بعد 11 سبتمبر.. كيف طوّرت أميركا الحرب السينمائية؟

إنعاش ذاكرة الأميركيين بمرتكبي 11 سبتمبر
تفجيرات 11 سبتمبر في أميركا (الجزيرة)

‏شكّلت أحداث ‏11 سبتمبر مرحلة جديدة في تاريخ السينما الأميركية، طوّرت فيها أساليبها للتأثير على الجماهير والتلاعب باتجاهاتهم، ‏كما طوّر النظام الأميركي استخدامه للسينما في بناء واقع عالمي جديد.

‏وإذا كان الجيش الأميركي قد شنّ ‏عدوانه على أفغانستان والعراق للثأر لهذه الأحداث، ‏فإن السينما الأميركية شنّت حربا ثقافية ‏ودعائية أوسع نطاقًا، بهدف ‏إخضاع الشعوب لسيطرة أميركا التي صورتها بأنها القوة العظمى التي تدير العالم ‏وتحمي الشعوب من خطر الإرهاب.

‏هوليود تستخدم قوتها

قامت هوليود بتوظيف كل إمكانياتها ‏وقوتها البشرية من كتّاب ومخرجين وممثلين وممولين ‏ومصورين، لمواجهة موقف جديد تقوم فيه بوظيفة سياسية وثقافية، ‏لفرض السيطرة الأميركية على العالم.

‏فقد كان من أهم النتائج التي يمكن أن نتوصل لها من دراسة الأفلام التي أنتجتها السينما الأميركية عقب أحداث 11 سبتمبر، ‏أن السينما من أهم الوسائل التي تستخدم في إدارة الصراع ‏ومواجهة ‏الأزمات والتحديات، ‏وأن أميركا استخدمت السينما في تقديم روايتها للأحداث، ‏وفي تشكيل الإطار الذي تتم فيه ‏مناقشة الأزمات والتفكير فيها.

‏وهذا يعني أن أميركا استخدمت قوتها السينمائية لتفرض على الشعب الأميركي كيف يفكر في الأزمة ويستجيب لها، ‏وهذا يمكن أن يساهم في تفسير تأييد ‏الشعب الأميركي للعدوان على ‏أفغانستان ‏والعراق.

‏أنت حرّ في أن تفكر لكن داخل الإطار

أثبتت السينما الأميركية أنها قوة مؤثرة تستطيع أن تدفع الشعب للتفكير داخل الإطار الذي رسمته، ‏عن طريق روايتها للأحداث ‏وتحديدها للمصالح القومية.

‏ولكي تكون وطنياً ‏لا بد أن تفكّر داخل الإطار الذي شكّلته لك الأفلام التي أصبح يمكنك أن تشاهدها عبر شاشات التلفزيون، ‏أو جهاز الكمبيوتر، ‏أو حتى على تليفونك المحمول، ‏فلم يعد من المهم أن تذهب إلى دور العرض، ‏وتدفع المال لمشاهدة الفيلم.

‏وهذا يوضّح أن السينما الأميركية لم يعد هدفها ‏تحقيق الأرباح فقط، ‏لكنها تعمل لتحقيق أهداف ‏سياسية وثقافية من أهمها بناء الواقع، ‏والتحكم في اتجاهات ‏الجماهير، ‏والتلاعب بالرأي العام.

‏السينما الأميركية استخدمت أحدث التقنيات والأساليب لتقوم بتغييب وعي الجماهير، وفي الوقت نفسه ‏تسلية ‏المشاهدين ‏وتحقيق أقصى قدر من المتعة لهم وهم يتابعون النجوم تتحرك على الشاشة ‏وتعبر عن المشاعر الإنسانية، ‏فتغضب وتبكي وتضحك، ‏وتقدم لهم الحكمة التي تتجلى في التجارب المثيرة، وبذلك تنتزع من المشاهدين الاستجابات العاطفية.

‏لذلك تقدم السينما الأميركية للجماهير تسلية شعبية ثقافية لها أهداف متعددة من أهمها: توجيه الجمهور، ‏وتزييف الوعي، ‏والتلاعب باتجاهات الرأي العام.

‏السينما الأميركية تصوّر لك المجتمع الأميركي بأنه مجتمع ديمقراطي يقوم على حرية المناقشة والحوار وعرض الآراء المختلفة، ‏وأن أميركا تعمل لنشر الديمقراطية في العالم ‏وحماية حقوق الإنسان، ‏لكن السينما الأميركية تتكفل بتحديد قضايا المناقشة والأولويات، ‏والأفكار الرئيسية التي يجب أن تتبناها لتكون إنساناً ووطنياً ‏ ‏وديمقراطياً، ‏فإن اختلفت مع تلك الأفكار فيجب أن تغرق ‏في دوامة الصمت حتى لا يرفضك المجتمع، ‏وتعاني من العزلة، ‏أو تتعرض للعقوبات الاجتماعية والسياسية، ‏ويتم اتهامك بالإرهاب، ‏والانتماء إلى محور الشر.. ‏لذلك يجب أن تصمت أو تتبنى الأفكار التي فرضتها عليك السينما.

‏كما أن السينما تحدد لك المرجعية ‏والحقائق التي يجب أن تنطلق منها عندما تشارك في المناقشة العامة. وبما أن أغلبية الناس لا تملك الوقت ولا تبذل الجهد للبحث عن الحقائق، ‏فإنهم يلتزمون بالأفكار التي ‏يتعرضون لها ‏في أفلام السينما، ‏باعتبارها الأفكار الصحيحة، ‏ولذلك تأخذ الأغلبية الحكمة من أفواه نجوم السينما الذين يتمتعون بالإعجاب، ‏ ‏فهم النماذج للجمال والسلوك الطيب المتحضر الذين يواجهون الأشرار المجرمين والإرهابيين الذين يتم ربطهم بكل ما هو قبيح وسيئ ومتخلف.

‏توجيه الجماهير باستخدام ثقافة الصورة

إن الفرد يربط الصور بالمعلومات التي يحصل عليها، ‏ولذلك فإن السينما التي تقوم على الصورة تكون أكثر تأثيراً ‏على عقلية الجمهور، ‏وعلى قدرة المشاهدين على تحليل المعلومات وتفسيرها.

‏وهذا يعني أن السينما تتحكم في تفكير المشاهدين عن طريق الصور التي يستخدمها الأفراد في بناء موقفهم من الأحداث، ‏وتعاملهم مع المعلومات التي يحصلون عليها من مصادر أخرى مثل الصحف.

‏التحكم في عواطف الجمهور

‏كما استخدمت السينما الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر أساليب سيكولوجية للتأثير على عواطف الجمهور، عن طريق دفع الجمهور للاستجابة بشكل عاطفي للأحداث من دون تفكير، ‏وقامت بزيادة خوف الجمهور وشعوره بالخطر، ‏وحاجته للأمن.

يقول الباحث روس لينشهون ‏في رسالته للدكتوراه ‏التي قدمها لجامعة غلاسكو ‏عام 2012 ‏إن معالجة السينما الأميركية لأحداث ‏الحادي عشر من سبتمبر ‏توضح الوظيفة السياسية والأيديولوجية للسينما، ‏حيث تبنت ‏رؤية بوش في أن أميركا تقود ‏العالم في الحرب ضد الإرهاب، ‏وأن كل الدول تقف مع أميركا التي تعرضت للاعتداء من قوى الشر وبذلك شكلت الإطار السياسي للتعامل مع الأحداث.

‏وكان خطاب بوش ‏هو الأساس الذي بنت عليه السينما الأميركية معالجتها للأحداث، ‏ومن أهم مرتكزات هذه الرؤية ‏أن الإرهابيين يستهدفون أميركا بسبب كراهيتهم لنموذج الحياة الأميركية ‏الذي يقوم على الحرية والديمقراطية.

‏وهكذا عملت السينما الأميركية على فرض رؤية ‏بوش وتفسيره للحدث على الشعب الأميركي وعلى العالم.

وهذا يوضح ‏أن الرؤية الهوليودية ‏لأحداث 11 سبتمبر ارتبطت برؤية بوش، ‏وأنها عملت لتبرير التدخل الأميركي في الشرق الأوسط.

‏كان من الواضح أن النظام الأميركي استعان بمراكز البحوث في تطوير استخدام السينما في حملته الدعائية، ‏وشكّل عدداً ‏من اللجان المتخصصة ‏التي جمعت مستشارين للبيت الأبيض مع المتخصصين في السينما، ‏بالإضافة إلى المنتجين والمخرجين والكتّاب، ‏وتم بناء مجموعة من الرسائل الموجهة للجمهور العالمي للتأثير على اتجاهاته نحو الحرب.

‏الحرب السينمائية

‏لقد استخدمت أميركا "‏الحرب السينمائية"، ‏وقام البيت الأبيض بدور مهم في التخطيط الإستراتيجي لهذه الحرب، ‏وقد بدأت السينما الأميركية تنتج أفلاماً ‏بشكل سريع عقب ‏وقوع الأحداث مباشرة، ‏وقدمتها باعتبارها "مأساة قومية"، ‏حيث تعرّضت أميركا لدمار هائل.. ‏كما ركزت على فكرة "‏الثأر"، ‏وتمجيد ‏دور عمل جهاز المخابرات الأميركية في البحث عن الإرهابيين، ‏وتمجيد ‏الجنود الأميركيين الذين يحاربون الإرهاب لحماية العالم.

‏يضيف روس لينشهون: ‏"لقد كانت هناك مشاورات مستمرة بين ‏مسؤولي ‏البيت الأبيض وصناع الأفلام في هوليود ‏عقب أحداث 11 سبتمبر، ‏بهدف زيادة حماس السينمائيين لإنتاج أفلام تساعد في تحقيق أهداف الحرب".

‏وبرز دور كريس هينيك ‏مساعد نائب الرئيس بوش في تطوير إستراتيجية الحرب السينمائية، عن طريق الاجتماعات المتواصلة مع منتجي الأفلام ومخرجيها ‏لتحديد الأفكار الرئيسية لهذه الأفلام.

‏ومن أهم الأفكار التي تمّ الاتفاق عليها في هذه الاجتماعات أن الحرب ضدّ الإرهاب ليست حرباً ضد الإسلام، ‏وأن الهجمات الإرهابية ضد أميركا ذات طبيعة عالمية، ‏فهي اعتداء على الحضارة، ‏لذلك تحتاج إلى استجابة عالمية لحماية العالم من الشر، ‏وأن الأسر الأميركية تحتاج إلى الشعور بالأمن والحماية.

‏وقد تم إخفاء هذه المعاني والرسائل في أحداث الأفلام حتى لا يتم التعامل معها كدعاية.. ‏ويشكل ذلك تطوراً ‏مهماً ‏في أساليب السينما الأميركية.

‏حملة دعائية خفية

‏ولقد كان من الواضح أن النظام الأميركي استعان بمراكز البحوث وعلماء الاتصال في تطوير استخدام السينما في حملته الدعائية، ‏وشكل عدداً ‏من اللجان المتخصصة ‏التي جمعت مستشارين للبيت الأبيض مع المتخصصين في السينما، ‏بالإضافة إلى المنتجين والمخرجين والكتاب، ‏وتم بناء مجموعة من الرسائل الموجهة للجمهور العالمي للتأثير على اتجاهاته نحو الحرب.

‏هوليود تتحدث بلسان أميركا

‏هكذا دفع البيت الأبيض والمؤسسات الرسمية الأميركية -مثل وزارة الدفاع ووزارة الخارجية- شركات السينما لتقديم الرواية الأميركية، ‏والدعاية لها، ‏والتأثير على الجماهير لدفعها ‏لتأييد السياسة الأميركية.

‏وهذا يوضح حدوث تفاعل بين البيت الأبيض وهوليود عقب 11 سبتمبر ‏لغرس ‏رؤية بوش في أذهان الشعب الأميركي ‏وجماهير العالم. ‏وقد أحاط الكثير من الغموض بهذا التفاعل مما دفع بعض الكتاب الأميركيين إلى المطالبة ‏بالشفافية في علاقة البيت الأبيض بهوليود.

‏يأتي ذلك في إطار التحالف بين الشركات الاحتكارية العملاقة التي أصبحت تسيطر على شركات الإعلام والسينما والنظام السياسي الأميركي، لتحقيق مصالح الرأسمالية ‏وفرض السيطرة الأميركية على العالم.

أين الشفافية في علاقة البيت الأبيض بالسينما؟!

‏ولقد وقف النظام الأميركي مع عمليات اندماج الشركات لتكوين إمبراطوريات ‏إعلامية عملاقة تتحكم في اتجاهات الجماهير رغم خطورة الاحتكار على الديمقراطية الأميركية.

‏وتوضّح تجربة استخدام النظام الأميركي لشركات السينما عقب 11 سبتمبر أن النظام الأميركي تمكن من فرض السيطرة على صناعة ‏الإعلام والثقافة والتسلية، ‏وحقق مصلحته في فرض رؤيته ‏على جماهير العالم عن طريق التحالف مع الشركات الرأسمالية ‏العملاقة التي سيطرت على شركات الإنتاج السينمائي.

‏لقد ذهبت هوليود إلى الحرب بعد 11 سبتمبر، ‏لكن هل عادت مع الجيش الأميركي من العراق وأفغانستان، ‏أم أنها ما تزال تخوض حربها الثقافية لفرض الرأسمالية والسيطرة الأميركية على العالم؟ الإجابة العلمية المتعمقة عن هذا السؤال يمكن أن تساهم في تجنيب الشعب الأميركي مخاطر الاستمرار في حرب طويلة يمكن أن تساهم في انهيار اقتصاده ونظامه الديمقراطي. كما يمكن أن تفتح أمام العالم آفاقا جديدة لحماية الجماهير من التلاعب باتجاهاتها وتزييف وعيها، وزيادة قدرتها على الكفاح للتحرر من التبعية لأميركا. فالعالم يختلف تماما عما صوّرته لك السينما الأميركية بعد 11 سبتمبر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.