انتصار طالبان ونهاية حقبة 11 سبتمبر

طالبان تكشف ملامح نظام الحكم الجديد في أفغانستان (الجزيرة)

في جلسة مشتركة للكونغرس في 20 سبتمبر/أيلول 2001، أي بعد 9 أيام فقط من تفجيرات برجي التجارة بنيويورك، أعلن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عن نوع جديد من الحرب: "الحرب على الإرهاب". وضع شروطها: "سنوجه كل مورد تحت قيادتنا: كل وسيلة دبلوماسية، كل أداة استخبارات، كل أداة لإنفاذ القانون، كل تأثير مالي، كل سلاح حرب ضروري، إلى هزيمة شبكة الإرهاب العالمية"، ثم وصف الشكل الذي قد تبدو عليه تلك الهزيمة: "سنحرم الإرهابيين من التمويل،… ونطاردهم من مكان إلى آخر حتى لا يكون هناك ملاذ أو راحة".

إذا كانت كلمات بوش قد حددت أهداف الولايات المتحدة من حربها على الإرهاب، إلا أن هذه الحقبة التي امتدت لعقدين من الزمان (2001-2021) قد خلقت منظورا أو اقترابا شاملا حكم كثيرا من تفاعلات العالم داخليا وخارجيا، أي داخل الدول وفيما بينها، وخاصة علاقة عالم الإسلام بالعالم عامة والغرب خاصة.

كانت الدعاية المعادية للمسلمين ونظريات المؤامرة التي اندمجت في النهاية في رواية الاستبدال العظيم -أي إحلال المسلمين والمهاجرين محل الغربيين- مدعومة في كثير من الحالات عن غير قصد بسياسات مكافحة الإرهاب التي شوّهت التمييز بين الإرهاب ذي الإسناد الإسلامي وبين الإسلام، وبين المسلمين العاديين والإرهابيين.

خصائص 6 لهذه الحقبة:

  1. الهوس بالإسلام

فموضوعات: الإسلام والمسلمين والإرهاب والجهاد والتطرف العنيف والمهاجرين، باتت محور التركيز والاهتمام العالمي، حيث لا تمايز بين هذه المسميات ولا تمييز بينها، وإنما النظر إليهم جميعا باعتبارهم كلا واحدا جوهره "الخطر الإسلامي" أو "الإرهاب الإسلامي" الذي هو تهديد وجودي وحضاري للقيم والمثل والنظام الاجتماعي الغربي.

انطلقت صناعة "رهاب الإسلام" ذات الموارد الممتازة إلى العمل، باستخدام مجموعة متنوعة من أساليب التخويف لتوليد الهستيريا بشأن التهديد الذي يلوح في الأفق. في هذه البيئة، أصبحت المشاعر المعادية للمسلمين وللمهاجرين أكثر انتشارًا، حيث تبنت الأحزاب والمنظمات السياسية اليمينية المتطرفة فكرة التهديد الإسلامي، باستخدام الاستعارات والأيقونات من الحروب الصليبية المسيحية ومذابح القرن الخامس عشر في أوروبا التي استهدفت المسلمين واليهود.

كانت الدعاية المعادية للمسلمين ونظريات المؤامرة التي اندمجت في النهاية في رواية الاستبدال العظيم -أي إحلال المسلمين والمهاجرين محل الغربيين- مدعومة في كثير من الحالات عن غير قصد بسياسات مكافحة الإرهاب التي شوّهت التمييز بين الإرهاب ذي الإسناد الإسلامي وبين الإسلام، وبين المسلمين العاديين والإرهابيين.

إن مثل هذه الممارسات أكدت أن الإسلام نفسه يشكل تهديدًا وجوديًا وحضاريًا، كما مهدت مثل هذه الأساليب الطريق لأفكار تمييزية أكثر صراحة، مثل تأملات ترامب خلال الحملة الرئاسية لعام 2016 حول بناء قاعدة بيانات وطنية للمسلمين، على غرار اليابانيين في الحرب الثانية، ووعده بمنع جميع المسلمين من دخول الولايات المتحدة.

2. حروب أبدية مظهرها الأساسي إفراط في استخدام التدخل العسكري في جميع أنحاء عالمنا الإسلامي:

فعلى مدى 20 عاما، كانت مكافحة الإرهاب هي الأولوية الرئيسية لسياسة الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها، وأعيد تصميم وهيكلة أجهزته لخوض حرب لا نهاية لها في الداخل والخارج، وأصبحت الوظائف الأساسية -من إدارة الهجرة إلى بناء المرافق الحكومية إلى الشرطة المجتمعية- مجيرة لخدمة هذا الهدف، كما هو الحال مع جوانب الحياة اليومية: السفر، والخدمات المصرفية، وبطاقات الهوية… إلخ.

استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها القوة العسكرية في أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان والفلبين والصومال واليمن وعدد من الدول الأخرى، وأصبح الإرهاب قضية بارزة في كل علاقات الدول -وخاصة واشنطن- الثنائية والمتعددة الأطراف تقريبا.

ينتهي بن رودس في تقويمه المهم الذي نشر في الفورين أفيرز (Foreign Affairs) هذه الأيام ضمن ملف حمل عنوان: "من انتصر في حرب الإرهاب" (who won the war of terror) إلى أنه بعد 11 سبتمبر/أيلول، وجهت إدارة بوش السفينة في اتجاه جديد وولدت قدرًا هائلاً من الزخم. أعيد تركيز جهاز الأمن القومي على محاربة الإرهاب، وتم إنشاء بيروقراطيات جديدة واسعة، وإعادة رسم المخططات التنظيمية، ومنح سلطات جديدة، وإعادة كتابة الميزانيات، وتغير الأولويات.

ويضيف: أن تكاليف حروب ما بعد 11 سبتمبر/أيلول كانت مذهلة، فقد لقي أكثر من 7 آلاف جندي أميركي حتفهم في أفغانستان والعراق، وأصيب أكثر من 50 ألفا في القتال، كما تخلف عنها أكثر من 30 ألفا من قدامى المحاربين الأميركيين، ومئات الآلاف من الأفغان والعراقيين فقدوا أرواحهم، وتشرّد 37 مليون شخص، وفقا لتقديرات مشروع تكاليف الحرب بجامعة براون. وفي الوقت نفسه، فإن ثمن تلك الحروب ورعاية أولئك الذين حاربوها يقترب من 7 تريليونات دولار.

3. تراجع الديمقراطية ودعم النظم الاستبدادية:

فعلى مدى العقدين الماضيين اللذين تصاعدت فيهما الحرب على الإرهاب، تراجعت الديمقراطيات في العالم، كما رصد بيت الحرية في مؤشراته المتتالية.

وفي العلاقة المباشرة بين الحرب على الإرهاب وتصاعد الدكتاتوريات، يمكن الإشارة إلى التحالف الذي بات مهما مع النظم الاستبدادية في العالم الإسلامي مقابل مساهمتها في هذه الحروب، وهذه النظم قد فاقمت من استبدادها -أيضا- بحجة الحرب على الإرهاب، بما يمكن معه القول إن هذه الحرب كانت دائمًا في حالة حرب مع نفسها، فالدول الغربية "الليبرالية" وعلى رأسها الولايات المتحدة تدعم القمع والأنظمة المستبدة، بينما تتشدق بالقيم الديمقراطية، كما بات العالم أكثر استعداد لزيادة نظم المراقبة وانتهاك الخصوصيات بحجج مختلفة جوهرها الخوف والفزع من الكائن الأسطوري المسمى بالإرهاب.

يؤكد أحد الخبراء ممن يمكنهم الاطلاع على الأدلة التي تستخدمها المحاكم في هذا النوع من القضايا: "ما تعلمته هو أنه بمجرد أن تستهدف دولة المراقبة شخصا ما، فإن هذا الشخص لم يعد يحتفظ حتى بجزء صغير من الخصوصية الحقيقية".

4. الشرق الأوسط الكبير

هو المجال الحيوي الذي تجري فيه تفاعلات الحرب على الإرهاب، وشعوبه هي التي تدفع الثمن، وقد فاقم من هذا الثمن أن الحلف العالمي لمحاربة الإرهاب كان تركيزه على المعارك المباشرة والانتصارات التي تبدو كبيرة (القضاء على حكم طالبان وإسقاط صدام) التي نجح فيها إلى حد كبير، ولكنه عجز عن التعامل مع تداعيات هذه المعارك/الانتصارات، من بناء للدولة وانهيار لسلطاتها المركزية وتنمية اقتصادية مستدامة…إلخ. ومما حكم هذه الحروب جميعا أنها تعرف ما لا تريد ولكنها عجزت أن ترسم ملامح لما تريده.

5. تصاعد دور الجهات والمنظمات غير الحكومية:

فبعد أن افتتح القرن الـ21 بسبتمبر/أيلول التي هي في أحد تجلياتها قوة الضعيف وضعف القوي، سادت الحكمة التقليدية بأن الجهات الفاعلة غير الحكومية ستثبت أنها أكبر تهديد للأمن القومي في العالم، وتحقق هذا التوقع، ولكن ليس بالطريقة التي توقعها معظم الناس. لقد عرّضت الجهات الفاعلة غير الحكومية الأمن القومي للخطر، ليس من خلال مهاجمة الولايات المتحدة ولكن من خلال تحويل انتباهها بعيدا عن الجهات الحكومية مثل الصين وروسيا.

6. تصاعد اليمين

في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، أدى ظهور "الجهاد" العنيف إلى إعادة تشكيل السياسة الأميركية بطرق خلقت أرضا خصبة للتطرف اليميني. كانت الهجمات هدية لمروّجي كراهية الأجانب، والتفوق الأبيض، والقومية المسيحية، لكن لم يكن الإرهابيون وحدهم هم الذين أعطوا المتطرفين اليمينيين دفعة، فكذلك فعلت الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب، وتضمنت التركيز شبه الكامل للاستخبارات والأمن وإنفاذ القانون على "التهديد الإسلامي"، تاركة التطرف اليميني ينمو بلا قيود.

ومما يربط بين مكونات اليمين المتطرف هو نظرة تآمرية للعالم، والالتزام المشترك بالأفكار غير الديمقراطية وغير الليبرالية، كما تدعم مجموعة فرعية منه -على الأقل من الناحية النظرية- استخدام العنف الجماعي ضد أهداف مدنية وحكومية.

في هذه المرحلة، تم التعامل مع الهجمات الإرهابية اليمينية على أنها حوادث هامشية، وليس باعتبارها خطرا مستمرًا ومتزايدًا على الأمن القومي، وهو خطر يفوق الآن الإرهاب ذي الإسناد الإسلامي من حيث الخسائر التي تلحق بالمجتمعات الغربية.

حقبة ما بعد سبتمبر

رغم وجود حدود تفرضها البنى والهياكل والإستراتيجيات التي بنيت في المرحلة السابقة حول مفهوم الحرب على الإرهاب على الانتقال لحقبة ما بعد سبتمبر/أيلول -بمعنى أن تنفيذ سياسات وبناء هياكل والتوافق على إستراتيجيات جديدة من الغرب وفي جميع أنحاء العالم سيواجه تحديات كبيرة تتعلق بثقل المرحلة السابقة- فإن الحقبة الجديدة تأخذ قوة دفعها من خصائص خمس:

  1. التعايش مع الإرهاب:

فلم يعد هو التهديد الأساسي، فمن يطالع تقرير مجتمع الاستخبارات الأميركي عن الاتجاهات الإستراتيجية العالمية حتى 2040، لا يجد ذكرا للإرهاب، وربما يجد ذلك تفسيره في تراجع تهديده على الصعيد العالمي، حيث انخفضت الوفيات الناجمة عنه في عام 2019 للعام الخامس على التوالي. ورغم التسليم بأن الخطر الذي تشكله هذه الجماعات سيظل قابلاً للإدارة، فإن منع الهجمات سيتطلب جهودًا متواصلة لمكافحة الإرهاب، لكن هذه الجهود قد تغيرت طبيعتها لدى الولايات المتحدة بشكل أساسي، فلم تعد قائمة على التدخل العسكري المتسع ولكن من خلال القوى المحلية، فمع تراجع الدعم العام لمثل هذه الجهود، وانتشار الجماعات الجهادية في كثير من البلدان، غالبًا ما تلجأ وكالات الجيش والمخابرات الأميركية الآن إلى تدريب وتجهيز القوات المحلية التي يمكن أن تكون بمثابة رأس رمح مكافحة الإرهاب.

وهناك نقطة جديرة بالإشارة هنا، وهي أنه بالرغم من 20 عامًا من العنف الإرهابي المحدود في الولايات المتحدة، فإن استطلاعات الرأي تظهر أن عدد الأميركيين القلقين "جدًا" أو "إلى حد ما" بشأن الإرهاب لا يزال مرتفعًا بل قد زاد في السنوات الأخيرة، وبالتالي فإن أية عملية إرهابية كبيرة في الداخل الأميركي أو في الخارج يسقط فيها عدد كبير من الضحايا الأميركيين، من شأنه أن يجعل تهديد الإرهاب بكل مكوناته يتصاعد مرة أخرى ليعيد تشكيل أولويات الأمن القومي الأميركي بما له من تأثير على العالم.

خلاصة هذه السمة هي الانتقال في الحرب على الإرهاب من الحروب الأبدية إلى الحروب المختارة، ومن القضاء على الإرهاب إلى التعايش معه، كما بات مطروحا التعايش مع كورونا أيضا.

العداء مع الصين يثير العديد من الأسئلة التي سيتأثر بها العالم من جوانب متعددة، وما يهمنا منها في هذا المقال هو: هل الصينيون أصبحوا "هم" الجديدة مقابل "نحن" المستمرة، بمعنى استبدال الصينيين بالمسلمين، أم سيظل العداء تجاه الإسلام والمسلمين مستمرا ويضاف لجواره أو ممتزجا معه أعداء جدد؟ سؤال يستحق المتابعة في قادم الأيام.

2. من 11 سبتمبر إلى 6 يناير

بمعنى إدراك خطورة اليمين المتطرف، فقد بلغت الزيادة في عنفه ذروتها في هجوم 6 يناير/كانون الثاني على مبنى الكابيتول الأميركي، ذلك الهجوم الوحشي الذي غذته أفكار اليمين المتطرف التي أصبحت سائدة.

في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا ونيوزيلندا، تم عام 2010 تسجيل هجوم إرهابي يميني متطرف واحد فقط في تلك الأماكن، لكن في عام 2019، كان هناك 49 هجوما، وهو ما يمثل ما يقرب من نصف جميع الهجمات الإرهابية في تلك الأماكن، وقد أسفر عن 82% من جميع الوفيات المرتبطة بالإرهاب هناك.

التغييرات جارية في الولايات المتحدة أيضا؛ ففي أكتوبر/تشرين الأول 2020، أعلن تقييم التهديد السنوي لوزارة الأمن الداخلي أن التطرف العنيف المحلي (ويقصد اليميني) هو التهديد الأكثر إلحاحًا وفتكًا الذي يواجه البلاد.

ولكن لا يزال السؤال مطروحا: هل محاربة اليمين المتطرف تلغي صدام الحضارات الذي دشنته حقبة سبتمبر/أيلول، أم تغذي صراع الهويات التي من المتوقع تصاعدها العقدين المقبلين لأسباب عديدة؟ بعبارة أخرى هل يتم التخلي بشكل كامل عن المنطق الحضاري الذي شجع الحرب على الإرهاب -أحيانًا بوعي وأحيانًا عن غير قصد؟ وهل يجب على سلطات مكافحة الإرهاب أن تتخلص من السياسات والرسائل المبنية على فكرة أن الإسلام يشكل تهديدًا للحضارة الغربية، وهو ما ساعد في خلق نوع من الرافعات الأيديولوجية التي بنى عليها اليمين المتطرف حركته؟

3. من الخطر الأخضر إلى الخطر الأصفر

فالعداء مع الصين هو الأولوية التي هي محل اتفاق بين الحزبين في الولايات المتحدة الآن، وبموجبه ستتم إعادة صياغة كثير من الأولويات الداخلية، مثل الاستثمار في التكنولوجيا ومراجعة سلاسل التوريد، والخارجية مثل الاهتمام بآسيا والمحيطين الهادي والهندي، بالإضافة إلى أنماط التحالفات.

العداء مع الصين يثير عديد الأسئلة التي سيتأثر بها العالم من جوانب متعددة، وما يهمنا منها في هذا المقال هو: هل الصينيون أصبحوا "هم" الجديدة مقابل "نحن" المستمرة، بمعنى استبدال الصينيين بالمسلمين، أم سيظل العداء تجاه الإسلام والمسلمين مستمرا ويضاف لجواره أو ممتزجا معه أعداء جدد؟ سؤال يستحق المتابعة في قادم الأيام.

بعبارة أخرى، فإن أحد مرتكزات سبتمبر/أيلول "هم" و"نحن": الفسطاطان كما قالها بوش وبن لادن، فهل يظل هذا المنظور قائما في الصراع الدولي الجديد؟

4. أجندة جديدة للأمن العالمي

بدت أجندة واشنطن العالمية تشبه تلك التي وصفها بايدن في خطابه أمام مجموعة الدول السبع الكبرى في أبريل/نيسان الماضي: تنظيم العالم لمكافحة تغير المناخ، وتعزيز أنظمة الصحة العالمية، والتركيز على آسيا مع احتواء روسيا، ويضاف إليها تحالف الديمقراطيات ودعمها على المستوى الدولي، إلا أن تنشيط الديمقراطية العالمية لا يتوافق مع حرب عالمية دائمة على الإرهاب والتي قامت من قبل على دعم الاستبداد وانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان.

بعبارة أخرى يجب أن يتغير ميزان المفاضلات في الإطار الدولي، ويجب أن تكون المساعدة العسكرية الأميركية مشروطة باحترام حقوق الإنسان، فهل يمكن أن نشهد ذلك في الحقبة الجديدة؟

5. إعادة تموضع للشرق الأوسط الكبير

في الإستراتيجيات العالمية: أشارت الولايات المتحدة إلى خيارها لإعادة التوازن بين الموارد والالتزامات في الخارج وبعيدًا عن المنطقة (الانسحاب من أفغانستان أحد تجليات ذلك). غيّر هذا الخيار ميزان القوى الإقليمي، وتحدى في نهاية المطاف فعالية الولايات المتحدة كمزود خارجي للأمن في المنطقة، مما أدى إلى فراغ في النفوذ والقوة سعى لاعبون آخرون لملئه. امتدت المنافسة على المنطقة تدريجيا -ولكن بشكل مطرد- لتشمل مجموعة أوسع بكثير من اللاعبين مما كانت عليه في الماضي.

إن الخيار الأميركي بتقليص الانخراط في المنطقة قد مهد الطريق لعودة روسيا وزيادة الحضور الصيني من مدخل اقتصادي لا أمني. ورغم المصالح الروسية الواضحة في المنطقة، فإنه لا يبدو أن موسكو مستعدة لتحمل عبء الهيمنة فيها، أو أنها تريد ذلك. لروسيا مصلحة قوية في الحفاظ على سياسات خارجية متنوعة توفر المرونة وقوة المساومة الإضافية مع خصومها، فضلا عن منصات مختلفة لاستخدام القوة الصلبة والناعمة في المنطقة وخارجها.

يُنظر إلى روسيا على أنها وسيط قوي ملتزم بالاستقرار في الشرق الأوسط، في حين أن قدرتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية قد تحد من قدرتها على الوفاء بهذا الدور. وينظر إلى الولايات المتحدة على أنها تقلص من التزاماتها في المنطقة بالرغم من استمرار المصالح والاستثمارات والقدرة الفائقة لضمان الأمن الإقليمي.

على الرغم من أن الشرق الأوسط لا يعتبر مجال التأثير الجيوسياسي الأساسي للصين (وهو تمييز مخصص لشرق بحر جنوب الصين وآسيا)، فإن المنطقة ذات أهمية أكبر لبكين من أي وقت مضى. تنظر الصين الآن إلى الشرق الأوسط على أنه امتداد لأطرافها، وتسعى إلى تطوير العلاقات مع دول المنطقة لتأمين واردات الطاقة، وتأمين الصادرات عبر الطرق التي تمر بالمنطقة، وعلى المدى الطويل فإنها ترغب في زيادة نفوذها الإقليمي على حساب الولايات المتحدة.

حكمت علاقة القوى الكبرى بالمنطقة بعد انتهاء الحرب الباردة -إذن- منطق الحفاظ على الوضع القائم، وقد مثل تدخل الرئيسين بوش الابن بعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001، وأوباما أثناء انتفاضات الربيع العربي، استثناء من ذلك. بعبارة أخرى، هناك طلب من الفاعلين الدوليين جميعا على الاستقرار في المنطقة، ولكن لم يكن بوسعهم التركيز على الترويج لبنية أمنية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، بل على الاحتواء الجغرافي لانعدام الأمن الإقليمي. وبعبارة أخرى، بات عليهم أن يقبلوا "زمن الاضطرابات" الشرق أوسطي المستمر باعتباره ظاهرة تاريخية محددة سلفًا، يكون للجهات الخارجية تأثير محدود للغاية عليها، إن وجد أي تأثير على الإطلاق. صار هدفهم أنه لا يجب محاولة "إصلاح" المنطقة، ولكن الحد من الآثار السلبية لمشاكل الشرق الأوسط على مناطق أخرى من العالم.

لا توجد عوامل خارجية يمكن أن تؤثر بشكل كبير على التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأساسية في منطقة الشرق الأوسط منذ بداية الربيع العربي، ومن المحتمل أن تكون المنطقة في بداية تحول طويل، حيث تكون الديناميتان الداخلية والإقليمية أكثر حسماً بكثير من التأثيرات الخارجية.

إن منظور القوى الكبرى في هذه المرحلة من أزمة المنطقة المتعددة الجوانب والأبعاد: سيكون من غير المجدي البحث عن حل شامل للمشكلات الإقليمية، ومن غير المرجح أن ينجح نهج "مقاس واحد يناسب الجميع"، ويبدو أكثر إنتاجية أن تتخذ القوى الكبرى نهجا في البحث عن حلول محددة لكل حالة نزاع على حدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.