الشيخ محمود أفندي وهيبة الرحيل التي ستظل حيّة

العلامة التركي الراحل الشيخ محمود أفندي (مواقع التواصل الاجتماعي)

أكاد أجزم أن العالم الإسلامي لم يشهد في تاريخه الحديث جنازة كجنازة العلامة التركي محمود أفندي رحمه الله، الذي قضى عن عمر يناهز الـ93 عاما، بعد مرض عضال، فقد تعطلت الحياة في إسطنبول تماما يوم جنازته.

ففي ذلك اليوم استعدّ مسجد الفاتح منذ صلاة العشاء في يوم الخميس لجنازته، التي أقيمت في اليوم التالي، وأمضى غالبية المصلين يومهم وباتوا في المسجد، بانتظار شهود الجنازة، بينما بقي في باحات المسجد من شهد صلاة فجر الجمعة، بانتظار صلاة الجنازة التي أقيمت بعد صلاة الجمعة، وما إن حلّت صلاة الجنازة، حتى غصت الشوارع الرئيسة والفرعية لمنطقة الفاتح بالمصلين، لمسافة كيلومترين تقريبا، وقُدّر عدد المصلين بـ3 ملايين شخص، وهو ما لم يحدث في تاريخ الدولة التركية.

الجنازة التي حضرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكبار الوزراء والمسؤولين، بالإضافة إلى العلماء الأتراك والعرب، كانت استفتاءً حقيقيا على قوة التيار الأفندي في تركيا، بعد أن وفد عشرات الآلاف من الأتراك من القرى والبلدات والولايات البعيدة لشهود جنازة أفندي، ورأى بعضهم أنها استفتاءٌ على قوة حزب العدالة في إسطنبول على الرغم من كل ما قيل عن تراجعه.

كان الشيخ محمود أفندي يتعرض لضغوط هائلة مع كل انقلاب عسكري، ففي انقلاب 1960 تعرّض لخطر إغلاق نشاطاته، ولكن مع الحدّ منها تم تجاوز الأزمة، وفي انقلاب عام 1980 تكرر الأمر، حين سعى الانقلابيون إلى طرد الشيخ محمود من إسطنبول باتجاه (إسكي شهير) لخوفهم من تمدد حركته وجماعته على حسابهم، وهو ما يصبُّ في العادة في صالح خصومهم السياسيين

ولادته ونشأته

ولد محمود أوسطى عثمان أوغلو، المعروف بمحمود أفندي، في قرية طوشان لي، ببلدة (أوف) التابعة لولاية طرابزون عام 1929. كان والده علي أفندي إمام مسجد القرية، وأمه ممن شهد لهن أهل القرية بالورع والتقى، ولطالما كان الوالد يرفع يديه إلى السماء مع كل وقت صلاة داعيا أن يرزقه الله ابنا صالحا، ومع ولادته اعتنى به أشدّ الاعتناء، وحفّظه القرآن على يديه وهو ابن 6 سنين.

ثم أرسله إلى منطقة (قيصري) ليدرس علم النحو والصرف واللغة الفارسية، على يد الشيخ تسبيحي زاده، وهو من كبار علماء المنطقة، ليتلقى بعدها دروسا عند علماء آخرين، في علوم اللغة العربية والبلاغة والكلام والحديث والفقه، وخلال أداء والده لفريضة الحج توفي في مكة، ودفن بمقبرة المعلّى حيث مدفن السيدة خديجة، رضي الله عنها، ومن ثم فقد معينه ومساعده الأساسي.

في عام 1952 كان محمود أفندي قد التحق بالخدمة العسكرية، وتعرّف هناك على شيخه الذي كان توّاقا لرؤيته والسماع إليه، وهو الشيخ علي حيدر، الذي سبق أن أعاد العمل بطريقة إسماعيل أفندي النقشبندية، وكان صاحب مسجد إسماعيل أغا "أفندي" في الفاتح، الذي بُني على مقاس الكعبة المشرفة.

كان إسماعيل أوغلو من مفتي الدولة العثمانية المشهورين، وكان يفتي على المذاهب الأربعة، ولكن مع وصول مصطفى كمال أتاتورك إلى السلطة، أغلق المسجد وحوّله إلى إسطبل، ليأتي الشيخ علي حيدر ويفتح المسجد وينشر العلم، فصار له أتباع وسط الشباب والشابات، وكانت منطقة تشارشمبا حيث مسجد السلطان سليم ياووز في الفاتح معقلاً من معاقله التي أُخذت بالدم -كما يقول أتباعهم- حيث سقط كثير من الشهداء لإصرارهم على عدم التفريط بها.

وكان قد تردد بعد انقلاب الاتحاد والترقي أن الخطة العالمية كانت تقضي بتحويلها لفاتيكان ثانٍ، لموقعها الحيوي على البوسفور، ووجود كاتدرائية فنار المهمة تاريخيا لهم فيها، وأخيرا لمكانة إسطنبول لدى الكنيسة العالمية بشكل عام، لكن تصدّت جماعة إسماعيل أغا ومعهم الشيخ علي حيدر والشيخ محمود أفندي لهذا المخطط، ودفعوا بأتباعهم لشراء المنطقة بمالهم الشخصي، ولذا يرى الزائر لها كثرة المتلفعات بالملاحف التركية السوداء، وكثرة وقف المدارس فيها، حيث كان الميسورون يشترون البيوت ويوقفونها للجماعة، عملاً بأوامر الشيخين علي ومحمود.

وفاة الشيخ علي حيدر وخلافة أفندي

مع نهاية خدمته العسكرية عام 1954 طلب الشيخ علي حيدر من تلميذه محمود أفندي تولي إمامة مسجد إسماعيل أغا التي كان يتولاها بنفسه، وبعد هذا بـ6 سنوات وتحديدا في عام 1960 توفي الشيخ علي حيدر الذي كان يُفتي على المذاهب الأربعة، ليتسلم الراية من بعده تلميذه النجيب محمود أفندي.

توسعت الحركة في زمانه بشكل عجيب أفقيا ورأسيا، ووصلت إلى عشرات الدول في أفريقيا وآسيا، وما زلت أتذكر مؤتمرا قبل أشهر من رحيل محمود أفندي لممثليهم في دول أفريقيا، عُقد في منطقة السلطان سليم ياووز، حيث استمر لأيام، حضرته، وقضى بتبادل الخبرات وتقييم العمل في مناطقهم.

وفي أفغانستان، ما إن سيطرت حكومة طالبان على السلطة حتى سارع محمود أفندي إلى إرسال وفده إلى هناك لتقييم الاحتياجات الأفغانية، وتقديم ما يمكن تقديمه للشعب الأفغاني من الإغاثة العاجلة، والتعليم ونحوهما، والأمر نفسه حصل من قبل في سوريا، إذ نشطت الجماعة في مشاريع إغاثية وتعليمية مشهودٍ لها في الشمال السوري المحرر.

النقشبندية والانقلابات العسكرية

كان الشيخ محمود أفندي يتعرض لضغوط هائلة مع كل انقلاب عسكري، ففي انقلاب 1960 تعرّض لخطر إغلاق نشاطاته، ولكن مع الحدّ منها تم تجاوز الأزمة، وفي انقلاب عام 1980 تكرر الأمر، حين سعى الانقلابيون إلى طرد الشيخ محمود من إسطنبول باتجاه (إسكي شهير) لخوفهم من تمدد حركته وجماعته على حسابهم، وهو ما يصبُّ في العادة في صالح خصومهم السياسيين، ولكن مفتي إسطنبول يومها الشيخ صلاح الدين كايا وقف معه، وتم إلغاء القرار نتيجة ضغوط ضخمة مورست على الانقلابيين، وهو ما دفع قائد الانقلاب الجنرال كنعان إيفرين ليقول يومها: "يقولون إنني أستطيع أن أفعل كل شيء، وأنا لم أستطع نقل إمام من مكانه".

تمكنت الجماعة خلال سنوات الجمر التي مرّت بتركيا -وما أكثرها- أن تتأقلم مع الظروف، وتقيم لنفسها بيئة تركية داعمة ومؤيدة لها، وسط المسؤولين والعلماء والمشايخ والنخب، وهو ما جنّبها الصدام مع الحكومة والانقلابيين تحديدا، ولعل هذا من إرث المذهب الحنفي العميق، الذي كان مذهبا للخلافة العثمانية، ومن قبلها الخلافة العباسية، فكان اهتمامها بالمآلات والقضايا الإستراتيجية على التكتيكية الآنية، سببا مهما في تجنب الصعوبات والتهديدات التي يتعرض لها وتحاشيها.

لقاؤه مع تورغوت أوزال وزياراته الخارجية

عام 1988، قام محمود أفندي ربما بأول زيارة خارجية، وقد كانت إلى دمشق، والتقى علماءها، وبدأ منذ ذلك الوقت يرسل أتباعه وتلامذته إلى علماء الشام من أجل تلقي العلم والاستزادة منه، وبعدها بـ3 أعوام زار ألمانيا وبريطانيا من أجل الدعوة إلى الله ففتح له مكاتب فيها ونشر أتباعه. كما زار بخارى، وخلال عام 1992 التقى رئيس الوزراء التركي تورغوت أوزال، الذي يُنسب إليه فضل نجاح وصول حزب العدالة والتنمية التركي لاحقا.

وقد استمر لقاؤه مع تورغوت أوزال لـ3 ساعات، وعظه فيها أشدّ الوعظ، وهو ما عكس طبيعة الشخصين، فقد تقبل أوزال نصائح محمود أفندي، ولم يجامل الأخير رئيس الوزراء. وقد تعرّض محمود أفندي لأكثر من محاولة اغتيال، وكان أكثر ما آلمه هو طعن أحد تلامذته بايرم خضر، في محراب مسجد إسماعيل أغا من قبل مجهولين، ثم اغتيل صهره أيضا، وبعد وفاة زوجته بمرض عضال تزوج بابنة الشيخ منصور، وهو من أشراف كهرمان مرعش، وضمن زياراته الخارجية إلى الهند التقى الإمام السهرهندي.

إفشاله انقلاب 2016 ومأثوراته

لعب محمود أفندي وأتباعه دورا بارزا في إفشال المحاولة الانقلابية لعام 2016، ولم ينسَ له ذلك الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يعرف قوته وسلطته على الشارع الانتخابي، وخلال عام 2010 احتل المرتبة الـ34 ضمن الشخصيات المؤثرة في العالم الإسلامي.

ومن أقواله المأثورة في تركيا: "إذا رأيتموني أدعُ 3 سنن للنبي عليه السلام، فلا تصلّوا خلفي". وقوله لأتباعه ومحبيه: "أبو جهل أخرج النبي عليه السلام من مكة، وأنتم لا تخرجوه من قلوبكم". ولطالما ردد أمام أتباعه، حين يسألونه عن الكرامة قول الشاه نقشبند البخاري: "الاستقامة عين الكرامة".

ومن آثاره تفسير القرآن الكريم المسمى بـ(تفسير الفرقان)، الذي طبع منه حتى اليوم 19 مجلدا، ويتوقع أن يصل إلى 54 مجلدا، بالإضافة إلى كتب أخرى. دفن يوم الجمعة 24/6/2022 بجوار شيخه علي حيدر، في مقبرة أدرنة كابي في إسطنبول، فرحمه الله وتقبله في جنانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.