تسييس جديد في مصر

حملة إنترنت غير محدود في مصر (مواقع التواصل)

يجادل هذا المقال بأن السياسة موجودة بأشكال ومعايير وفواعل جديدة في مصر، رغم الحصار والانتزاع والرغبة في تمويتها من قبل نظام ما بعد 2014، الذي نجح في أن يحشد قطاعات جماهيرية معتبرة لمساندة هذا التوجه. هذه السياسة الجديدة  تصاعدت وسينمو حضورها بقوة الأيام القادمة، لأن أطرافا عديدة -علمت أو لم تعلم، أرادت أو لم ترد- تسهم في حركة الإحياء هذه، خاصة أن السياسة الجديدة تجد جذورها في مساحات التقاطع بين محددات أربعة: تغير هيكل الدولة من حيث الوظائف والأدوار، واقتصاد السوق -خاصة في طبعته النيوليبرالية، والتغيرات المجتمعية في بعديها الثقافي والقيمي، وأخيرا التغيرات الجيواستراتيجية في الإقليم والعالم من حولنا.

هذه الاستعادة المتصاعدة لا تعني بالضرورة ترجمتها إلى فعل سياسي؛ إذ لا تزال معضلة الفجوة بين الطلب عليها والاستجابة لها قائمة داخل مؤسسات النظام وخارجه. فائض السياسة إن لم تستوعبه مؤسسات سياسية سيؤدي إلى تهديد الاستقرار وزعزعة "الأمن القومي"، وهو ما لا تتحمله مصر الآن دولة ومجتمعا.

يفاقم الأمر أن إحياء السياسة بعد تمويتها ليس فعلا هندسيا ميكانيكيا؛ إنما يتعلق بمدى قابلية المجتمع ومؤسساته الوسيطة -مثل النقابات والأحزاب- على استيعاب فائض السياسة، خاصة أنه كان هناك -في فترة زمنية سابقة- قبول نسبي لدى قطاعات جماهيرية لتمويت السياسة اعتقادا منها بأن ذلك سبيل لاستعادة النظام -في مقابل الفوضى- الذي فقدوه، وتمهيد ضروري للعيش الكريم والرفاهية الاقتصادية التي وعدوا بها.

تمويت السياسة أماتت معها الأفكار والمبادرات ومناهج التفكير فيها، وزادت ضعف المؤسسات الوسيطة التي كان يمكن أن تصرف الطلب على السياسة نحو قنوات مفيدة للدولة والمجتمع. نحن الآن في مرحلة التطبيع مع السياسة، خاصة من النظام وبعض الأحزاب السياسية، إلا أن هناك أيضا من الإجراءات والسياسات والدعاية ما يعمل على إدامة أجندة نزع السياسة من خلال حشد فئات اجتماعية عن طريق إشاعة خطاب التفزيع من الفوضى والحفاظ على الدولة وأمنها القومي، وباستخدام المحافظة الدينية والاجتماعية والأسرية لتأكيد التحكم والهيمنة على المجتمع، وتحويل كل هذا إلى عقيدة راسخة تنتشر في بيروقراطية الدولة بالتدريب عليها، كما في دورات الأمن القومي التي تعقدها بعض مؤسسات الدولة لموظفيها، وفي المجتمع من خلال الدعاية لها.

التسييس بعد الانتزاع لدى النظام يأخذ مظاهر عدة، أبرزها:

الاستجابة للضغوط الاجتماعية التي فرضتها الأزمة الاقتصادية من خلال توسعة برامج الحماية الاجتماعية وزيادة الدعم مع إعادة النظر في بعض الرسوم -رسوم المرور مثالا- والقوانين مثل قانون التصالح على مخالفات البناء.

جرى إطلاق عمليات حوار متعددة: حوار وطني غرضه دمج واستيعاب بعض الأحزاب السياسية والنخب المحسوبة على "يناير" بعد استبعاد لسنوات، وحوار حول وثيقة سياسات ملكية الدولة الذي يهدف إلى رسم حدود دور الدولة في الاقتصاد وإعطاء مساحة لاستعادة القطاع الخاص لحجمه بما يضمن الاستجابة لوصفة صندوق النقد الدولي في إعادة هيكلة الاقتصاد، وأخيرا؛ يأتي الإعلان عن المؤتمر الاقتصادي وتعيين عدد من رجال الأعمال مستشارين لرئيس الوزراء وتغيير محافظ البنك المركزي كسبيل للمصالحة مع نخبة رجال الأعمال والرأسمالية الكبيرة في مصر، ومعالجة تداعيات بعض الإجراءات الاقتصادية والمالية التي اتخذت للحفاظ على ما تبقى من الاحتياطي النقدي، ولاستيعاب الانتقادات المتصاعدة لما جرى من سياسات اقتصادية على مدار السنوات الثماني الماضية، بما استدعى من الرئيس نفسه أن ينخرط في الدفاع عن هذه السياسات.

أما استجابة الأحزاب ونخبة السياسة في مصر للطلب عليها فهو -عموما- دون المستوى المطلوب، ويفتقد القدرة على الإبداع وتقديم أفكار ومبادرات جديدة، ولهذا حديث آخر.

الخلاصة: إن إحياء السياسة في مصر يقع في منزلة بين المنزلتين: استجابة بعد تمويت، واستمرار لانتزاعها بعد إحيائها.

رغم أن الحملة تعمل في سياق سلطوي مغلق؛ فإنها استطاعت أن تمرر خطاباتها ومطالبها لقطاعات واسعة من المواطنين، كما أنها استطاعت ليس فقط الوصول إلى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية؛ بل دفعتها أيضا للتفاعل معها وتبرير المواقف الحكومية الحالية والسياسات القائمة والأسباب التي تمنع الحكومة من تبني مطلب الحملة الرئيسي

سياسة المعاش

ورثنا عن السياسة في الانتفاضات العربية -قبلها وبعدها- عددا من الخصائص التي باتت سمة لصيقة لقطاع كبير من الفعل السياسي في الزمن المعاصر، وسبق أن أطلقت عليها من سنوات "خطاب المعاش"؛ فهي:

  • سياسة محلية؛ جذرها في الشبكات المحلية في الريف والمدن الصغرى.
  • مطالبها مباشرة؛ الحد الأدنى للأجور، والامتحانات، ومقرر الفصل الرابع الابتدائي، وتحسين خدمات الإنترنت.
  • لا تترجم نفسها بالضرورة في إصلاحات وطنية عامة؛ مثل الديمقراطية أو إصلاح نظام التعليم.
  • تهمش الأيديولوجيا ولا تستند إلى خطاب قومي أو طبقي أو ديني بالضرورة.
  • بلا قيادة ويلعب المنسق أو المنسقون الدور الأساسي فيها لأنها تتميز بالعفوية أو المبادرات محددة الأهداف والمدة.
  • تستند إلى شبكات لامركزية لا إلى المنظمات الهرمية… إلخ.

في دراسة قيد النشر للباحث المتميز أحمد محسن -المختص في السياسات العامة- عن حملة "إنترنت بلا حدود" التي أطلقها عدد من الشباب المختص في تكنولوجيا المعلومات لمعالجة سوء الخدمة المقدمة من الشركات في هذا المجال، يلفت نظرنا الباحث إلى عدد من السمات التي ميزت الحملة من خلال استخدامها الوسم المليوني #انترنت_غير_محدود_في_مصر.

تحولت الشكاوى العامة إلى شكل أكثر تنظيما بفضل أمثال هذه الحملة التي تمثل محاولة للضغط على الحكومة المصرية من أجل إجراء إصلاحات في تقديم خدمة الإنترنت، وإدراج سياسات لحل هذه المشكلة ضمن أجندة الحكومة. قدم أفراد الحملة أنفسهم كجزء من شرائح اجتماعية أوسع تعاني من سوء خدمات الإنترنت.

عدد منهم عمل على تطوير أفكار وسياسات بديلة يمكن أن تسهم في حل المشكلة، وبهذا فإن الحملة انتقلت من الشكوى والمظلومية إلى الحل والفاعلية برشاقة من دون أن تتورط في أن تتحول إلى حملة حقوقية للمطالبة بالإفراج عمن تم القبض عليه من منسقيها، أو تتحول إلى حملة مسيسة تتحدى النظام عبر إحراجه.

أسهم تأطير الحملة في صورة مطلب واضح إلى وصول مطلب الحملة الأساسي بشكل سريع وواضح لقطاعات واسعة. على الجانب الآخر، أسهم هذا التأطير في مشاركة شخصيات عامة وأفراد من خارج أفراد الحملة في دعمها عبر المشاركة في نشر الوسم.

رغم أن الحملة تعمل في سياق سلطوي مغلق؛ فإنها استطاعت أن تمرر خطاباتها ومطالبها لقطاعات واسعة من المواطنين، كما أنها استطاعت ليس فقط الوصول إلى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية؛ بل دفعتها أيضا للتفاعل معها وتبرير المواقف الحكومية الحالية والسياسات القائمة والأسباب التي تمنع الحكومة من تبني مطلب الحملة الرئيسي.

استطاعت الحملة استخدام عدد من الآليات والوسائل الجديدة والمستحدثة من أجل وصولها إلى عدد أكبر، ومن أجل رفع أعداد المتابعين للتفاعل معها من دون أن يؤدي ذلك إلى مشاكل أمنية لهم. ففي حين كان فيسبوك الساحة الرئيسية لعدد من الحملات السابقة؛ فإن الحملة الحالية نشطت على تويتر ويوتيوب وفيسبوك بشكل واسع، كما استخدمت عددا من الآليات الجديدة.

اللامركزية والتشاركية بين المسؤولين عن الحملة

تبدو الحملة من دون قائد واضح، كما أنها استطاعت الاستمرار رغم الاختفاء القسري لأحد منسقيها؛ مما يعطيها طابعا لامركزيا. تميزت الحملة بالتطوع والتشاركية والتنسيق بين مجموعات وأفراد من خلفيات مختلفة؛ وأسهم هذا في وجود مرونة في إدارة وتنفيذ الحملة، كما أسهم في عدم توقفها عند التعرض لمحاولات القمع والتحجيم من السلطة، ولم تقتصر الحملة على تقديم الشكاوى فقط، بل عمل عدد من أعضائها على تقديم الحلول أيضا.

ورغم أن الحملة لم تستطع أن تحقق النجاح المطلوب وفق ما حدده القائمون عليها من أهداف؛ فإنها استطاعت أن توصل الموضوع لأجندة الحكومة، بما دفع وزير الاتصالات نفسه للرد عليها، وهي في الأخير نموذج ناجح لطرح البدائل والضغط المتواصل السلمي، وكسب أنصار ومؤيدين متنوعين، وترسم أحد ملامح السياسة في المستقبل.

خصائص السياسة الجديدة

للسياسة الجديدة سمتان اساسيتان:

الأولى: انتفاء فكرة التمثيل

فالدولة ومؤسساتها الوسيطة مثل البرلمان والنقابات والأحزاب تقوم على شرعية الوكالة عن أعضائها في تمثيل مصالحهم، وهو ما لم يعد موجودا الآن، إذ انقسم الجمهور إلى مجموعات تتباين مصالحه وتختلف، وتتقاطع في أحيان. النقابات المهنية -على سبيل المثال- تضم مستويات مختلفة من الدخول (أطباء ومهندسون فاحشو الثراء في مقابل المستورين) بما يخلق تفاوتا شديدا بين الأعضاء في المصالح وأولويات المطالب. (أرجو ملاحظة كيف يستمر خطاب السلطة والقوى السياسية والنخبة المصرية في ادعاء تمثيلهم لشعب لا يعرفونه وطبقات اجتماعية لم تعد كما كانت). إذا انتفى التمثيل والوكالة فلا بد أن تتغير الوظائف والأدوار؛ فتنتقل من التحكم والسيطرة إلى دور الوساطة/الحكم والإدارة.

فعلى سبيل المثال، تغير دور الرئيس؛ فبدلا من أن يقود هياكل الدولة بأكملها وبيروقراطيتها لتحقيق وظائف الدولة التنموية والرفاهية -كما جرى في فترة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (1954-1970)؛ أصبح موازنًا وحكمًا بين مصالح طبقة رجال الأعمال وبين المصالح الاجتماعية العامة، ويحكم بين مؤسسات الدولة المتباينة في توجهاتها، كما في فترة الرئيس الراحل محمد حسني مبارك (1981-2011).

هنا يجب أن نلاحظ أن مبارك امتلك من الأدوات وقتها ما ساعده على لعب هذا الدور؛ فقد كانت الدولة تملك بقايا قطاع عام قوي يمكن أن يستخدمه لإحداث التوازن المطلوب، ولكن في ظل سعي دولة 2013 للتخلص من ملكياتها وإعادة التموضع في قطاعات اقتصادية بعينها؛ هل يمكن أن تظل تلعب دور الموازنة بين المصالح المتعارضة أم ستترك ذلك لقوى السوق؟

وإذا انتفى التمثيل والوكالة فلا بد أن تبرز فواعل "سياسية" جديدة بخلاف ما ألفناه، فمن قاد حملة إنترنت بلا حدود -كما قدمت- شباب تقنيون غير مسيسين، اقترح بدائل وسياسات وحلولا فنية للتغلب على المشكلة، واستطاع أن يحشد خلفها أصحاب المصلحة لا طبقات أو فئات اجتماعية واضحة، ولم يدع تمثيل أحد منهم، فجمعتهم المصلحة المباشرة الواضحة، ويرتبط بذلك دور أكبر لمؤسسات وأشخاص وأدوات كالتواصل الاجتماعي لم نكن نعدها تلعب أدوارًا سياسية رغم تأثيرها السياسي المباشر وغير المباشر.

يمكن الإشارة إلى البنك المركزي ومحافظه الذي قبل أن يرحل ترك لنا رسالة نشرت بالأهرام محملة بمضامين سياسية مباشرة وإن تلبست بلبوس اقتصادية.

الثانية: سياسة الاحتجاج والاعتراض

عند الاحتجاج أو الاعتراض على سياسة ما؛ فإن المحتجين والمعترضين يعبرون عن الطرف المشكو في حقه بشكل مباشر؛ فالحكومة صاحبة عمل وليست سلطة سياسية تمثل المجتمع، والإضراب هو ضد صاحب الشركة بوصفه مالكها وليس على القطاع الخاص أو رأسمالية المحاسيب، والإنترنت اللامحدود هو اعتراض على شركة (we) مقدمة الخدمة.

نحن بصدد سياسة ديناميكية باستمرار تتغير مواقع الأطراف المختلفة فيها، وكذلك شكل الخطاب ليناسب وظيفته المباشرة وليس المنطق السياسي (ضد السلطة العامة)، أو الرأسمالي (رأسمالية المحاسيب)، أو الأيديولوجي (إسلاميون وعلمانيون) الذي يستند إليه.

ما يجري في الواقع -إذن- هو إعادة تعريف السياسة في وقت لا نزال نفكر فيها بمنطق قديم، ونبحث عنها في مواضع قديمة مثل: الأيديولوجيات والطبقة والحركات الاجتماعية وعند الإسلاميين وبين هياكل الدولة فقط التي تآكلت وتغيرت وظائفها وانفك تماسكها… إلخ. السياسة الآن تصنع في أماكن أخرى، ومن مادة جديدة، وبفواعل جديدة، وفي مجالات جديدة، ووفق قضايا جديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.