مهارات القيادة وقراءة كيسنجر للسادات

هنري كيسنجر (يسار) يلتقي الرئيس المصري أنور السادات عام 1973 خلال زيارة للقاهرة (الفرنسية)

5 أشهر تفصل بين هنري كيسنجر وعامه الـ100، إذ ولد في 27 مايو/أيار 1923 في مقاطعة بافاريا لعائلة من اليهود الألمان. ويبدو أن كيسنجر لم يفقد بعد قدرته على التركيز والتفكير الإستراتيجي والسعي إلى إيجاد حلول عملية للقضايا الصعبة، وهو ما يميزه عن غيره من مُنظري السياسة الخارجية والممارسين من أبناء جيله والأجيال اللاحقة من الحكام والبيروقراطيين.

وتختلف الآراء حول كيسنجر بصورة كبيرة وحادة؛ إذ يراه البعض عبقريا دافع بشدة عما عدّه "واقعية كيسنجرية" من خلال رؤية حقيقية للحدث بعيدا عن العواطف والأبعاد الإنسانية أو الأخلاقية. وعلى النقيض يمقته كثيرون لتجاهله الموت والدمار والخراب الذي نتج في كثير من الأحيان بسبب واقعية كيسنجر.

ووصف المفكر البريطاني الراحل كريستوفر هيتشنز ذات مرة هنري كيسنجر بأنه "كاذب هائل يتمتع بذاكرة رائعة". وقد يكون ذلك الحكم دقيقا في كثير من الأحداث التاريخية التي شارك فيها أو أسهم في وقوعها أو إنهائها، إلا أن الأمر يختلف عندما يتحدث كيسنجر عن قادة وزعماء عرفهم وتقرب منهم، وتبادل معهم الحديث ليس لساعات أو أيام فقط، بل لأسابيع وسنوات في بعض الحالات.

ويزعج كيسنجر ندرة وجود قيادات من الوزن الثقيل في عالم السياسة الدولية المعاصرة. من هنا جاء كتابه الأخير "القيادة: ست دراسات في الإستراتيجية العالمية" متضمنا عرضا لعلاقاته وقراءته إلى 6 قادة هم: كونراد أديناور في ألمانيا، وشارل ديغول في فرنسا، وريتشارد نيكسون في أميركا، وأنور السادات في مصر، ومارغريت تاتشر في بريطانيا، ولي كوان يو في سنغافورة) الذين يعدّهم نجحوا في تحقيق أشياء عظيمة داخل أو خارج دولهم. ويخشى كيسنجر أن تتلاشى الظروف الاستثنائية التي مكنت هؤلاء القادة من الظهور.

كيسنجر قال "تصورنا أن السادات غبي، ولا يمكن له القيام بشيء ذي قيمة، ولم يكن كذلك". وأضاف "أن الجمع بين الشخصية والظروف هو الذي يصنع التاريخ، وكان من حسن حظي أن أقابل القادة الستة في ذروة نفوذهم"

ويشير الكتاب إلى أن القادة الستة الذين تناولهم كيسنجر ولدوا جميعا خارج النخبة الاجتماعية، وكانوا أطفالا من الطبقة الوسطى من عائلات عادية، أعطتهم هذه الخلفية القدرة على فهم كيف يرى مواطنو دولهم العالم. وتم اختيار هؤلاء الزعماء في مؤسسات تعليمية تعتمد بصورة كبيرة على الجدارة، وتلقوا تعليما منضبطا ومتطلبا أعدهم نفسيا وفكريا وثقافيا للعمل بفعالية لاحقا في عالم السياسة.

ويؤمن كيسنجر بأن حاجة البشرية إلى قيادة عظيمة الآن أصبحت أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، بل يرى أن غياب القيادات المميزة، هو ما دفع إلى ما وصلت إليه البشرية من اضطرابات وأزمات. ويخشى أن تتعرض الحضارة للخطر نتيجة لذلك. ويجب على القادة العظماء سد الفجوة بين الرأي العام في بلدانهم والتنازلات التي لا يمكن فصلها عن الدبلوماسية الدولية. ويتعين عليهم أن يروا العالم بوضوح كاف لفهم ما هو ممكن ومستدام، ولا بد أن يكونوا قادرين على إقناع مواطنيهم بقبول النتائج التي تكون مخيبة للآمال في كثير من الأحيان.

يأتي الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بين هؤلاء الزعماء الذين تحدث وتعامل وكتب كيسنجر عنهم كثيرا، ورأى كيسنجر أن حرب 1967 شكلت تفكير السادات السياسي، وجعلته يرى مبكرا أنه لا أمل في الاعتماد على الاتحاد السوفياتي لنصرة الجانب المصري والعربي في صراع الشرق الأوسط. ويرى كيسنجر أن السادات تحرك خارج الصندوق فيما كان متعارفا عليه عند العقل الجمعي العربي تجاه الصراع التاريخي مع إسرائيل.

حاول كيسنجر خلال مفاوضات ما بعد حرب 1973 حفظ سلامة الدولة اليهودية وأمنها، في وقت عدّ فيه القادة الإسرائيليون وجوده في دائرة صنع القرار الأميركي كفيلا بحماية مصالحهم لأنه يهودي، أما السادات فاعتقد أن يهودية كيسنجر كفيلة بدفع إسرائيل إلى قبول تنازلات كبيرة.

أجرى كيسنجر مفاوضات طويلة وشاقة مع رئيس مصر السابق، ونجح في النهاية في دفع السادات إلى قبول حلول تردد مبدئيا في قبولها. ودفع ذلك مارتن إنديك (السياسي المحنك والمسؤول السابق في عدة إدارات أميركية عن ملفات عملية السلام) إلى أن يطلق على كيسنجر لقب "سيد اللعبة"، وهو عنوان كتابه المهم عن إدارة كيسنجر مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية قبل وأثناء وبعد حرب 1973.

بالفعل نجح كيسنجر في التوصل إلى 3 اتفاقيات: اثنتين بين مصر وإسرائيل، وواحدة بين إسرائيل وسوريا. ويُفصل كتاب إنديك ما عده كيسنجر مناورة ومبادرة جادة قام بها الرئيس السادات، ولم تلتفت إليها واشنطن إلا متأخرًا، فقد أرسل مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل إلى واشنطن في فبراير/شباط 1973 حاملا مبادرة للسلام.

قابل كيسنجر إسماعيل واستمع إليه، وأجل الرد من دون جدية ومن دون استعجال رغم تأكيد إسماعيل ذلك.

عرض كيسنجر الفكرة على نيكسون، ثم ناقش الأمر مع السفير الإسرائيلي لدى واشنطن إسحاق بيريز، الذي قلل من أهميتها ورفضها، كما فعلت غولدا مائير التي قضت على المبادرة، وقالت "انسوها".

وتعهد كيسنجر بالعودة للمبادرة بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية التي كانت مقررة في ديسمبر/كانون الأول 1973، لكن السادات ذهب إلى الحرب في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.

وقبل ذلك، فاجأ الرئيس المصري العالم بقرار طرد 20 ألفا من الخبراء السوفيات من مصر في 18 يوليو/تموز 1972، وكان رد الفعل الأميركي دليلا كافيا للتعرف على أهمية هذه الخطوة وخطورتها، فقد قال كيسنجر "لو اتصل الرئيس السادات تليفونيا بواشنطن وطلب أي شيء قبل طرد الخبراء من مصر لكان حصل على ما أراد، إلا أنه قدم هذا العمل الجليل لنا مجانا".

ولكن الكتاب يشير إلى أن السادات اعتمد على حسابات مختلفة، ورأى أن التخلص من الخبراء كفيل بتحريره من عبء موافقة الاتحاد السوفياتي على أي عمل عسكري في المستقبل.

وقال كيسنجر "تصورنا أن السادات غبي، ولا يمكن له القيام بشيء ذي قيمة، ولم يكن كذلك"، وأضاف "إن الجمع بين الشخصية والظروف هو الذي يصنع التاريخ، وكان من حسن حظي أن أقابل القادة الستة في ذروة نفوذهم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.