العدوان على غزة من زاوية إيران.. توضيح الواضحات

شنت طائرات حربية إسرائيلية، عصر الجمعة، غارات على مناطق متفرقة في قطاع غزة. وأفاد مراسل الأناضول، أن الطائرات الإسرائيلية قصفت مناطق متفرقة في مدينة غزة وخانيونس (جنوب) وشمال القطاع. ( Abed Rahim Khatib - وكالة الأناضول )
طائرات حربية إسرائيلية شنت غارات على مناطق متفرقة في قطاع غزة مؤخرا (الأناضول)

انتهت في قطاع غزة موجة تصعيد جديدة بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، وتحديدا حركة الجهاد الإسلامي، بوساطة ثم مبادرة وضمانات مصرية حسب ما أُعلن. لم يتغير الكثير على صعيد مواقف مختلف الأطراف من الحدث مقارنة مع المواجهات السابقة، لكن ظاهرة جديدة بدأت تترسخ في هذا النوع من الأحداث، وهي نزوع البعض لتقييم المواجهة وبلورة الموقف منها من زاوية الموقف من إيران فقط.

وكما في المواجهات السابقة بين "الإسرائيليين" والفلسطينيين، كانت مواقف الأغلبية العظمى من الأطراف في العالم العربي، لا سيما الشعبية والنخبوية منها، واضحة في إدانة العدوان والتعبير عن الدعم للفلسطينيين الذين يتعرضون له، رغم ما قد يكون لبعضهم من ملحوظات وانتقادات لبعض فصائل المقاومة الفلسطينية وما بينهم من اختلافات في ما يتعلق بتصدير موقف منها.

هذا المشهد المعهود، الذي تتخلله عادة مواقف خجولة من بعض الدول العربية والإقليمية، أضيفت له في هذه الجولة مواقف شرائح جديدة لم تنظر للحدث من زاوية القضية الفلسطينية بمظلوميتها الواضحة، ولا العدوان "الإسرائيلي" بتاريخه المعروف، ولا زوايا التشابه والاختلاف عن المواجهات السابقة، ولا التطورات الدولية والإقليمية والمحلية التي يمكن أن تكون أسهمت في صناعته، وإنما حصرا من زاوية الموقف من إيران.

شرائح جديدة

هذه الشرائح الجديدة تبلورت في الأصل في اثنتين:

  • الأولى: شريحة من الكتّاب والإعلاميين المرتبطين ببعض الأنظمة الإقليمية، التي ادعت أن إيران هي التي أرادت الحرب الأخيرة في غزة للاستفادة منها في ما يتعلق بمصالحها الخاصة، مثل مفاوضات الاتفاق النووي الدائرة حاليا والمتعثرة منذ حين. ويتناسى هؤلاء -عن عمد في ما يبدو- أن دولة الاحتلال هي التي بدأت هذه الموجة من التصعيد وليس الفلسطينيين؛ أولا بموجة الاعتقالات للنشطاء، ثم باغتيال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري، ثم الإعلان عن عملية أسموها "الفجر الصادق" في غزة قالوا إنها مرشحة للاستمرار لأيام، قبل أي تصريح أو ردة فعل من الفصائل الفلسطينية.
  • والثانية: شريحة من بعض أنصار الثورة السورية -من سوريا ودول أخرى- وأبدى بعضهم تضامنا "فقط مع الشعب الفلسطيني" في غزة، مستثنيا فصائل المقاومة، لا سيما حركتي الجهاد وحماس، من باب علاقاتهما مع إيران وحزب الله وربما النظام السوري مستقبلا، وأبدى بعضهم الآخر -وهم قلة- شماتة أو في الحد الأدنى عدم اكتراث بالمواجهة ونتائجها وتداعياتها من باب أن من تقود المواجهة فيها فصائل لها علاقاتها مع إيران ومحورها في المنطقة.

أما عن دوافعهم لاتخاذ هذه المواقف، فقد أعلن المنتمون لهذه الشريحة الثانية على وسائل التواصل الاجتماعي أنهم ينطلقون من مبدأ أخلاقي مرتبط بالثورة السورية في الأساس، مؤداه أن حركتي حماس والجهاد تحديدا (اللتين تتصدران العمل المقاوم في فلسطين) ترتبطان بعلاقات مع إيران وتكيلان المديح لها لدعمها لهما، بينما وقفت الأخيرة وما زالت إلى جانب نظام الأسد في مواجهة الثورة وجزء واسع من شعبه بما يجعلها شريكة له في الفعل والمسؤولية.

ميزان الأخلاق

إذن، فمنطلق الشريحتين في موقفهما -مع الفارق الكبير بينهما في الدوافع والأهداف والأسلوب؛ وبالتالي نظرة التقييم لكل منهما- هو علاقة فصائل المقاومة الفلسطينية بإيران. وإذا كانت الشريحة الأولى تعبّر عن قناعات مسبقة واصطفافات معروفة وأهداف مكشوفة؛ وبالتالي لا تستحق النقاش، فإن الشريحة الثانية تنطلق من نوايا حسنة، وثمة ضرورة للحوار معها.

فعلى صعيد الوقائع، تمتد علاقة الحركتين (الجهاد وحماس) بإيران على عدة عقود من الزمن؛ وبالتالي فهي سابقة على الثورة السورية، وهي محصورة بشكل معلن من قبلهما فقط بمواجهة الاحتلال "الإسرائيلي"، ولا تمتد لأي مساحات أخرى من سياسة طهران الخارجية أو مشروعها الإقليمي، لا دعما ولا تزكية، فضلا عن الانخراط.

في الوقت الذي يتهم فيه بعض النشطاء وكثير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي حماس بالاصطفاف إلى جانب النظام؛ ما زال الأخير يتهمها بمحاربته ودعم الثورة السورية ضده إعلاميا وميدانيا، وما زالت تصريحاته والمواد الإعلامية الصادرة عنه سلبية تجاهها، بما في ذلك ما يخص المواجهة الأخيرة

حتى مديح الرئيس السابق لفيلق القدس في الحرس الثورة الإيراني قاسم سليماني، الذي أثار جدلا كبيرا ونقدا قاسيا لحماس وما زال، أتى من زاوية دعمه للمقاومة الفلسطينية وليس للأدوار التي لعبها في كل من سوريا والعراق.

وفي ما يخص الثورة السورية على وجه التحديد، فلم تتخذ أي من الحركتين موقفا منحازا للنظام. توزعت قيادة حركة الجهاد على عدة دول من دون الإعلان رسميا عن مغادرة سوريا، مما أدى إلى حالة من الجفاء والبرود في علاقاتها مع النظام والتي تبدلت جزئيا بعد سنوات عديدة. في المقابل، فإن حركة حماس آثرت مغادرة دمشق بشكل علني، لتجنب دعم النظام أو تبني سرديته وعدم انتهاك مبدئها في عدم التدخل في شؤون الدول والوقوف على الحياد في حالات الاستقطاب والمشاكل الداخلية فيها.

وأما على صعيد "أخلاقية" الموقف، فإنه في حال صحت التقارير التي تحدثت عن احتمالية عودة العلاقة بين النظام السوري وحماس، والتي لم تعلق عليها الأخيرة حتى اللحظة رسميا، فإنها لا تعني اصطفافها إلى جانب النظام أو تبني سرديته أو الوقوف معه ضد شعبه.

اللافت أن هذه المقاربة لا تستخدم في مواجهة الفصائل الفلسطينية بخصوص علاقاتها مع أنظمة أخرى ليست فقط في مواجهة مع جزء من شعبها مثل النظام السوري وإنما لها موقف معادٍ للفصائل الفلسطينية نفسها، وهي قرينة إضافية على أن نسج العلاقات لا يعني بالضرورة تبني الموقف فضلا عن الانخراط في المشروع.

أكثر من ذلك، وللمفارقة؛ ففي الوقت الذي يتهم فيه بعض النشطاء وكثير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي حماس بالاصطفاف إلى جانب النظام؛ ما زال الأخير يتهمها بمحاربته ودعم الثورة السورية ضده إعلاميا بل وميدانيا، وما زالت تصريحاته والمواد الإعلامية الصادرة عنه سلبية تجاهها، بما في ذلك ما يخص المواجهة الأخيرة.

وأخيرا، كيف يمكن لأي جهة أو شخص يدعي الأخلاقية في تقييمه السياسي أن يقف على الحياد في مواجهة بين المقاومة الفلسطينية مهما اختلف معها أو عتب عليها ودولة الاحتلال التي ما زالت كل الشعوب العربية تعدها عدوا مشتركا إذ يتخطى مشروعها الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية ليستهدف كامل المنطقة؟

4 ملحوظات

يمكن تسجيل أربع ملحوظات رئيسة فيما يتعلق بهذا الخطاب:

  • الأولى: أنه يجانب الموضوعية حين يعدُّ مجرد الرغبة في نسج علاقة مع النظام (بغض النظر عن الرأي فيها) تحالفا معه في ما واجهته الداخلية أو متاجرة بالدم السوري وأشباه ذلك من المقولات العاطفية المبالغ فيها التي لا تقف على أرضية منطقية من وقائع أو معلومات أو منهجية سليمة.
  • الثانية: أنه شبه حصري في حالة الفصائل الفلسطينية وغير مطّرد ليشمل أطرافا أخرى، ليست فقط في وارد بدء علاقات مع النظام وإنما تعلن أنها فعلا على علاقة معه، بل وربما تعرض الدعم والتعاون، ولكن يبدو أن كلفة الهجوم على الفصائل الفلسطينية أقل بكثير من انتقاد أي طرف آخر، وبالتالي فهو فعل بلا ثمن.
  • الثالثة: ولعلها الأهم، أن هذه الشريحة متأثرة بدرجة أو بأخرى بخطاب بعض الهيئات والتيارات الإسلامية -السورية وغيرها- التي وجهت انتقادات حادة لحماس وصلت إلى حدود التشويه والتخوين، بل إن بعضها أصدر بيانات لتبرير مجرد لقائه بقيادة الأخيرة.
  • الرابعة: أن ظاهرة الهجوم والتشويه والتخوين مع المخالف ضارة جدا بمن يتبناها وينتهجها وليس فقط مع الآخرين، ولعلها كانت من ضمن أسباب إخفاق الثورة السورية التي انتشر بين منتسبيها الخلاف الحاد والاتهامات المغلظة، التي لم يسلم منها أحد تقريبا.

في الختام، لا يناقش المقال قرار حركة حماس المفترض بإعادة العلاقة مع النظام السوري من زاوية أسبابه وأهدافه، ولم يصدر تقييما للأمر الذي يقع خارج مساحته ويحتاج نقاشاً مستقلا وموسعا. أكثر من ذلك، لا يصادر كاتب هذه السطور حق النقد، بل والاختلاف الشديد مع الفصائل الفلسطينية، لا سيما في ما يتعلق ببعض سقطاتها الإعلامية وخطابها المبالغ فيه أحيانا، ويرى ذلك حقا بالحد الأدنى وأحيانا واجبا. لكنه يحذر من خطورة المبالغة في النقد وتجاوزه للتخوين والتشويه بما لا يحقق مصلحة لا للقضية الفلسطينية ولا السورية، وبما يشكل خطرا بالحد الأدنى لجهة إيغار الصدور وإثارة الحساسيات وكسب العداوات بدل الصداقات وفتح معارك جانبية.

إضافة إلى ما سبق، وهو الأهم، يلقي المقال الضوء على تهافت الادعاء الأخلاقي في خطاب من يقفون على الحياد بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال في مواجهة كالأخيرة. ولا حجية هنا لمن يدعي التضامن مع الشعب الفلسطيني مع تخوين فصائله المقاومة؛ فالقضية الفلسطينية ليست معنى هلاميا ولا فكرة مجردة، إنما هي نضال شعب تتقدمه فصائل المقاومة، لا سيما أنه لم يصدر عنها على مدى سنوات الثورة السورية أي تصريح أو موقف ينحاز ضد مطالب الشعب أو ثورته فضلا عن أن يكون لها موقف ميداني في هذا السياق، رغم الكثير مما يشاع خطأ في هذا الاتجاه، ومع الاحتفاظ بمساحة الخلاف والاختلاف والنقد المتوقعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.