سردية الغضب في أفلام سينما الضواحي الفرنسية

الفيلم الفرنسي "أثينا" الصورة من نتفليكس
مشهد من الفيلم الفرنسي "أثينا" (نتفليكس)

بوجه شاحب حزين، يخاطب عبدول -الضابط الفرنسي ذو الأصول الجزائرية- حشدا غفيرا من الصحفيين والأهالي، بعد مقتل أخيه أدير على يد شرطي فرنسي لم تتبين هويته. يطلب عبدول من الحاضرين التزام الهدوء في المسيرة الصامتة المقررة في اليوم التالي احتجاجا على حادثة القتل هذه، مضيفا أن الإدارة العامة للشرطة وعدت بإجراء تحقيق مكثف حول الأمر. وفور أن انتهى من كلامه، كان هناك في خلفية الحشد شباب صغار السن يشعلون زجاجة مولتوف سرعان ما قذفوها قرب الحشد، ليسود الهرج والمرج في الفيلم الفرنسي "أثينا" للمخرج الفرنسي رومان جافراس من إنتاج عام 2022.

يعدّ الفيلم نموذجا من ظاهرة سينمائية فرنسية تسمى أفلام الضواحي، تركز على مشاكل ومعاناة سكان الضواحي الفرنسية، وتدور أحداثه حول مقتل الشاب أدير على يد الشرطة، فيما ينتاب الغضب إخوته الذين يعمل أحدهم ضابطا في الجيش الفرنسي وتقلد أوسمة نظير عمله في مالي، والثاني زعيم مجتمعي، أما الثالث فهو تاجر مخدرات. وتقع أحداث الفيلم في حي يُعرف باسم "أثينا" موجود في إحدى الضواحي الفرنسية.

يمكن النظر إلى سينما الضواحي في فرنسا على أنها نافذة مهمة استطاعت أن تسبر بعمق واحدة من أعقد المشاكل الاجتماعية في فرنسا، ويحسب لها أنها تخطت كثيرا من الخطوط الحمر في المعالجة الفنية والقصصية

المثير أن الفيلم دق ناقوس خطر قادم وأحدث عند عرضه العام الماضي دويا في الصحافة الفرنسية، لدرجة أن مجلة لوبوان (Le Point) الفرنسية نشرت موضوعا عن الفيلم في أكتوبر/تشرين الأول 2022 الماضي، تحت عنوان "مدينة في طريقها إلى الاشتعال.. فرنسا على شفا حرب أهلية"، في إطار تقديم قراءة للفيلم الذي تبثه شبكة نتفليكس.

للفيلم الفرنسي "أثينا" الصورة من نتفليكس
الفيلم الفرنسي "أثينا" يعرض على منصة نتفليكس

وتم استدعاء الفيلم فور اندلاع أعمال الاحتجاجات والعنف في فرنسا حاليا، باعتباره تنبأ بما يحدث. ونشر عنه العديد من وسائل الإعلام وكيف أنه رسم صورة واقعية لما سيقع في فرنسا بعد أشهر، ووصل الأمر إلى استخدام بعض الصور من الفيلم على وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها صورا حقيقة إخبارية، مثل صورة استيلاء المحتجين على عربة للشرطة، وهي مأخوذة من الفيلم وليست حقيقية، لكنها انتشرت كالنار في الهشيم وشاهدها ما يربو على 9 ملايين مستخدم في منصة تويتر.

حالة الغضب المبثوث في هذا الفيلم هي جزء من حالة أوسع من الغضب الذي عبر عنه العديد من أفلام الضواحي الفرنسية التي لاقت رواجا وحصدت جوائز عديدة، من هذه الأفلام فيلم "الكراهية" (La Haine) للمخرج الفرنسي ماتيو كاسوفيتز، الذي أنتج عام 1995 ويعد أحد العلامات المهمة في هذا النوع من الأفلام، وقد حصد جائزة أحسن مخرج في مهرجان "كان" السينمائي الدولي الذي أقيم في العام نفسه. وهو يصور 24 ساعة من حياة ثلاثة أصدقاء، أحدهم يهودي والآخر من أصول أفريقية والثالث من أصول عربية مسلمة، يواجهون التمييز والعنصرية على يد الشرطة الفرنسية.

قدم الفيلم سردية بصرية جريئة ومميزة، لأنه صور المشاهد جميعا بالأبيض والأسود، كما استخدم صورا للقطات من الأخبار عن أعمال شغب اندلعت في إحدى الضواحي الفرنسية، وكان وقت عرضه أحد الصرخات السينمائية الكبرى للتحذير من تفاقم مشكلة سكان الضواحي وعلاقتهم مع السلطات، ولا يزال يُستدعى عند أية أعمال شغب تندلع في الضواحي، ومنها أعمال العنف الأخيرة.

خصائص سينما الضواحي

حجزت سينما الضواحي لنفسها مكانا مميزا في السينما الفرنسية، فلا يكاد يمرّ عام إلا ويظهر فيلم يتحدث عن إحدى مشاكل الضواحي الفرنسية. ويعزو النقاد هذه الظاهرة لعدة أسباب، منها: أن الضواحي الفرنسية في حد ذاتها بوتقة لصهر المتناقضات من ألم وأمل ومعاناة وطموح، وهي بذلك توفر قصصا لا تنتهي وتحتوي على مفارقات كبيرة مما يشكل مادة دسمة لأي فيلم سينمائي، ولا يحتاج المخرج أو المؤلف أن يُعمِل خياله كثيرا لنسج قصص درامية لمشروع فيلمه، لأن الواقع يفوق الخيال في قصص أهالي الضواحي.

ومن أسباب انتشار سينما الضواحي أيضا أن أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين قد استثمروا فرص الدعم السينمائي في فرنسا لتجسيد معاناتهم ومشاكلهم، مثل العنصرية والاندماج والتهميش، عبر أفلام تنضوي تلقائيا تحت هذا التصنيف. ومع ذلك فمن الناحية الفنية، لم تخرج سينما الضواحي بشكل عام عن خصائص السينما الفرنسية، مثل التعمق في الفرد والعامل النفسي. وبالتالي، فإن السردية المختلفة التي يقدمها هذا النوع من السينما هي قوة القصة والموضوع الذي يجسد كثيرا من أحداث الواقع.

اللافت للانتباه أن قصص أفلام الضواحي الفرنسية تدور في فلك الشخصيات السلبية والمضطربة أو ذات الطبيعة الإجرامية، وهذا يمكن فهمه إذا كان اختيارا حرًّا للمخرج بسبب ما تمليه طبيعة المعالجة، لكن الناقد السينمائي حميد العقبي يقدم قراءة مختلفة لهذا الأمر في كتابه "المهمشون والضواحي في السينما الفرنسية"، فهو يرى أن مثل هذه الموضوعات هي التي تجد رعاية وقبولا ودعما من قبل هيئات التمويل السينمائي الفرنسية حين يتعلق الأمر بفيلم عن الضواحي، ويضيف أن الأفلام العميقة الجادة والموضوعية التي لا تتبنى هذه السردية، لا تجد الدعم والتمويل ذاته، وعليها إما أن تخوض معركة إنتاجية صعبة للتمويل أو تُنفَّذ بإنتاج منخفض وسط ظروف صعبة.

يمكن النظر إلى سينما الضواحي على أنها نافذة مهمة استطاعت أن تسبر بعمق واحدة من أعقد المشاكل الاجتماعية في فرنسا، ويحسب لها أنها تخطت كثيرا من الخطوط الحمر في المعالجة الفنية والقصصية، وأتصور أنها قدمت نمطا جديدا ومختلفا من الواقعية السينمائية في السينما الفرنسية، تجنح كثيرا -وربما بشكل مبالغ فيه- نحو الواقع وتحدياته. ومن الملاحظات المهمة على هذه النوعية من الأفلام أنها لم تنحصر في إطار المخرجين ذوي الأصول المهاجرة، بل امتدت لكثير من المخرجين الفرنسيين، مما يجعلها ظاهرة سينمائية فرنسية خالصة ليست محصورة في مجتمع بعينه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.