(6) | كيف صاغ سيد قطب مفهوما جديدا للجهاد؟

الكاتب والمنظّر الإسلامي المصري مؤلف كتاب في ظلال القرآن "سيد قطب" (الجزيرة)

تناولت في المقال رقم 4 من هذه السلسلة، الفروق بين النسختين الأولى والثانية من كتاب "في ظلال القرآن"، وكنت أشرت هناك إلى أن موضوع الجهاد هو أحد أركان البنية الفكرية الجديدة التي أثمرها التغير المنهجي في التعامل مع النص القرآني عند سيد قطب رحمه الله تعالى.

وسيحلل هذا المقال الزيادات التي انطوت عليها النسخة الثانية من الظلال فيما يخص موضوع الجهاد؛ بقصد بيان طبيعة التحول المنهجي المشار إليه أولا، وبيان أبعاد التفسير السياسي (أو الحركي) للقرآن والدين عموما كما يبدو في أبرز صوره عند سيد ثانيا. وقد سبق إلى مثل هذا التفسير السياسي للدين أبو الأعلى المودودي الملهم البارز لسيد الثاني حتى إن أبا الحسن الندوي -رحمه الله تعالى- كان قد كتب نقدا لما سماه "التفسير السياسي للدين" عند المودودي. وقد تركتْ هذه الصياغة الجديدة التي قدمها سيد لمفهوم الجهاد، كبير الأثر على ما سمي "المشروع الجهادي" عند جماعات العنف فيما بعد، وهو ما سأُفرد له المقال القادم بإذن الله.

سأبدأ أولا ببيان بعض الفروق بين نسختي الظلال فيما يخص الجهاد، ثم أوضح أبعاد التفسير السياسي للدين عند سيد ثانيا، ثم كيف صاغ مفهوم الجهاد بالاستناد إلى تفسيره الجديد للإسلام ثالثا، وسأختم بعد ذلك بسمات المشروع الحركي التي تُظهرها مراحل الجهاد وفق المنظور القطبي.

أولا: زيادات النسخة الثانية

تُظهر المقارنة بين سورتي البقرة والأنفال من نسختي الظلال، فروقا بارزة فيما يتصل بموضوع الجهاد على وجه الخصوص؛ فالآية 190 من سورة البقرة التي تقول (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا…) كانت أول مناسبة يتعرض فيها سيد لموضوع الجهاد في النسخة الثانية؛ فقد أضاف صفحات عن القتال والجهاد (1: 184-192 طبعة الشروق). قال في أولها "ولعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام تصلح أساسا لتفسير آيات القتال هنا وفي المواضع القرآنية الأخرى" (1: 186 طبعة الشروق).

أما سورة الأنفال فقد أضاف إليها في النسخة الثانية مقدمة طويلة جدّا (3: 1429-1469)؛ لأنه رأى فيها خصوصية يمكن أن نلخصها -من كلام سيد المتفرق- في 3 أمور:

الأول: أن السورة حلقة من حلقات الجهاد في الإسلام (3: 1431)؛ ففيها يبرز خطان: خط العقيدة، وخط الجهاد وبيان قيمته الإيمانية والحركية، ومبرراته الذاتية العليا التي ينطلق بها المجاهدون في ثقة وطمأنينة واستعلاء إلى آخر الزمان (3: 1466). وههنا كرر سيد مرات وبالعبارات نفسها حملته على من وصفهم بالمهزومين روحيّا وفكريّا أمام "الاستشراق الماكر" ممن صوروا الجهاد مجرد حركة دفاعية.

الثاني: أن سورة الأنفال تنظم ارتباطات الجماعة المسلمة على أساس العقيدة وبيان الأحكام التي تتعامل بها مع غيرها من الجماعات الأخرى في الحرب والسلم.

الثالث: أن السورة تقدم طرفا من منهج القرآن في تربية الجماعة المسلمة، وإعدادها لقيادة البشرية، كما تقدم جانبا من نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما يجري على الأرض وفي حياة البشر (3: 1468).

يقول سيد إن "الشعائر التعبدية" مجرد "صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون؛ صورة لا تستغرق مدلول العبادة، بل إنها تجيء بالتبعية لا بالإصالة" وإن هذا التفسير السياسي للعبادة هو نفسه رسالة الأنبياء؛ إذ "لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل

ثانيا: التفسير السياسي للدين

بعد التأثر الكبير بالمودودي، وخاصة في رسالتيه "المصطلحات الأربعة في القرآن"، و"الجهاد في سبيل الله"، أعاد سيد -في نسخته الثانية من الظلال- صياغة مفاهيم الدين والإيمان والإسلام والجهاد وفق منظور سياسي (أو حركي) أساسُه الحاكمية السياسية والقانونية. فالدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة وهو أشمل من العقيدة عند سيد، والإيمان ليس مجرد "مشاعر وتصورات"، والإسلام "ليس مجرد عقيدة" و"لا كلمات وشعارات" ولا "مجرد شعائر تعبدية وصلوات"، وإنما هو "نظام شامل" يجمع بين 3 مكونات يمكن أن نرصدها من كلام سيد المتكرر والمتفرق وهي:

  • الأول: المنهج التنظيمي والحركي الذي يزحف لتحرير كل الناس.
  • الثاني: الانقلاب الثوري الذي يجب أن يحدث في المجتمع وعلى المستوى العالمي، ويهدف إلى "إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان".
  • الثالث: النظام الذي يحكم.

وتتكرر هذه المكونات الثلاثة -التي يمكن تلخيصها بـ3 كلمات هي: التنظيم والثورة والنظام– في كلام سيد، حتى إنه يتفنن في التعبير عنها، وإليك بعض تعبيراته: الإسلام "تجمع تنظيمي حركي"، و"نظام يحكم، ومنهج يتحكم، وقيادة تطاع، ووضع يستند إلى نظام معين، ومنهج معين، وقيادة معينة"، و"إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ومن العبودية لهواه"، وهو "الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور"، وهو -وفق ما نقل عن المودودي- "دعوة إلى انقلاب عالمي شامل"، و"دعوة إلى انقلاب اجتماعي"، و"نظام شامل يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم ويقطع دابرها ويستبدل بها نظاما صالحا ومنهاجا معتدلا".

هذا المفهوم السياسي للدين ليس مفهوما نظريّا عند سيد؛ لأننا سنجد تطبيقاته في 3 مسائل على الأقل، وهي: إعادة تحديد موقع الشعائر الدينية من الإسلام، وتقويم واقع الإسلام والمسلمين، وتحديد موقع التنظيمات من الدين.

ففيما يخص الشعائر الدينية، نجد أن هذا المفهوم الجديد للدين وللحاكمية قاد سيدا إلى تقليص مكانة الشعائر التعبدية في الرسالات السماوية، بل إنه يعطيها مكانة ثانوية أو تبعية على عكس كل التفاسير القديمة للعلماء التي تجعل الهدف من خلق الإنسان هو العبادة بمعناها الديني غير السياسي. ومن مجموع كلام سيد في هذه النقطة نجد أنه يجعل "الشعائر التعبدية" مجرد "صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون؛ صورة لا تستغرق مدلول العبادة، بل إنها تجيء بالتبعية لا بالإصالة" (4: 1938)، وأن هذا التفسير السياسي للعبادة هو نفسه رسالة الأنبياء؛ إذ "لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل".

فالجهاد عند سيد قطب "كلمة جامعة تشتمل جميع أنواع السعي وبذل الجهد"، ليَدخل في أصناف الجهاد 3 صور، الأولى "تغيير وجهات أنظار الناس وتبديل ميولهم ونزعاتهم، وإحداث انقلاب عقلي وفكري بواسطة مرهفات الأقلام"، والثانية "القضاء على نظم الحياة العتيقة الجائرة بحد السيوف، وتأسيس نظام جديد على قواعد العدل والنصفة"، والثالثة بذل الأموال وتحمل المشاق، ومكابدة الشدائد

فالذي استحق كل هذا الثمن الباهظ "هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء" (4: 1903). ولهذا يخلص سيد في كتاب "الإسلام ومعركة الرأسمالية" في سياق بيان مكانة العمل ونبذ التبطل إلى القول إن "العبادة ليست وظيفة حياة"، ويستنكر على من لا عمل له إلا إقامة الصلوات في المساجد (ص52)، وذلك أن سيدا يعطي الأولوية للفكرة السياسية والحركية على فكرة التعبد، الأمر الذي قاده إلى فكرة أولوية العمل على العبادة، وأنها ليست وظيفة بالمفهوم الحديث للعمل الذي يقود إلى الإنتاج. يوضح ذلك قول سيد إن الإسلام "إنما هو إلى جانب هذا وذلك"، بل "وقبل هذا وذلك، نظام يحكم، ومنهج يتحكم، وقيادة تطاع، ووضع يستند إلى نظام معين ومنهج معين وقيادة معينة".

وفيما يخص تقويم واقع الإسلام والمسلمين (أو مقتضيات المفهوم الجديد للإسلام)، كان من الطبيعي أن يخلص سيد -في مواضع عديدة- إلى الجزم بغياب الإسلام عن الوجود؛ لأن مفهوم سيد للإسلام مفهوم جديد ومثاليّ. يقول مثلا "وبغير هذا كله لا يكون إيمان، ولا يكون إسلام، ولا يكون مجتمع ينسب نفسه إلى الإسلام"، وكرر فكرة غياب الإسلام في فصل "حاضر الإسلام ومستقبله" من كتاب "العدالة الاجتماعية"، وهو يدرك جيدا تبعات مثل هذا الحكم ويصرح بها دون مواربة. يقول "ويجب أن نقرِّر هذه الحقيقة الأليمة، وأن نجهر بها، وألَّا نخشى خيبة الأمل التي تُحدِثُها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا مسلمين" (ص 182).

وفيما يخص موقع التنظيمات من الدين، فإن المفهوم الجديد للإسلام بمكوناته الثلاثة السابقة، قاد سيدا إلى اعتبار التنظيمات من مقتضيات الإيمان نفسه، فالتنظيمات الاجتماعية كلها كالشعائر التعبدية "مرتكنة إلى هذا الأصل الكبير" أي المفهوم الجديد للإسلام كما سبق بيانه؛ فهي "ليست مجرد تنظيمات وتشريعات؛ إنما هي مقتضى الإيمان بالله والاعتراف بألوهيته" (1: 562). ومن الواضح هنا أن سيدا يستلهم فكرة الشمولية التي قررها المودودي من قبل، والتي تشاكل الأيديولوجيا الشيوعية في تصورها للدولة والمجتمع.

ثالثا: كيف أسست طبيعة الدين لمفهوم الجهاد عند قطب؟

قاد التفسير السياسي للدين (وأساسه مفهوما الحاكمية والشمولية) إلى إعادة بناء مفاهيم وتصورات جديدة تتصل بالجهاد والجماعة والفتنة وغيرها؛ خصوصا أن المودودي سبق إلى فكرة إعادة بناء المفاهيم والمصطلحات القرآنية وفق منهجه في التفسير السياسي للدين. فالجهاد -وسيد ينقل هنا عن المودودي- عبارة عن الكفاح الانقلابي والحركة الدائبة المستمرة التي يُقام بها من أجل الوصول إلى هذه الغاية وإدراك هذا المبتغى الذي سبق تحديده في المفهوم الجديد للإسلام (3: 1444).

هنا حافظَ سيد على المفهوم اللغوي العام للجهاد؛ لأنه أوفق لتصوره للكفاح الانقلابي والحركة الدائبة، فالجهاد عند سيد قطب "كلمة جامعة تشتمل جميع أنواع السعي وبذل الجهد"، ليَدخل في أصناف الجهاد 3 صور، الأولى "تغيير وجهات أنظار الناس وتبديل ميولهم ونزعاتهم، وإحداث انقلاب عقلي وفكري بواسطة مرهفات الأقلام"، والثانية "القضاء على نظم الحياة العتيقة الجائرة بحد السيوف، وتأسيس نظام جديد على قواعد العدل والنصفة"، والثالثة بذل الأموال وتحمل المشاق، ومكابدة الشدائد (3: 1447).

إذن فالجهاد إنما هو "لتقرير المنهج وإقامة النظام" الذي هو -في محصلة الأمر- الإسلام بمفهومه القطبي السابق؛ فمن يدرك طبيعة هذا الدين -الذي هو ثورة وانقلاب- "يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية بالمعنى الضيق". فالعقيدة الإسلامية -وفق سيد- هي قاعدة الحياة البشرية، ومنهاج عام لها جميعا، وهي التي ستمكن الأمة المسلمة من قيادة البشرية في طريق الله وفق هذا المنهج المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله التي هي العبادة بمعناها السياسي كما سبق. وهذه العقيدة السياسية القائدة ترتب 3 حقوق للبشرية هي:

  • الأول: أن تَبلغ البشريةَ الدعوةُ إلى المنهج الإلهي الشامل، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال.
  • الثاني: أن يُترك الناس -بعد وصول الدعوة- أحرارا في اعتناق هذا الدين؛ لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة.
  • الثالث: إذا اعتنق هذه الدعوة من هداهم الله إليها، كان من حقهم ألا يُفتنوا عنها بأي وسيلة: لا بالأذى ولا بالإغراء، ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة.

وعن هذه الحقوق الثلاثة ينشأ واجبان على "الجماعة المسلمة" بمنظور قطب:

  • الأول: أن تدفع الجماعة عنهم -بالقوة- من يتعرض لهم بالأذى والفتنة؛ ضمانا لحرية العقيدة، وكفالة لأمن المهتدين، وإقرارا لمنهج الله في الحياة، وحماية للبشرية من الحرمان من الخير العام.
  • الثاني: أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها، وأنّ التجمعات (الأنظمة) التي لا تمكّن الإسلامَ من تنظيم حياة رعاياها وفق التصور القطبي "يتحتم على الإسلام" أن يزيلها "بوصفها معوقات للتحرر العام". فـ"الجماعة المسلمة مكلفة أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة"، وحتى تصبح الفتنة غير ممكنة لقوةٍ في الأرض.

إذن يتأسس هذا التصور القطبي على مفهوم سياسي للدين تندمج فيه مفاهيم الثورة والانقلاب، حيث يحوله سيد إلى مشروع راديكالي لتغيير العالم، ويربط فيه بين طبيعة هذا الدين السياسي وبين بواعث الجهاد وأهدافه، ولذا كان من الطبيعي أن يتسع مفهوم الجهاد لدى سيد، وأن يصبح كفاحا انقلابيّا دائما، سواءٌ بالمعنى السياسي أم بالمعنى الاجتماعي، وسواء بالقوة أم بالبيان؛ إذ لا غنى لأحدهما عن الآخر لديه.

هنا نجد أن مفهومي الدين والحاكمية سيحددان مفهوم سيد للجماعة المسلمة أيضا؛ لأنه جزم بانقطاع وجود الإسلام اليوم، كما أنه وسّع مفهوم "الفتنة عن الدين" الذي يستوجب الجهاد القتالي وإزالة الأنظمة الظالمة بسببه؛ ليشمل -عمليّا- حاضر العالم الإسلامي الذي انقطع فيه الإسلام وسادت فيه الجاهلية وفق منظور سيد.

ومن صور الفتنة عن الدين لدى سيد: "إقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله وتزين لهم الكفر به أو الإعراض عنه" (1: 189)، وأن يُصرف الناس عن الدين "بالقوة أو ما يشبهها؛ كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام" (1: 190). وسعة مفهوم الفتنة عن الدين عند سيد، تتردد بصيغ مختلفة، منها تلك العبارات العامة والشاملة كاشتراطه ألا تقف في وجه الدعوة "عقبة أو سلطة (…) بأي حال من الأحوال"، وألا يُفتن الناس عن الدعوة "بأي وسيلة: لا بالأذى ولا بالإغراء، ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة".

وهكذا نجد أننا جميعا نعيش في زمن الفتنة عن الدين؛ لأن مفهوم سيد لكل من الدين والفتنة يشمل ذلك كله، ويترتب على هذا أن نكون في جهاد دائم؛ إذ إن سيدا رتب واجبات على "الجماعة المسلمة" تقود إلى مثل هذا الجهاد الدائم واستعمال القوة؛ رغم أن سيدا لا يسوغ إكراه الناس على الإيمان.

ويتأكد هذا التوسع في تنزيل سيد للمعاني السابقة على واقعنا، من خلال نصوص مختلفة، منها قوله "النص عام الدلالة مستمر التوجيه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة؛ ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله والاستجابة لها عند الاقتناع"، ومن ثم فإن "الجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة وتطلق الناس أحرارا من قهرها"، و"على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم وأن تقتلهم حيث وجدتهم"، بل إن "كل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور، وفي أي شكل من الأشكال مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل، وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام" أي منع الفتنة (1: 190-191).

ومن المهم أن سيدا يستخلص من "مراحل الجهاد في الإسلام" ما يسميه "سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين"، والتي تنطبق على الأمس واليوم والغد، وتتلخص في 4 سمات:

  • الواقعية الجدية في منهج هذا الدين: فالدين حركة تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم على أنظمة واقعية تسندها سلطات، ومن ثم فإن المطلوب من الحركة الإسلامية أن تواجه هذا الواقع بأمرين: الدعوة لتصحيح التصورات، "والقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها" (3: 1432).
  • الواقعية الحركية: فالجهاد هنا حركة ذات مراحل، كل مرحلة مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، ولذلك ينتقد سيد من يصفهم بالمهزومين روحيا وعقليا ممن يجعلون الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع، في حين أن منهجه "إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده (…) بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها".
  • الحركة الدائبة والوسائل المتجددة: لتحقيق هدف الدين وهو إخلاص العبودية لله؛ بالمعنى السياسي للعبودية كما سبق.
  • الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى: وهو ضبط يقوم على أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه.

كان سيد قد اكتفى -في النسخة الأولى من الظلال- بتعليق موجز جدّا على الآية 190 من البقرة، ومقدمة موجزة لسورة الأنفال تغيب عنها هذه الرؤية الجديدة للجهاد وذلك التفسير السياسي للدين. ففي النسخة الأولى قرر أن غاية القتال هي "ضمانة ألا يُفتن المسلمون عن دينهم، وأن يُعز دين الله وينتصر ويمتنع على الأذى والفتنة"، أي أنه لم يوسع مفهوم الفتنة كما فعل فيما بعد، كما أن الحرب في الإسلام -عند سيد الأول- هي "حرب للدفاع عن حرية العقيدة وعن كرامة المعتقدين"، وليست حربا على العالم أجمع ليقبل بحاكمية الإسلام (الظلال، طبعة دار جسور 1: 151-152). ولكن سيدا الثاني جعل غاية الجهاد "هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها"، ورأى أنه "لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الإسلامي عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادها التي يسكنونها. أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل المحيط بجميع أنحاء الأرض" (3: 1431-1451).

ولعله من المفيد أن أختم هذا المقال بذكر أن "الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية"، كان قد نشر سنة 1969 رسالة تحت عنوان "الجهاد في سبيل الله" لكل من المودودي وحسن البنا وسيد قطب. وكلام قطب فيها مقتبس من مقدمة سيد لسورة الأنفال من النسخة الثانية من الظلال، وكان الاتحاد قد ترجم هذه الرسالة إلى بعض اللغات كالتركية، ثم نشرت الرسالةَ نفسها "دارُ الجهاد" التابعة للجماعة الإسلامية في القاهرة سنة 1977. وكان سيد قد نقل في مقدمته الطويلة لسورة الأنفال نحو 9 صفحات (الظلال 1444-1452) من رسالة المودودي الذي دأب على وصفه بـ"المسلم العظيم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.