السودان.. إلحاح الحاجة للمراجعات بعد المواجهات

الحلول المتعلقة بالسودان تتطلب في المقام الأول موقفا حازما للحفاظ على الكيان السوداني موحدا وإحياء التضامن الوطني (رويترز)
قوات الدعم السريع السودانية (رويترز)

تخبرنا التجارب الإنسانية، في السياسة والحكم كيف تتعامل القيادة السياسية مع اللحظة الإستراتيجية، وكيف تتفاعل القواعد مع هذه اللحظة نادرة الحدوث، فهي بوصلة إستراتيجية، أو "نموذج" ينعطف به الراهن إلى وجهة جديدة، وعادة ما تتطابق مع المقدمات الأساسية لمعايرة الخيارات المختلفة، التي تُتيح نفسها للفحص والفرز.

وهكذا، تميل القيادة إلى التغاضي عن المألوف من الافتراضات الفوقية والتصورات السابقة لتلك اللحظة، وتفضل القرارات الأقل تقليدية، التي تُبنى على الأسس المستجدة للرؤى الإستراتيجية، من خلال الجمع بين الموقف المشترك للقيادة، وتحليلات كل افتراضات التصورات النموذجية الأساسية للتقديرات المركزية، التي يربطها القرار بالمعتقدات والمبادئ والتوافق، الذي يتبناه ويُظهره الرأي العام. إذ إن كل فلسفة إستراتيجية تُشير إلى مجموعة من هذه المعتقدات أو الآراء العامة أو القواعد التنظيمية المتعلقة بطبيعة هذا التوافق. ويطبق القادة هذه المعتقدات والقيم والقواعد للمساعدة في اتخاذ قرارات سياسية توفر التوجيه والتماسك والرسالة والدافع لمتابعة الأهداف الإستراتيجية للدولة والمجتمع.

المواجهات

إن المعارك الدائرة الآن في السودان وتداعياتها الكارثية تخلق لحظة نادرة من اليقظة الوطنية والوضوح الإستراتيجي، وتضيف تجربة سياسية جديدة لما خبره السودانيون في ماضيهم القريب والبعيد، بعد أن أوجد تعنت المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير مصادر جديدة لعدم اليقين بشأن المسار المستقبلي للتوافق السياسي.

ومع ذلك، يجب أن تنتج انتصارات الجيش، بعد تكاملها، لحظة نادرة من الوضوح الإستراتيجي لشركائه في العملية السياسية، من المجتمع السياسي العريض الذي ظل مستبعدا في الفترة الماضية. ورغم ما يحدث على الأرض، في الوقت الراهن، لا يزال هناك مسار قابل للتفاوض على إدارة ما تبقى من الفترة الانتقالية، ليس بالضرورة وفقا لموجهات المساومات الماضية، أو ما عُرف بالاتفاق الإطاري، وإنما تراضٍ أشمل على توجه صادق نحو الانتخابات، لأن أية نتيجة أقل من مخرجات صناديق الاقتراع ستكون، على المدى الطويل، نتيجة أسوأ للاستقرار مما كان قائما قبل 15 أبريل/نيسان 2023.

لقد كان معظم النقاش السياسي، على المستوى الوطني، يتركز بين 3 معسكرات رئيسة، أولاها الجيش، بمعية الدعم السريع وقتئذٍ، وثانيها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، وثالثها الكتلة الديمقراطية التي تضم عضوية مسارات اتفاق جوبا للسلام، وآخرين.

وعلى الطرف الآخر من الطيف السياسي يوجد من فرض عليهم البقاء خارج المعادلة، ويمثلون ائتلافا واسعا من الوطنيين المناهضين للتدخلات الأجنبية، ويحتجون بأن المصالح الوطنية للسودان وسيادته صارت تكمن ببساطة في مكان آخر غير أيدي أبنائه، وأن قواعد نوع جديد من الاستعمار يجري تثبيتها عبر ترتيبات ومسميات مختلفة.

البحث عن رؤية

لا شك أن الإقصاء قد تجلى بوضوح عندما ظل غالب الشعب يصفون أنفسهم بأنهم صاروا خارج نِطاق العملية السياسية التي كانت جارية، وأن الدولة أضحت "أقل فعالية" في كل شأن تقرره، وكان على قيادة الجيش أن تجلس وتنتبه. فالتحدي أمامها كان يتمثل في قدرتها على صياغة رؤية مستقبلية مقنعة للمجتمع المحلي والإقليم والعالم. لذلك، يعد عدم وجود رؤية مستقبلية للدولة والمجتمع مشكلة حقيقية، وما كان يمكن التغلب عليها لولا المغامرة الحمقاء التي أدخل بعض الطامحين إلى الوصول السهل إلى السلطة الدعم السريع فيها.

فهل يواجه الجيش السوداني بعد التفاف كل الوطنيين حوله تحديا يتعلق بصياغة رؤية جديدة لدوره المستقبلي، أو تحديث المكونات التأسيسية لخططه الإستراتيجية الشاملة، التي تشمل الرؤية والرسالة والأهداف الوطنية، بالإضافة إلى الأهداف والمقاييس الإستراتيجية الأكثر تحديدا، التي تقوم عليها عقيدته القتالية؟

إن هذا الطيف البديل، الذي هو خارج المعادلة، يُعَدُّ الأكثر أهمية من الناحية السياسية، غير أنه ظل يقبع في مكان ما بين الفئة الأولى والثالثة. وظل يدين تهافت الناشطين على البعثات الأجنبية، وهمجيتهم في الموقف من القوى النظامية، بينما يثني في الوقت نفسه على شجاعة الجيش، ولا سيما قدرته على حراسة حدود البلاد في الشرق والغرب. ومع ذلك، حتى قبل التصعيد الأخير، لم يكن من الواضح ما إذا كان نهج هذا الطيف قد نجح في "عقد صفقة" قابلة للتصديق مع الفئتين الأولى والثالثة، ولم يتقرب مطلقا من الثانية، التي بادرته بالعداء المطلق منذ يوم ميلاد تَشَكُّلِه، بل ألصقت به كيل من التهم، ليس أقلها العلاقة بنظام الجبهة الإسلامية السابق.

لقد كان المؤيدون الأساسيون لمثل هذا النهج، أو الفرز الانتقائي، ولا يزالون، أجانب مع من يوالونهم من السودانيين، يتقدمهم بيرتس فولكر الألماني، الذي جاء بدعوة من رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، وبتفويض من مجلس الأمن، تؤازره لجنة ثلاثية تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيغاد، ورباعية ينشط فيه سفراء أميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات.

ولا يزال رصد الرأي العام يُشير إلى أن السودانيين يعارضون بأغلبية ساحقة أي نوع من التدخلات الأجنبية، حتى لو تدثرت بمسوح "أصدقاء السودان"، الذين لم ينتخبهم إلى هذه الصداقة أحد. وبالمثل، تُشير بينات كثيرة أن من "الأصدقاء" من يدعم القتال، الذي يحتدم في عاصمة البلاد وأطرافها، رغم أن من يحازبونهم يعانون الآن من انتكاسات كبيرة في ساحات المعارك، وأن التعبئة الشعبية الأوسع تجعل الأمر أكثر صعوبة عليهم في تحقيق حلم تفكيك الجيش السوداني لصالح مليشيات أدمنت الارتزاق.

علاوة على ذلك، تنشط هذه اللجان الثلاثية والرباعية في السعي لسلام يبقي على بعض استثمارها في الدعم السريع، وما قدمه من دعم لما فصلته من اتفاق إطاري على مقياس أقلية سياسية، هي المعسكر الثاني الإقصائي، أو المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير. وهذا أمرٌ أعلن الجيش رفضه القاطع له، لقناعته أنه حتى لو أدى السلام المتفاوض عليه إلى تجميد الصراع مؤقتا، فليس هناك ما يضمن بقاء الصراع مجمدا على المدى الطويل. فقد علمته تجارب الصراع المختلفة، أن هناك نزاعات "مجمدة" أخرى في السودان اشتعلت من جديد في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، ولا تزال تغذي عدم الاستقرار المستمر في البلاد.

متطلبات المستقبل

لهذا، ورغم الحماس المرتبط بالأطماع السياسية في تقرير مستقبل الحكم في السودان، فإن الواقع هو أن المرحلة المقبلة سيتعين فيها التعامل مع مصفوفة طويلة من التحديات كبيرة، التي تواجه الدولة والمجتمع، بعد انهيار كل ركام التجريب على مستوى الحكم والإدارة، وما ابتلي به الاقتصاد الكلي من ركود، إن لم نقل كساد أخرج البلاد بيانات النمو الإيجابية.

ولذلك، ينبغي أن تركز الدولة، بعد معالجة آثار الصراع، على اعتماد إطار أكثر تكاملا وشمولا لإدارة السياسة والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، مع التركيز على تحسين تعبئة الموارد المحلية، وتعزيز كفاءة الإنفاق، واستكشاف مصادر بديلة لتمويل العجز المالي بما يتفق مع استقرار الاقتصاد الكلي والنمو، وفوق ذلك مع مطلوبات استقلال القرار وحرمات السيادة.

ولهذا، تثبت الحرب ضد الدولة، التي تقودها مليشيا الدعم السريع، أن السودان معرض لخطر أكبر مما كان نشطاء السياسة يظنون منذ يوم من اندلاعها، وأصبحت كل أحلام السلطة على المحك. فقد ثبت للرأي العام، في السودان وغيره، أن الدول لا تُبنى بالهتاف والشعارات، ولكنها تتقدم بالتخطيط والمؤسسات، الذي ركيزته الأمن والاستقرار، والتوافق الواسع على الحد الأعلى، والذي هو رباط الوطنية، والأدنى وما يندرج فيه من محاصصات الوظيفة وسبل المعاش.

فالتاريخ يتسارع ويسرق فرص السودان مرة أخرى، لأن رشد السياسة يضعف مع كل دورة حكم جديدة. وجعلت هذه الأزمة الحاضرة الأمر أكثر وضوحا، إذ نحن نعيش في وضع شكلته سياسات الإقصاء والانتقام، خلال 4 سنوات من الخلاف، وترسيخ القابلية للاستضعاف.

وبالقطع، فإن هذا يعني أن دعوة الاستجابة لمطالب ضبط حدود السيادة الوطنية يجب أن تتسارع، إذ فعل النشطاء كل ما يمكن أن ينحط بأقدارها، وانتهكتها تدخلات الثلاثيات والرباعيات والسفارات وبعثة الاستعمار الأممي القابعة في حجر من ارتضوا لأنفسهم خسران البيع. فاللحظة الإستراتيجية تُلزِم باتخاذ ما يلزم من إجراءات سريعة لكسر العديد من "المحرمات" على طول الطريق للمعافاة من فوضى سنوات القحط العِجاف، وخطوات غير مسبوقة، بعد أن وجد الجيش دعما هائلا من الشعب، وتمكن من الانتصار السريع على تآمر النشطاء وتمرد الدعم السريع، واستعادة الشرعية لصالح الدولة والمجتمع.

في الختام

إن على قيادة الجيش الآن تحويل اليقظة السياسية للشعب السوداني، الذي تدافع لتأييده، إلى صحوة دائمة يتأسس عليها الموقف الإستراتيجي من كل التجاوزات التي شهدتها الفترة الماضية، لأن هناك الكثير مما ينبغي عمله، فإن جوهر رد الفعل بالنسبة للتمرد سيعين على توحيد قطاعات واسعة من المجتمع، الذي يمكن الدولة من استخدام النطاق الكامل لسياساتها ورافعاته كأدوات من القوة، فقد أظهر أفراد القوات المسلحة أنهم مستعدون لدفع ثمن باهظ للدفاع عن أمن وسلامة البلاد والعباد، وثمن الحرية من سلطان الغوغاء، ويجب أن تبني القيادة على هذا النهج في الفترة المقبلة، في شأن الترتيبات السياسية فحسب، ولكن في مجالات أخرى يقع على رأسها الاقتصاد ومعاش الناس.

لقد تحقق إجماع شعبي غير مسبوق على أهمية المؤسسة العسكرية، ويتعين على الجيش عدم تجاوز هذه "اللحظة" الإستراتيجية، أو لحظة اليقظة الوطنية ووضوح الرؤية السياسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.