراء تثير قلقا بالغا في كل الإقليم، خاصة دول شمال أفريقيا، فضلا عن الانشغال الدولي بالتطورات المتلاحقة في المنطقة، وطبيعة التدخلات من خارج القارة لاحتوائها أو زيادة اشتعالها.

كنا حضورا خلال الفترة من التاسع حتى العاشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، بالعاصمة الليبية طرابلس، في ورشة عمل مهمة بعنوان "قراءات تحليلية للأزمات السياسية والأمنية بدول جنوب الصحراء وتخفيف انعكاساتها على المشهد الليبي والإقليمي، تحت شعار من أجل أفريقيا آمنة مستقرة"، نظمها المركز الليبي للدراسات الإستراتيجية والأمن الوطني بالتعاون مع مركز الحوار الإنساني في جنيف، بمشاركة نخبة من الخبراء الدوليين والمتخصصين والأكاديميين من البلد المضيف وخارجه ومن دول الجوار الليبي الثلاث المعنية بالورشة، وهي السودان وتشاد والنيجر، بالإضافة لممثلي المنظمات والهيئات الدولية وبعض السفراء والدبلوماسيين المعتمدين في ليبيا.

ليبيا هي القاسم المشترك في هذا المحيط المتلاطم من الصراعات، إذ تواجه مهددات أمنية معقدة بسبب حدودها المشتركة مع البلدان الثلاثة، وغياب الدولة المركزية منذ 2011

لمعرفة أبعاد هذه الأزمات السياسية والأمنية بدول جنوب الصحراء، انطلق حوار جاد وعميق لمعرفة انعكاسات هذه الأزمات على ليبيا وغيرها من بلدان المنطقة، وتداعياتها الحالية على حاضر ومستقبل هذه البلدان المنكوبة بالحروب والمعضلات السياسية الطاحنة، فمن دون إدراك كامل لأبعاد تطورات الأزمات الراهنة والحد من غلوائها، قد تتحول هذه النزاعات إلى عاصفة جامحة تهب على كل غرب ووسط وشرق أفريقيا وستصل آثارها إلى الشمال الأفريقي، لذا كان التركيز في الورشة على الوضع في السودان وأخطاره المحدقة واحتمالات انزلاقه نحو الحرب الأهلية، والأزمة السياسية في تشاد وتفاقمها المقلق ونشاط المعارضة التشادية في الجزء الشمالي والشمال الغربي، ثم الانقلاب في النيجر وما يتوقع من تصاعد الأوضاع في دول الساحل سببه وشبح التدخل العسكري الخارجي المخيم على المنطقة.

السودان وتشاد والنيجر.. أزمات مترابطة ومعقدة

الذي لا جدال حوله أن هذه الأزمات مرتبطة ببعضها ارتباطا عضويا لا فكاك منه، بسبب التداخلات الاجتماعية والعرقية والمعطيات الجيوسياسية، غير أن ليبيا في الواقع هي القاسم المشترك في هذا المحيط المتلاطم من الصراعات، إذ تواجه مهددات أمنية معقدة بسبب حدودها المشتركة مع البلدان الثلاثة، وغياب الدولة المركزية منذ 2011، وحالة الفوضى العارمة التي اجتاحت الجنوب الليبي وجعلته مرتعا لكثير من الحركات المسلحة وعصابات المرتزقة الأفارقة، ونشاط التهريب والمهربين، وأهم معابر الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، ومنفذا يتسرب منه السلاح والوقود والعتاد الحربي فضلا عن تجمعات المورد البشري المنخرط في حروب أفريقيا جنوب الصحراء.

بدأنا بحوارات معمقة عن حالة كل بلد على حدة، ثم التأمت في جلسات عامة، توصل المشاركون جميعا خلال الحوارات إلى قناعات قوية بأن هذه الأزمات أكثر تعقيدا وعمقا وتشابكا مما كان متصورا، بجانب الإقرار بعجز المجتمع القاري والإقليمي والدولي عن إيجاد حلول عملية وعاجلة لوقف العنف ولجم الاقتتالات والحيلولة دون انفلاتها لتصبح حروبا شاملة لا تبقي ولا تذر.

هذا بالطبع يتطلب حوارا طويلا واتصالات مكثفة وتنسيقا دوليا وإقليميا، وتحركات فاعلة في الأطر المطروحة الآن مثل المبادرات الإقليمية والدولية، وخاصة مبادرة دول الجوار كما في حالة السودان، أو اتفاق الدولة لتشاد، أو مبادرات احتواء الأزمة في النيجر وتغليب الحل السياسي، بيد أنه كان مطلوبا منا توفير إجابات شافية على أسئلة ملحاحة عن السيناريوهات المحتملة حول مستقبل هذه المنطقة، وكيفية تخفيف تشدد وحِدة الصراعات ومحاولة صناعة السلام والاستقرار السياسي وبلورة حلول مقبولة للجميع.

ليبيا قاسم مشترك بين أزمات وسط أفريقيا

والصحيح أيضا أن ليبيا بظروفها المعلومة ووضعها السياسي المعروف، تبدو الأكثر قلقا من كل دول المنطقة، والأكثر انشغالا بتطورات هذه الأوضاع المأزومة في السودان والنيجر وتشاد، فحمم هذه البراكين ستتجه مباشرة إلى ليبيا نتيجة 3 أبعاد رئيسية سياسية واجتماعية واقتصادية، فتأثير الحرب السودانية على ليبيا وتورط جزء منها (الشرق الليبي ومجموعة حفتر) ووجود جيوب تُفرّخ المرتزقة والمقاتلين من البلدان الأفريقية، وتسرب السلاح والوقود والمؤن القتالية، بجانب ظهور حالات لجوء من غرب السودان ومناطق أخرى ومن تشاد والنيجر، أفرز واقعا مختلفا لدى صناع القرار السياسي الليبي، قد يدفع طرابلس إلى وضع إستراتيجية لازمة للمشاركة الفاعلة والعاجلة لاحتواء الأزمة السودانية والصراع السياسي والعسكري التشادي وحل القضية النيجرية.

وجود حكومة وحدة وطنية تمثل الإرادة الليبية يمكن هذا البلد من التعاطي مع الأزمة السودانية وأزمات جنوب الصحراء وفق مصالح مشتركة وتعاون فعال

ترتبط ليبيا عبر التاريخ الطويل بأمشاج وعلاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية مع دول المنطقة (السودان، تشاد، النيجر)، ويشكل التواصل الاجتماعي والمجموعات العرقية المشتركة جزءا منها، فضلا عن التأثير الليبي على مجريات الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في الدول خلال فترة حكم القذافي.

ولم يتراجع هذا الدور والتأثير الليبي كثيرا وإن اختلفت الأنماط والدوافع، فليبيا بعد ذهاب القذافي لديها مساران مختلفان تماما في التعامل مع السودان. وكمثال على ذلك، فالحكومة الليبية في طرابلس تحاول السيطرة على الأوضاع وبناء علاقات حسن جوار ولعب دور إيجابي في كل قضايا المنطقة، بينما مغامرات اللواء المتقاعد خليفة حفتر جعلته يتورط، ويسخر المناطق التي تحت سيطرته لدعم قوات الدعم السريع في السودان وتمرير العتاد العسكري والوقود والمساعدات الطبية إلى مقاتليها في الخرطوم ودارفور، وتوفير ملاذات آمنة للقيادات الفارة من الحرب وجرحى العمليات العسكرية.

لعل أهم ما يمكن قوله هو أن ليبيا موحدة وفاعلة، ووجود حكومة وحدة وطنية تمثل الإرادة الليبية يمكن هذا البلد من التعاطي مع الأزمة السودانية وأزمات جنوب الصحراء وفق مصالح مشتركة وتعاون فعال، بما يتوفر من خبرة تراكمت عبر سنوات طويلة من المساهمة في العمل الأفريقي المشترك والتواصل العربي الأفريقي.

توصيات بشأن الحل

من هنا، جاءت توصيات الورشة وبيانها الختامي عقب نقاشات مثمرة وبناءة تعبيرا عن هذه الروح التي سادت الحواريات فكانت هذه التوصيات:

  • الحرص على حلول تحقق الاستقرار وتقوي الإرادة السياسية في ليبيا والبلدان الثلاثة.
  • معالجة قضايا التهميش السياسي والاقتصادي واستيعاب طاقات الشباب وهم المقاتلون في الحروب الحالية، والاهتمام بدراسة التحولات الاجتماعية المتسارعة وأثرها العميق على دول المنطقة، مع الدراسات الاستشرافية لمستقبل الأوضاع الحالية واتجاهاتها.
  • رفض التدخلات الأجنبية التي لا تراعي المصالح العامة لشعوب المنطقة، وأن ما تقدمه المنظمات والهيئات الدولية ليس هو المتوقع، نظرا لحجم المقدم على أرض الواقع خاصة في المجال الإنساني.
  • السودان

أما الحلول المتعلقة بالسودان تتطلب الآتي:

  • في المقام الأول موقفا حازما للحفاظ على الكيان السوداني موحدا.
  • إحياء التضامن الوطني.
  • البحث عن الحلول الوطنية النابعة من الداخل السوداني التي يختارها السودانيون.
  • التحفظ على كثير من المبادرات الخارجية.

كما تم الاتفاق على ضرورة أن تلعب ليبيا دورا لخصوصية العلاقة مع السودان، وتفعيل اتفاقية التكامل الليبي السوداني وتجمع دول الساحل والصحراء، وأن تسعى ليبيا إلى أدوار مختلفة، منها الجانب الإغاثي والإنساني والعمل مع دول المنطقة في اتخاذ تدابير أمنية وعسكرية لمحاصرة العصابات والمرتزقة والمجموعات الإرهابية وبؤر النزاع وإمدادات السلاح.

  • كذلك أن تسعى ليبيا عبر المؤسسات الرسمية للدولة والمؤسسات الأهلية لتقريب وجهات نظر السودانيين مع بعضهم البعض، ووضع إستراتيجيات وسياسة ليبية تجاه السودان بفتح الممرات الإنسانية إلى السودان مباشرة أو عبر تشاد للنازحين في شرق تشاد ومناطق دارفور، واستضافة مؤتمر أهلي تشاوري للمكونات الكبيرة في السودان، والمشاركة الفاعلة لليبيا في كل المبادرات والمنابر المتعلقة بالقضية السودانية.
  • وأخيرا، التعاون مع الجهات الرسمية السودانية في قضايا العائلات اللاجئة، وتشكيل 4 لجان بشأن السودان تتولي الملفات الإنسانية والسياسية والاقتصادية والأمنية، مع الدعوة لعقد مؤتمر علمي حول التدخلات الدولية في الشأن السوداني ودول الجوار ومعرفة أبعاد هذه الأزمات ومعالجة آثارها.
  • تشاد

بجانب ذلك، دعت الورشة إلى تشكيل لجنة دائمة رفيعة المستوى لمتابعة تطورات الأوضاع في المنطقة وتأثيراتها، ومتابعة النشاط الإرهابي في المنطقة والمجموعات المسلحة، وتقديم المقترحات للجهات التنفيذية والتشريعية وأصحاب القرار الليبي، بجانب توصيات تتعلق بالوضع في تشاد والتنافس الدولي حولها وحول مواردها، وضرورة إيجاد آلية إشراف ومتابعة لتنفيذ اتفاق الدوحة وتشكيل لجنة مشتركة من أطراف ذلك  الاتفاق لتنفيذه، والدعوة لدعم الاستقرار في تشاد وإحلال السلام وتقريب وجهات النظر بين الأطراف، وإجراء تقييم استباقي للمشهد وتحديد اتجاهاته وتقليص الأضرار الناتجة عن هذه الأزمة.

  • النيجر

وفي موضوع النيجر، جاءت التوصيات حول التداعيات الأمنية والسياسية والإنسانية لأزمة النيجر على دول المنطقة مع الإشادة بالمبادرة الجزائرية ودعوتها للحل السياسي ورفض التدخل الخارجي والعودة للمسار السياسي والمحافظة على المكتسبات الديمقراطية. وضرورة التجهيز لإيجاد مناطق عازلة لاستقبال المهاجرين من النيجر وتشاد تمولها الحكومة الليبية، مع الدعوة للتنمية وبحث مشروعات استثمارية وتنموية مع المجتمع الدولي، وطرح حلول دبلوماسية سياسية من دول المنطقة وتحمل مسؤولياتها، خاصة نيجيريا والجزائر وليبيا ومالي وتشاد، والبحث عن حلول توافقية هدفها التنمية، خاصة في شمال النيجر، وإحياء الاتفاقيات الأمنية مع النيجر وتبادل المعلومات الاستخبارية ومكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود وتشكيل غرفة عمليات مشتركة.

  • الحوار لأجل الاستقرار

كانت الخلاصة البالغة التي وصلنا إليها هي التشديد على مكافحة التطرف والإرهاب، والعمل الفوري على مشاريع التكامل والتنمية بين دول المنطقة، وتفعيل تجمع دول الساحل والصحراء وتعزيز دوره في الإقليم، وتنظيم ملتقى يجمع ليبيا والسودان وتشاد والنيجر ومالي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية من أجل "الحوار لأجل الاستقرار والتنمية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.