كيف تستخدم الدول الاتصال لبناء نظامها الدبلوماسي؟

رؤساء أميركيون سابقون (من اليمين) بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما (وكالات)

‏هناك علاقة قوية بين الاتصال والدبلوماسية، ‏فبدون ‏الاتصال لا يمكن أن تحقق الدولة أهداف سياستها الخارجية، ‏لذلك ظهرت تعريفات جديدة للدبلوماسية؛ من أهمها أنها عملية منظمة للاتصال بين الدول والمنظمات العالمية.

‏وهناك تشبيه للاتصال في العمل الدبلوماسي بأنه الدم الذي يسري في جسد الإنسان، ‏فعندما يتوقف الاتصال فإن الدبلوماسية تموت، ‏ويصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة لإدارة الصراع بين الدول، فكل عمليات المفاوضات بين الدول المستقلة تقوم على الاتصال، ‏حيث ترسل الدول الرسائل التي يتم تحليلها وتفسيرها لاكتشاف أهداف الأطراف المختلفة في عملية التفاوض، ‏وإمكانيات التوصل إلى حلول وسط.

‏الاتصال الدبلوماسي

تطور علم الاتصال الدبلوماسي ليفتح آفاقا ‏جديدة في عملية تحليل الرموز والمعاني في الرسائل التي توجهها الدول، ‏وفهم الإشارات التي يتضمنها سلوك القادة وخطابهم، ‏وتعمل الدول على تطوير المهارات اللغوية لممثليها، ‏بحيث يفهمون ‏دلالات الكلمات ومعانيها وكيفية استخدامها في التعبير لتحقيق أهداف الدولة.

كيف تطورت اللغة الدبلوماسية؟

‏تطورت اللغة الدبلوماسية بالشكل الذي يجعل استخدام الكلمات يحدث بوعي شديد جدا لدلالتها السياسية واللغوية، وتُفهم ‏في ضوء معانيها الاجتماعية ‏والثقافية، وتجنب الكلمات التي يمكن أن تؤدي إلى سوء الفهم، ‏فقادة ‏الدول وممثليها يحتاجون دائما إلى تنمية الحس اللغوي لاختيار الكلمات وبناء الخطاب الدبلوماسي.

‏لذلك أصبح من أهم مؤهلات الدبلوماسيين وقادة الدول وممثليها استخدام الكلمات بشكل محدد يمكن أن تفهمه الأطراف الأخرى بوضوح، ‏فاللغة الدبلوماسية تقوم على الاتصال ‏بين الثقافات مع العمل على تقليل احتمالات سوء الفهم.

ولا يقل الاتصال غير اللفظي مثل حركات الجسد والإشارات أهمية عن الاتصال اللفظي، فغير اللفظي أيضا من أهم أسس اللغة الدبلوماسية وأدواتها، ‏ويحمل الكثير من المعاني والدلالات، ‏وكل حركة يمكن أن يتم تفسيرها والبناء عليها، ‏حركة واحدة قد تساهم في بناء العلاقات بين الدولتين، وفي أحيانٍ أخرى قد تؤدي إلى قطع العلاقات بينهما.

‏كيف يمكن أن يستخدم الدبلوماسي "الغموض البنّاء"؟

‏بالرغم من الحاجة إلى الوضوح في الرسائل السياسية، إلا أنه في بعض الأحيان يلجأ الدبلوماسيون وقادة الدول إلى إرسال إشارات غامضة يمكن تفسيرها بأكثر من أسلوب ‏ولذلك ابتكر هنري كيسنجر مفهوم "الغموض البنّاء".

‏وهو يعني استخدام اللغة والإشارات بحيث تسمح للأطراف المتصارعة بأن تقوم بتفسيرها بطرق مختلفة، ‏وتفتح المجال لخيارات متعددة، ‏كما حدث خلال زيارة نيكسون للصين، ‏والتي سبقها قيام كيسنجر ‏بإرسال إشارات غامضة حول إمكانية تحسين العلاقات بين أميركا والصين عام 1973.

وأصبح بعد ذلك هذا المبدأ طابعا غالبا لسياسات أميركا الخارجية إلا في حالات قليلة رغبت أميركا فيها في تبني سياسات واضحة. فالغموض البنّاء يسمح للطرف الأقوى فرض تفسيره على الطرف الأضعف كما فعلت إسرائيل مع الفلسطينيين خلال وبعد أوسلو. فالاتفاقيات كانت في معظمها غامضة وتتلوها نصوص تنص "صراحة" على ترك تفسيرها للمتفاوضين. ولذا استمرت المباحثات لعقدين من الزمن دونما أية نتيجة ملموسة، ثم نقل الرئيس ترامب سفارته إلى القدس لأن نصوص أوسلو تتكلم فقط عن "تحقيق تطلعات الفلسطينيين تجاه القدس"، ولم تنص على كونها عاصمة للدولة الفلسطينية كما أعلنت السلطة ذلك للشعب الفلسطيني.

ومن الأمثلة الواضحة أيضا على ذلك، ما قام به "اللورد كارادون"، الذي صاغ اتفاق وقف إطلاق النار المبهم بعد هزيمة الدول العربية في عام 1967، وأورد في نص الاتفاق في نسخته الإنجليزية الانسحاب "من أراض محتلة بعد الحرب"، وهو ما تمسك به الإسرائيليون، ونص في نسخته الفرنسية على الانسحاب من "الأراضي المحتلة"، النسخة التي تمسك بها العرب. كما نص الاتفاق في أجزاء منه على العودة إلى حدود "أراض مما قبل الحرب"، ولم يحدد هذه الحدود، ولا يزال تفسير هذا القرار محل نزاع حتى يومنا هذا وربما حتى تقوم الساعة. اللورد كارادون ممثل الأمم المتحدة في هذا النزاع قال فيما بعد إنه لم يكن يتصور أن تعود إسرائيل لحدودها السابقة لقيام الحرب، وأنها -أي إسرائيل- تحتاج لحدود آمنة تحددها ضروراتها الأمنية، ولذا تمت صياغة القرار على ذلك النحو.

‏لكن هناك الكثير من الحالات التي لم يكن فيها الغموض إيجابيا، ‏بل أدى إلى ضياع الفرص لتحسين العلاقات، ‏حيث يتم قراءة الرسالة بطريقة خاطئة خاصة في الصراع بين الدول، ‏ويعتبر تفسير صدام حسين لحديث السفير الأميركي بأن الولايات المتحدة لن تتدخل في حالة غزوه للكويت؛ حالة شاهدة على خطورة الغموض في الرسائل، ‏وأهمية الوضوح في الاتصال الدبلوماسي.

مجلة "فورين بوليسي" (Foreign Policy) الأميركية تناولت المقابلة المشهورة بين الرئيس العراقي صدام حسين والسفيرة الأميركية أبريل غلاسبي، مشيرة إلى أن السفيرة أوضحت للرئيس العراقي بأنها لا تملك رأيا في خلاف العراق الحدودي مع الكويت، وهو ما جعل البعض ينحون باللائمة على كلام السفيرة الأميركية في حدوث هذا الغزو.

وبعد اجتاح الجيش العراقي دولة الكويت، والحشد الدولي المضاد بقيادة واشنطن لتحرير الدول الخليجية الصغيرة، مثلت غلاسبي أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في واشنطن في مارس/آذار 1991. ومجلس الشيوخ كان يريد فحص ما إذا كانت غلاسبي قد تسببت بنقل إشارة خاطئة للحكومة العراقية، الأمر الذي شجعها على غزو جارتها الكويت.

غلاسبي أصرت وفقا لبروتوكول الجلسة الذي تناقلته وسائل الإعلام وقتها أنها حذرت الرئيس العراقي مرارا من مغبة هجومه على الكويت، ولكن بلهجة دبلوماسية، وهو ما وضحه أيضا جيمس أكينز، سفير الولايات المتحدة الأسبق لدى المملكة العربية السعودية، الذي علّق على هذا الأمر، أنه في اللغة الدبلوماسية لا يتسنى لك توجيه التحذير، كما يعتقد البعض، بشكل مباشر، كأن تقول "سيدي الرئيس إن فكرت حقا في دخول الكويت، فسوف نواجهك بقمة الغضب، وسيدمر بلدك، وستهدم قصورك". وتابع "فلا أنا ولا أي دبلوماسي آخر كان سيقول هذه الكلمات"، بحسب ما نقلت صحيفة "دي فيلت".

ومعظم الباحثون في الاتصال الدبلوماسي يرون ‏أن الغموض يكون له في أغلب الأحيان نتائج سلبية، ‏لكنه يمكن أن يكون إيجابيا في حالات قليلة عندما يكون هدفه فتح المجال لخيارات متعددة.

‏الاتصال الدبلوماسي وتأثير التكنولوجيا

‏إن تطور وسائل الاتصال والإعلام أثر بشكل كبير على العمل الدبلوماسي، ‏وإرسال الرسائل بين الدول، ‏وكان من أهم نتائج هذا التطور سرعة نقل الإشارات، وعلانية الرسائل، ‏ومخاطبة الرأي العام، ودفع الشعوب للضغط على حكوماتها لتبني خيارات معينة، ‏لذلك تغيرت أساليب الاتصال الدبلوماسي بشكل كبير.

‏ويروى عن وزير الخارجية البريطاني لورد بالمرستون ‏عام 1840 أنه عندما وصله أول تلغراف قال "يا إلهي.. ‏هذه نهاية الدبلوماسية".

‏ومن المؤكد أنه كان يقصد الدبلوماسية التقليدية السرية التي يقوم فيها الدبلوماسيون المهنيون ‏المحترفون بعقد الاتفاقيات بين الدول وبناء العلاقات الخارجية.

‏لكن منذ مقولة بالمرستون ‏حتى الآن تطور الاتصال الدبلوماسي بشكل يفوق خيال الدبلوماسيين المهنيين الذين أصبحوا يواجهون تحديات جديدة تفرض عليهم أن يطوروا أساليبهم ووظائفهم، ‏فقد وفرت قنوات التلفزيون ثم الإنترنت للدول فضاء واسعا لتبادل الرسائل بشكل سريع، ‏ونقل المعلومات والإشارات.

‏كما شكلت وسائل التواصل الاجتماعي تحديات جديدة لقادة الدول والدبلوماسيين، ‏فظهرت مفاهيم جديدة مثل الدبلوماسية الإلكترونية، ‏والدبلوماسية الرقمية والدبلوماسية السيبرانية.

‏مخاطبة الجماهير بشكل مباشر

‏وقد أدى ذلك إلى تطوير أهداف الاتصال الدبلوماسي فأصبح يستهدف الوصول إلى الجماهير، ‏ولا يقتصر على الحكومات، ‏كما أدت ثورة الاتصال إلى التقليل من سرية العمل الدبلوماسي، ‏فأصبحت الدبلوماسية الحديثة فعلا اتصاليا وخطابيا ‏تستخدم فيها الرموز للتأثير على الجمهور، ‏وليس فقط لمخاطبة الحكومات، وهذا بدوره أدى إلى تطوير العلاقة بين الدبلوماسية والاتصال عبر الثقافات، ‏وتطوير نظريات جديدة للدبلوماسية، ‏وإنتاج المعرفة الدبلوماسية.

‏الاتصال الدبلوماسي وإدارة الصراع

‏كما أصبح الاتصال الدبلوماسي أساسا في إدارة الصراعات بين الدول، ‏حيث يجب أن تظل قنوات الاتصال مفتوحة ‏حتى خلال فترات العداء والحروب لخلق إمكانيات التفاهم والتوصل إلى حلول سلمية، فعبر قنوات الاتصال الدبلوماسي يتم إرسال الإشارات إلى الطرف الآخر.

‏ولكن ما الوسائل التي تستخدمها الدول في الاتصال الدبلوماسي؟

‏بدأ الباحثون يركزون على وسائل الاتصال الدبلوماسي وكيفية استخدامها كمقاربة ‏ ‏لتحليل نتائج هذا الاتصال، ‏ومدى نجاح الدول في تحقيق أهدافها.

‏إن الدولة التي تريد أن تحقق نتائج إيجابية يجب أن تبحث عن استخدام الوسيلة المناسبة، ‏لذلك لا بد أن يتم تحليل خصائص كل وسيلة، ‏وجمهورها المستهدف لضمان وصول الرسالة خاصة في أوقات الصراعات.

‏نظرية استخدام الوسيلة في الاتصال الدبلوماسي

‏بدأ تطوير نظرية استخدام الوسائل في الاتصال الدبلوماسي، ‏وتحليل هذه الوسائل لمعرفة مدى تأثيرها، ‏وكفاءتها في نقل الرسالة، ‏فالاتصال الدبلوماسي هو عملية اتصال متميزة تتم على مستوى الدول، ‏ويتم فيها تبادل رسائل ذات نوعية معينة، ‏كما يتم تفسير تلك الرسائل.

‏وإن القائم بالاتصال الدبلوماسي يتخذ قراره باختيار الوسيلة المناسبة في ضوء الأهداف التي يريد تحقيقها، ‏لذلك فإن عملية اختيار الوسائل في الاتصال الدبلوماسي يشكل ركنا ‏من أهم أركان التخطيط الإستراتيجي لبناء العلاقات مع الدول والشعوب.

‏ويرتبط ذلك بالقدرة على تحليل الاتصال الدبلوماسي للدول واكتشاف مدى كفاءته ‏في التعبير عن مواقف الدولة من الأزمات العالمية، ‏وتصوير قدرتها على المساهمة في تطوير حلول لهذه الأزمات، ‏أو القيام بأدوار الوساطة.

‏وفي ضوء ذلك يمكن أن يتطور علم الاتصال الدبلوماسي ليشمل الكثير من المجالات مثل تحليل الخطاب الدبلوماسي، ‏وبناء الرسائل وأساليب صياغتها ولغتها، ‏والوسائل المستخدمة في إرسالها.

‏العلاقة بين الاتصال الدبلوماسي والدبلوماسية الإعلامية

تطوير علم الاتصال الدبلوماسي يرتبط ببناء ‏نظريات جديدة للاتصال، ‏وتطوير العلاقات بين العلوم، ‏فالدبلوماسية الإعلامية من أهم المجالات التي يمكن أن تتطور كنتيجة لتطوير علم الاتصال الدبلوماسي وعلاقته بعلم الاتصال السياسي والاتصال عبر الثقافات، ‏وتحليل الخطاب السياسي. هذه العلوم تشكل أرضية لتطوير علم العلاقات الدولية، ‏وابتكار أساليب جديدة لبناء العلاقات بين الدول والشعوب.

‏إعادة بناء الواقع العالمي

‏إن هذه العلوم يمكن أن تساهم في إعادة بناء الواقع العالمي، ‏وفتح آفاق جديدة لحل الصراعات.. ‏فالشعوب تحتاج إلى نوعية جديدة من المعرفة التي لا يتم نشرها بهدف السيطرة وتحقيق الأهداف الاستعمارية ولكن يمكن أن تشكل أساسا للتعاون بين الشعوب في تحقيق أهداف عظيمة مثل مقاومة كل أشكال الاستعمار، ‏وتحقيق الاستقلال الشامل، وتبادل المصالح والمنافع على قواعد الاحترام والتفاهم المتبادل.

‏في ضوء ذلك فإن الاتصال الدبلوماسي يمكن أن يقوم بدور مهم في بناء مستقبل العلاقات الدولية على قواعد جديدة، ‏فمن أهم مميزات الاتصال الدبلوماسي أنه اتصال يقوم على الإقناع والتفاهم المشترك وليس على القهر والإجبار.

‏مرحلة ما بعد الاستعمار

‏إن تطوير علم الاتصال الدبلوماسي يمكن أن ينطلق من فهم تحديات القرن الـ21، ‏والتي تحتاج إلى علاقات دولية جديدة تقوم على أساس تبادل المعرفة بين الشعوب، ‏وتشكيل الرأي العام العالمي في قضايا مهمة مثل محاربة الفقر، ‏والحماية من مخاطر تغيير المناخ.

‏وثورة الاتصال يمكن أن تساهم في زيادة قدرتنا على تطوير الاتصال الدبلوماسي كمدخل لتطوير الدبلوماسية العامة، ‏والدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية الثقافية لبناء صور ذهنية جديدة تقوم على الاحترام ورفض الصور النمطية ‏السلبية التي تم تشكيلها ‏للشعوب في عصر الاستعمار، ‏والتي ما زالت تشكل أساسا ‏للكراهية والتفرقة والعنصرية.

‏وفي دول الجنوب الفقيرة يمكن أن نعمل لتطوير علم الاتصال الدبلوماسي وما يرتبط به من علوم، ‏ونستخدمه في بناء علاقات جديدة بين الشعوب تقوم على التعاون في الكفاح ضد الاستعمار والتبعية والاستغلال الغربي.

‏ولكي نبني تلك العلاقات يجب أن نستخدم كل أنواع الاتصال ووسائل الإعلام لكي نبنى لشعوبنا صورا ‏ذهنية جديدة. ‏

والاتصال الدبلوماسي يمكن أن يساهم في بناء علم جديد تقوم فيه شعوب الدول الفقيرة بدور فاعل في مرحلة جديدة من التاريخ. ‏فهل تقوم جامعاتنا العربية بدورها في تطوير هذا العلم؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.