عندما صرخ كامل زهيري: "النيل في خطر".. تمكن شعب مصر من وقف المخطط الإسرائيلي

blogs السادات
(مواقع التواصل)

تحذير المجتمع من الأخطار من أهم الوظائف التي تقوم بها الصحافة الحرة، لذلك تقل قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات عندما تقيد السلطات الصحافة، لأنها لا تحصل على المعرفة؛ فالمعرفة من أهم الأسس التي تقوم عليها قوة المجتمع.

وتحكم إثيوبيا في مياه النيل من أهم الأخطار التي تواجهها مصر، فأين الصحافة من هذا الخطر؟ وهل حذرت المجتمع منه ووفرت له المعرفة لمواجهته؟!

ولكي ندرك أهمية دور الصحافة فإننا نعرض تجربة مهمة في تاريخ مصر؛ عندما قاد كامل زهيري نقيب الصحفيين سابقا المقاومة للفكرة التي طرحها الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1979 بتحويل مياه النيل لإسرائيل؛ فلقد كانت الفكرة -كما وصفها كامل زهيري- كارثة.

كان السادات يعشق المظاهر والأبهة والشهرة ويريد إرضاء الغرب الذي وفّر له ما يشبع احتياجاته النفسية من مديح مبالغ فيه، وإسباغ أوصاف البطولة والشجاعة عليه

وقدم السادات -في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 1980- أسوأ تبرير لفكرته، حيث قال إننا نقذف في البحر الأبيض المتوسط أكثر من 6 مليارات متر مكعب من المياه العذبة".

والغريب أن الصحف الحكومية تبنت الفكرة، وهذا يوضح خطورة تقييد حرية الصحافة وتبعيتها للسلطة.

من بنات أفكار السادات

لكن، هل كانت فكرة نقل مياه النيل لإسرائيل من بنات أفكار السادات؟ ولماذا يمكن أن يقدم حاكم مثل هذا التنازل الذي يشكل جريمة في حق دولته؟ ويقدم مبررا لإثيوبيا لتقليل حصة مصر من مياه النيل؟

لو درسنا الظروف التي أدلي خلالها السادات بتصريحه، فإننا نكتشف خطورة الحكم الفردي الاستبدادي، وإمكانات استغلال العدو عوامل ضعف الحاكم المستبد للتحكم فيه والحصول منه على تنازلات.

فلقد كان السادات يعشق المظاهر والأبهة والشهرة، ويريد إرضاء الغرب الذي وفّر له ما يشبع احتياجاته النفسية من مديح مبالغ فيه، وإسباغ أوصاف البطولة والشجاعة عليه.

واستغلت الصحافة الرسمية المصرية ذلك، فكانت تنقل التصريحات التي تشيد بالسادات، وتبالغ في مدحه، وتستخدمها في الهجوم على المعارضة التي لا تفهم الأهمية العالمية للسادات، وأنه "أشيك" رجل في العالم؛ فكيف يمدحه قادة العالم وأنتم تهاجمونه؟! وأدى ذلك إلى زيادة غرور السادات، وسخطه على الصحف المعارضة، خاصة جريدة الشعب التي قام بإغلاقها عام 1981 قبل خطابه الشهير في الخامس من سبتمبر/أيلول، الذي وصفته الصحف الحكومية بأنه ثورة جديدة.

المبالغة في الاستقبال

يصف كامل زهيري رحلة السادات إلى حيفا في الرابع من سبتمبر/أيلول 1979، التي قدّم فيها وعده لإسرائيل بنقل مياه النيل إليها، حيث قال: كانت الرحلة نفسها غريبة؛ فلقد تمت على الباخرة المصرية "الحرية" التي بُنيت في عهد الخديوي إسماعيل، وكانت تعد أقدم قطعة بحرية تجوب البحار في العالم، واستقبلت إسرائيل باخرة السادات بتشكيلات من الطائرات، و10 سفن إسرائيلية من حاملات الصواريخ.

كان الأمر أشبه "بزفة بلدي" (كما يقول أهل مصر) هدفها إرضاء غرور السادات، وإشعاره بالأهمية وبترحيب إسرائيل المبالغ فيه، لذلك "فرقع" -طبقا لتعبير كامل زهيري- فكرته عن تحويل مياه النيل للقدس والنقب.

فهل كان ذلك مجرد "نقطة" كما يحدث في الأفراح الشعبية، و"الغاوي ينقط بطاقيته". وأنا أعتذر عن استخدام الكلمات العامية، لكن الخطب جلل، ويثير السخرية.

ولماذا كانت الرحلة الغريبة؟ وماذا كان هدفها؟ هل يمكن أن نصدق أن تلك الرحلة كانت بهدف تبكير الانسحاب الإسرائيلي من سانت كاترين بسيناء؟!

إن هذا الهدف يمكن أن يتفاوض عليه وفد يضم دبلوماسيين محترفين من مستويات قليلة. فهل يستحق أن يرحل السادات على الباخرة "الحرية" إلى حيفا ليتم استقباله بكل هذه المظاهر ويتفاوض بنفسه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن.

إذا كان ذلك هو الهدف بالفعل، فإن السياسة انحدرت إلى الهزل، فرئيس الدولة يحتقر نفسه، وينتهك كرامته، ويقلل من شأن دولته.

إن المفاوضات علم له أصوله ونظرياته، وتحديد المفاوضين يتم على أساس الأهداف، لذلك لا يعقل أن يرحل رئيس الدولة بنفسه إلى دولة العدو للتفاوض على تقديم موعد الانسحاب من سانت كاترين، وهو يدرك أن شعبه يرفض هذه الرحلة.

زمزم والوادي المقدس

كان السادات كلف أنيس منصور بإنشاء مجلة "أكتوبر"، التي كان يعتبرها لسان حاله والمعبرة عن سياسته، وكان يتعامل مع أنيس منصور باعتباره كاتم أسراره، فهو الذي يقوم بتسليته برواية القصص له، والتي كان معظمها يدخل في باب الخرافات والنميمة.

وهذه المجلة أعادت نشر تصريح السادات في 24 ديسمبر/كانون الأول 1979، وقالت إن السادات أعطى إشارة البدء في حفر ترعة السلام بين فارسكور والتينة عند الكيلو 25 طريق الإسماعيلية وبورسعيد لتروي نصف مليون فدان، وأضافت المجلة أن السادات طلب من المختصين عمل دراسة علمية لتوصيل مياه النيل إلى القدس، لتكون في متناول المؤمنين المترددين على المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وكنيسة القيامة وحائط المبكى (البراق).

ونقلت مجلة أكتوبر عن السادات قوله: ونحن نقوم بالتسوية الشاملة للقضية الفلسطينية سنجعل من هذه المياه مساهمة من المسلمين تخليدا لمبادرة السلام.

كما نشرت مجلة أكتوبر أن السادات قال: باسم مصر وأزهرها العظيم، وباسم دفاعها عن الإسلام، تصبح مياه النيل آبار زمزم لكل المؤمنين بالأديان السماوية الثلاثة.. ولما كان مجمع الأديان في سيناء بالوادي المقدس طوى رمزا لتقارب القلوب في وجهتها الواحدة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فكذلك ستكون هذه المياه دليلا جديدا على أننا دعاة سلام وحياة وخير.

أكبر من مجرد تصريح

يقول كامل زهيري إن رئيس هيئة تخطيط المياه في إسرائيل -واسمه المهندس اليشع كيلي- كتب مقالا عام 1974 يقترح فيه شراء مياه النيل من مصر بعد إتمام عملية السلام، لحل أزمة المياه القائمة في إسرائيل.

وهذا يثير كثيرا من التساؤلات، ومن أهمها: ما الذي دفع رئيس هيئة تخطيط المياه الإسرائيلي إلى أن يتوقع عام 1974 أن السلام بين مصر وإسرائيل سيتحقق بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بشهور قليلة، والتي حققت فيها مصر نصرا تفخر به، وكان دليلا على أنها قادرة على تحقيق أهدافها بالحرب؟

كان الوقت ما زال مبكرا عام 1974 على هذا التوقع، ولم تكن هناك مؤشرات على إمكانية تحقيق سلام بين مصر وإسرائيل، خاصة أن الرأي العام في كل الدول العربية كان يرفض التفاوض المباشر مع العدو الصهيوني.

رغم تصاعد مقاومة الشعب المصري للتطبيع، وهجوم صحافة المعارضة -خاصة جريدة الشعب- على السادات بسبب هذا التصريح، فإن التخطيط لتنفيذ الفكرة لم يتوقف؛ ففي عام 1980 زار مصر وفد إسرائيلي لبحث إمكانيات التعاون في مجال الزراعة، وعرض الوفد مشروع تحويل ملياري متر مكعب إلى النقب.

لكن ما علاقة هذا المشروع بغضب السادات في سبتمبر/أيلول 1981 على المعارضة، وقيامه باعتقال رموزها الذين يشكلون القيادات الحقيقية للشعب المصري من كل الاتجاهات السياسية؟

من الواضح أن هناك علاقة قوية؛ فالسادات شعر بالعجز أمام المعارضة، ولم يعد قادرا على الاستمرار في عملية التطبيع، لذلك انتشر تفسير في ذلك الوقت يقول إن السادات يريد أن يتحفظ على الرموز الوطنية حتى يكتمل انسحاب إسرائيل من سيناء.

ولقد جاء اغتيال السادات في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1981 ليشكل نهاية هذه المرحلة، لتبدأ مرحلة جديدة في تخطيط إسرائيل لتنفيذ هدفها في الحصول على مياه النيل، ويتزايد الخطر على النهر الذي يشكل حياة شعب مصر.

ومن المؤكد أن المعارضة المصرية كان لها الفضل في وقف تنفيذ هذه الفكرة مؤقتا، وربما يكون نظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك قد تعلم الدرس من تجربة السادات، وأدرك أن الفكرة يمكن أن تثير غضب الشعب المصري وسخطه على النظام.

كان هدف السادات هو التخلص من كامل زهيري ومن معارضة النقابة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل والتحكم في الصحفيين

لذلك التفت إسرائيل لتتحالف مع إثيوبيا، ولتتحكم في مياه النيل من المنبع، ولترغم مصر على قبول نقل مياه النيل إلى إسرائيل.

الأيام قادمة، وستكشف كثيرا من الحقائق التي من أهمها أن الصحافة الحرة يمكن أن تحمي الدولة من مخاطر قد تهدد الحياة والوجود، ولأنه في الليلة الظلماء يُفتقد البدر، فإن مصر يمكن أن تتذكر كامل زهيري وجريدة الشعب ورموز المعارضة الذين أوضحوا للسادات أن شعب مصر يرفض التطبيع، ويعتبر الكيان الصهيوني العدو.

ولقد قاد كامل زهيري نقابة الصحفيين المصريين التي كافحت ضد التطبيع مع إسرائيل، وأثبت أن تلك النقابة يمكن أن تقوم بدورها في الدفاع عن حق مصر في صحافة حرة تحذر البلاد من الاستبداد المرتبط بالفساد.

كان كامل زهيري قائدا حقيقيا للصحفيين المصريين، وكان انتخابه تعبيرا عن كفاح الصحفيين من أجل الحرية، ودفاعا عن دورهم ووظيفتهم في الوفاء بحق جماهيرهم في المعرفة.

لذلك حاول السادات إلغاء نقابة الصحفيين وتحويلها إلى ناد اجتماعي بحجة أن السلطة الرابعة يجب ألا تكون لها نقابة، لأنها مثل السلطة القضائية يجب أن يكون لها ناد يشرب فيه الأعضاء الشاي والقهوة.

وكان هدف السادات هو التخلص من كامل زهيري ومن معارضة النقابة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتحكم في الصحفيين.

لذلك تحتاج مصر لنقيب للصحفيين مثل كامل زهيري يقود كفاح النقابة لتحرير الصحافة من تبعية السلطة، وانتزاع حريتها؛ لتتمكن من التعبير عن شعب مصر وحقه في الحياة.

إن من حق شعب مصر أن يدافع عن حياته بكل الوسائل، وأن تكون له صحافة حرة وتجربة ديمقراطية ومعارضة تمنع الحاكم من المساومة على الحقوق، وتمنعه من التفريط في نقطة مياه هي أغلى علينا من دمائنا التي يمكن أن تكون البديل.

هل يمكن أن يتعرض شعب مصر اليوم لهذا الخطر الذي يهددهم بالمجاعة والظمأ والموت لو أن هناك صحافة حرة تحذر من المخاطر وتكشف الحقائق وتوفر المعرفة وتدير المناقشة الحرة، ولو كانت هناك نقابة للصحفيين يقودها كامل زهيري؟

إن الصحافة الحرة تحمي الدول من الانهيار، وهي وسيلة مهمة تستخدمها الشعوب للكفاح من أجل الاستقلال الشامل والديمقراطية، وفي غياب حرية الصحافة ضاع حق شعب مصر في مياه النيل.

اللهم ارحم أستاذي كامل زهيري عضو لجنة مناقشتي للدكتوراه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.