الرياضة.. كيف أصبحت القوة الناعمة للدول وحصانها الرابح في سياستها الخارجية؟

Soccer: CONCACAF Gold Cup Soccer-Qatar at USA
Soccer: CONCACAF Gold Cup Soccer-Qatar at USA (REUTERS)

تزايد استخدام مفهوم الدبلوماسية الرياضية خلال العقدين الماضيين، وأصبح يحتل مكانه داخل عالم الدبلوماسية العامة الذي يتطور ليشكل أساسا لبناء علاقات طويلة الأمد بين الشعوب.

وقد أصبح هناك قدر من الاتفاق على أن الرياضة أصبحت وسيلة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول وبناء قوتها الناعمة، وتشكيل صورتها الذهنية، ووضع قضايا سياسية على الأجندة الدولية.

لذلك فإن تحليل الأحداث الرياضية لا بد أن يتجاوز وصف وسائل الإعلام للأحداث، ليستهدف دراسة اتجاهات الرأي العام نحو هذه الأحداث، وصور الدول التي تتشكل من خلالها، وتؤثر علي مواقف الشعوب، وإمكانيات بناء العلاقات الدولية.

وفي الكثير من الأحيان تعبر الجماهير خلال الأحداث الرياضية عن مشاعرها الحقيقية تجاه الدول الأخرى، وهو ما يمكن أن يوضح لكل دولة الفرص التي يمكن أن تستغلها لبناء صورتها الذهنية وقوتها الناعمة، كما يمكن أن يشير إلى المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها الدولة نتيجة إثارة مشاعر الجماهير، وعدائها لدولة معينة.

هذا الأسلوب يوضح خطورة عدم فهم الدبلوماسية الرياضية واستخدامها في بناء علاقات طويلة الأمد بين الشعوب، وضرورة تأهيل خبراء لإدارة الدبلوماسية الرياضية، حيث كان يمكن استخدام الحدث لتطوير العلاقات بين مصر والجزائر.

لذلك يمكن أن تعرض الأحداث الرياضية العلاقات الدولية للخطر، وتؤدي إلى تشويه صور الدول.

إن الدبلوماسية الرياضية أصبحت تحتاج لتأهيل خبراء لدراسة مشاعر الجماهير، واتجاهات الرأي العام والصور الذهنية، وكيفية استغلال الأحداث الرياضية لتطوير السياسة الخارجية للدولة، وبناء علاقاتها الدولية.

حساسية الجماهير

الدبلوماسية الرياضية هي وسيلة اتصال بالشعوب، لكن استخدامها يجب أن يكون في ضوء دراسات متعمقة، فهي دبلوماسية تتميز بالجاذبية، وإمكانيات تعبير الشعوب عن آرائها في السياسة الخارجية لدولها، واكتشاف مشاعر الجماهير وحساسيتها لقضايا معينة.

وهناك الكثير من الأحداث التي توضح أن الدبلوماسية الرياضية يمكن أن تحقق أهدافا لحركات التحرر الوطني، والشعوب التي تكافح للحصول على حقوقها، فلقد شكل استبعاد الفيفا لجنوب أفريقيا عام 1961 انتصارا لحركة الكفاح ضد التفرقة العنصرية، حيث ظلت جنوب أفريقيا مستبعدة من المشاركة في مباريات كرة القدم الدولية من عام 1961 حتى عام 1992، وقد اضطر النظام العنصري إلى إجراء إصلاحات لتصوير نفسه بأنه تخلى عن العنصرية لكي يتمكن من إنهاء عزلته والعودة للمشاركة في المباريات العالمية.

وتعتبر تلك أهم الأمثلة على نجاح الدبلوماسية الرياضية، واستخدامها لتحقيق أهداف طويلة الأمد، فشعب جنوب أفريقيا يذكر الفضل للشعوب التي ساندته في كفاحه، وعملت على عزل النظام العنصري.

وكان ذلك يعود إلى كفاح الدول الأفريقية الذي قادته نيجيريا، حيث قامت الدول الأفريقية عام 1978 باتخاذ قرار بمقاطعة دورة ألعاب الكومنولث بسبب علاقات نيوزيلندا الرياضية بنظام جنوب أفريقيا العنصري.

لذلك استخدم قادة جنوب أفريقيا الذين تم انتخابهم بشكل ديمقراطي عام 1994 الدبلوماسية الرياضية لبناء صورة جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد العنصرية، وساهم ذلك في زيادة القوة الناعمة للنظام الديمقراطي في جنوب أفريقيا، وقدرته على بناء علاقات طويلة الأمد مع الشعوب الأفريقية.

التكامل بين الثقافة والرياضة

ترتبط الدبلوماسية الرياضية بالدبلوماسية الثقافية، ويمكن أن تؤدي إلى تقوية المبادئ السياسية وتكامل السياسات، حيث استخدمت الدول الأوروبية الدبلوماسية الرياضية لتحقيق أهداف إستراتيجية من أهمها زيادة الارتباط الثقافي بين شعوب القارة الأوروبية، وتقوية الاتحاد الأوروبي، وتحقيق التكامل الاقتصادي وزيادة العلاقات التجارية.

هذا يفتح المجال لتطوير نظرتنا للرياضة، فهي ليست مجرد مباريات رياضية، لكنها مناسبات يتم فيها التعبير عن الشعوب ومواقفها من القضايا، والتعبير عن الرأي العام، والتحذير من خطورة الصور النمطية على العلاقات بين الشعوب.

فكثيرا ما تنطلق الجماهير في تعاملها مع الشعوب الأخرى من صور نمطية شكلتها وسائل الإعلام كما حدث في المباريات الرياضية بين مصر والجزائر، حيث كانت وسائل الإعلام المصرية تعمل على تعبئة مشاعر الجماهير المصرية ضد الشعب الجزائري، وذلك بهدف صرف انتباه الشعب المصري عن أحداث داخلية مثل رفع الأسعار.

وهذا الأسلوب يوضح خطورة عدم فهم الدبلوماسية الرياضية واستخدامها في بناء علاقات طويلة الأمد بين الشعوب، وضرورة تأهيل خبراء لإدارة الدبلوماسية الرياضية، حيث كان يمكن استخدام الحدث لتطوير العلاقات بين مصر والجزائر.

كما تظهر خلال المباريات الرياضية الكثير من الفرص لتعبير الشعوب عن هويتها ومواقفها واعتزازها بكفاحها وتاريخها.

الدبلوماسية الرياضية وإدارة الصراع

لذلك يمكن أن تستخدم الدول الدبلوماسية الرياضية لإدارة صراعها مع دول أخرى، لذلك أنشأت وزارة الخارجية الأميركية قسما للدبلوماسية الرياضية عقب أحداث 11 سبتمبر بهدف الوصول إلى الشباب في الشرق الأوسط عن طريق الرياضة والتأثير عليهم.

وقالت وزارة الخارجية الأميركية إن التبادل الرياضي بين الشعوب يفتح الأبواب لمشاركة المجتمعات، وبناء العلاقات بينها وإن الرياضة وسيلة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية مثل تمكين الشباب والمساواة بين الجنسين وحل الصراعات.

وهناك الكثير من البرامج التي يقدمها قسم الدبلوماسية الرياضية في وزارة الخارجية الأميركية مثل برنامج المبعوثين الرياضيين الذي يقوم على إرسال مدربين رياضيين للالتقاء بالشباب، وشرح أهمية الرياضة للصحة، وبرنامج الزيارات الرياضية الذي يستضيف الرياضيين والمدربين والإداريين في الولايات المتحدة.

وهذا يعني أن الدبلوماسية الرياضية تستهدف التأثير على الرياضيين، واستخدامهم للتأثير على الجمهور الذي يحبهم ويشجعهم، وهذا يفتح المجال لتطوير الدبلوماسية الرياضية لتصبح أداة لبناء القوة الناعمة للدول، وتحقيق أهداف سياستها الخارجية واستخدام الرياضة للتغلب على الخلافات والعداء والصراعات بين الشعوب.

الدبلوماسية الرياضية والعولمة

ولذلك ارتبطت الدبلوماسية الرياضية بالعولمة، وتحقيق منظومة من الأهداف المرتبطة بها مثل إقناع الشعوب بتحقيق التنمية المستدامة، وموجهة المخاطر التي تهدد الأمن العالمي، وبناء العلاقات الدولية على أسس جديدة.

لذلك تطور مفهوم الدبلوماسية الرياضية حيث أصبحت وسيلة يستخدمها صناع القرارات والوكالات الدولية لخلق علاقات أقوى بين الشعوب، كما تطورت مفاهيم أخرى مثل الدبلوماسية الرياضية من أجل التنمية والسلام، والتغلب على الخلافات بين الشعوب وخلق فرص للتعاون بينها.

بناء سمعة الدولة

لذلك صممت أستراليا إستراتيجيتها لاستخدام الدبلوماسية الرياضية لبناء سمعتها التي تقوم على أنها دولة تعمل لبناء شراكة مع الدول الأخرى، وزيادة العلاقات التجارية معها، والمساعدة على تطوير اقتصادها، وأنها تستخدم الدبلوماسية الرياضية لزيادة إمكانيات تحقيق السلام حول العالم.

كما أن الدبلوماسية الرياضية تشكل وسيلة لخلق حوار دائم بين الشعوب، ونقل المعرفة لها، والتأثير على فئات معينة داخل الشعوب مثل الشباب والنساء.

الرياضة والتطبيع

في ضوء ذلك يمكن أن نفهم أهداف إسرائيل من العمل بشكل متواصل طوال العقود الماضية للمشاركة مع رياضيين عرب، أو فرق رياضية عربية في مباريات أو أي شكل من المنافسات الرياضية، حيث تدرك إسرائيل أن التطبيع مع النظم والحكومات غير قابل للاستمرار، وأن الشعوب ترفض هذا التطبيع، وتعتبر أن المشاركة مع أية فرق رياضية إسرائيلية خيانة لقضية العرب الأولى، وهي قضية فلسطين.

وكل الشعوب العربية تعبر عن إعجابها وحبها للرياضيين الذين يعبرون عن ارتباطهم بقضية فلسطين ورفضهم للتطبيع مع إسرائيل.

وقد احتل محمد أبو تريكة مكانته في قلوب كل الشعوب العربية عندما عبر عن تعاطفه مع غزة ضد العدوان الإسرائيلي، وقدم التضحيات التي تتناسب مع نبل الموقف، وشرف المبدأ وعلو الهمة.

وقد ظهر ذلك واضحا في تعبير الشعوب العربية عن حبها وإعجابها بالرياضيين العرب الذين قرروا الانسحاب وعدم المشاركة مع لاعبين إسرائيليين، كما عبرت الجماهير عن كراهيتها واحتقارها للاعبة السعودية التي قبلت المشاركة مع لاعبة إسرائيلية.

ولقد كان الفخر واضحا على مواقع التواصل الاجتماعي بموقف لاعب الجودو الجزائري فتحي نورين الذي انسحب من أولمبياد طوكيو لرفضه مواجهة اللاعب الإسرائيلي، وقال "لقد عملنا بجد للتأهل للألعاب لكن القضية الفلسطينية أكبر من ذلك، وأنا أرفض التطبيع مهما كلفني الغياب عن الألعاب الأولمبية.. فإن الله سيعوضني عن ذلك".

كما افتخر العرب برفض لاعب الجودو السوداني محمد عبد الرسول مواجهة لاعب إسرائيلي، وانسحابه من المنافسة.

لقد قام فتحي نورين ومحمد عبد الرسول بدور دبلوماسي في التعبير عن الرأي العام العربي الرافض للتطبيع، وهو موقف أكبر وأهم من الفوز في المسابقة، ولقد أصبح لهما مكانة مهمة في قلوب كل العرب.

ولكن السؤال ماذا لو قام كل الرياضيين العرب والمسلمين بمقاطعة إسرائيل ورفض اللعب أمامها؟ هل يمكن أن تعاني إسرائيل من العزلة كما عانت جنوب أفريقيا في مرحلة النظام العنصري؟

والرياضيون العرب الذين سيعبرون عن تمسكهم بمبادئهم، ويرفضون التطبيع يمكن أن يكسبوا قلوب العرب وأرواحهم وحبهم وإعجابهم.

هذا هو دور الدبلوماسية الرياضية العربية الذي يمكن أن يسجله التاريخ كنموذج للنجاح في تحقيق الأهداف، وبهذا الموقف يمكن أن نطور الدبلوماسية الرياضية العربية.

ومن المؤكد أن شعب الجزائر الذي عبر عنه فتحي نورين بموقفه الشجاع يستحق إعجاب البشرية كلها بكفاحه ضد الاستعمار الفرنسي، واستلهام تجاربه كشعب فاعل في التاريخ، وكذلك الشعب السوداني الذي ينتمي له محمد عبد الرسول.

كما أن الأمة العربية التي ينتمي لها فتحي نورين ومحمد عبد الرسول سوف تنتفض يوما لتنتزع حقها في الحرية والديمقراطية وتحرير فلسطين، فهي أمة حية لا يمكن أن تموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.