فتاوى الصلح مع إسرائيل: التداخل بين الديني والسياسي

بن زايد و نتنياهو 2
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد

 

أثار إعلان دولة الإمارات قرار التطبيع الكامل مع إسرائيل ردود أفعال متباينة؛ لكن اللافت هو موقف الشيخ عبد الله بن بيه الموريتاني الذي عُين رئيسا لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي؛ فقد أصدر المجلس -برئاسته- بيانا أعلن فيه تأييده ومباركته لهذه الخطوة السياسية. رغم أن هذا بيان وليس فتوى إلا أنه يصدر عن مجلس وظيفته الإفتاء وإضفاء الصفة الدينية على سياسات الدولة. يعالج هذا المقال التداخل بين الديني والسياسي، ويحاجج لإثبات أن الصلح -مع كونه عقدا مصلحيا- يوازن بين الواقعي والمعياري "أو القيمي" بشكل يحفظ الحقوق ويصون المصالح، فهو لا يعني الموالاة كما لا يقتضي التمليك المؤبد للأراضي المغصوبة، كما أن تقدير المصالح بات حقلا تخصصيا ومعقولا لا يختص به فرد.

 

ثمة فتاوى عديدة تتصل بالقضية الفلسطينية بدءا من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الآن، ومن الملاحظ أن الفتاوى الخاصة بالسلام أو التطبيع تأتي -عادة- في سياق أحداث سياسية أو تكون لاحقة عليها. فقد صدرت فتوى بعد قرار التقسيم سنة 1947 بوجوب الجهاد، ثم ظهرت سنة 1956 فتوى أخرى بتحريم الصلح مع إسرائيل، كما صدرت عن لجنة الفتوى بالأزهر في السنة التي وقع فيها العدوان الثلاثي على مصر، ثم صدرت فتوى سنة 1979 في السنة التي شهدت زيارة السادات تل أبيب؛ أوضح فيها الشيخ جاد الحق جواز الصلح مع إسرائيل لتحقيق مصلحة المسلمين (بدّل الشيخ موقفه فيما بعد نتيجة لسياسة إسرائيل). وفي 1995 وقع سجال بين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ يوسف القرضاوي بخصوص جواز الصلح مع إسرائيل، فقد أجاز ابن باز الصلح لتحقيق مصلحة عامة، في حين منعه الشيخ القرضاوي، ورد كل منهما على الآخر محتجا لرأيه ببعض الحجج النصية والتاريخية، وقد جاء هذا الجدل بعد اتفاق أوسلو 1993.

ما هي وظيفة الفتوى، فهل هي رأي استشاري سابق للموقف السياسي أم لاحق ومصحِّح له؟ وهل هي مؤثرة في صياغة القرار أم تكميلية هدفها إضفاء الشرعية عليه؟

تثير هذه الفتاوى سؤالا مركزيا حول العلاقة بين الفتوى والموقف السياسي للدولة؛ فمن الواضح أن مجريات السياسة تؤثر في طبيعة الفتوى سلبا أو إيجابا، ويمكن -في رأيي- رد تعقيدات هذه العلاقة إلى 3 أمور:

الأول: وظيفة الفتوى، فهل هي رأي استشاري سابق للموقف السياسي أم لاحق ومصحِّح له؟ وهل هي مؤثرة في صياغة القرار أم تكميلية هدفها إضفاء الشرعية عليه؟

الثاني: أن موضوع الفتوى هنا -العلاقات الدولية والسلم والحرب- مسألة سياسية مصلحية، وليست مسألة عقدية أو تعبدية، ومن ثم فإن مسألة تقدير المصالح تغدو مسألة جدلية في سياق الدولة الحديثة.

الثالث: أن هذا التداخل بين الفقهي والسياسي -وإن غدا مفهوما- يجب ألا يُخل بوظيفة الفتوى الأصلية، وهي أنها توقيع عن الشارع أو بيان لحكمه -سبحانه- بحسب اجتهاد المفتي ووفق مرجعية ومنهج معروف يتوفر له الاتساق والتعليلات اللازمة.

 

فتحديد الوظيفة شرط مهم للتمييز بين ما هو فتوى وما هو موقف سياسي؛ لأن الموقف السياسي يعبر عن إرادة الحاكم أو النظام السياسي وخياراته، أو عن هذه الجماعة أو ذلك الحزب. وقد استُعملت الفتوى من قبل الأنظمة السياسية والحركات الإسلامية على السواء بوصفها أداة من أدوات المعارضة أو لإضفاء الشرعية على القرارات السياسية أو الحزبية، وبهذا لم تعد إرادة الشارع هي المحرك الرئيس للفعل أو الذي يصوغ الموقف؛ بل باتت الفتوى سلاحا يُستخدم لأهداف محددة مسبقا، ويمكن -في رأيي- الكشف عن ذلك من خلال لغة الفتوى ومبناها ومرجعيتها والمنهج المتبع فيها، وما إذا كانت مطابقة لقواعد الفقه الذي تنتسب إليه أم لا.

 

تضعنا هذه التعقيدات أمام إحدى المعضلات التي يواجهها الفقه، خاصة في باب أحكام السلم والحرب والجهاد (العلاقات الدولية)، وكيفية تنزيلها في سياق الدولة القطرية والنظام الدولي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما سنبحث طرفا منه من خلال فتاوى الصلح مع إسرائيل، وقد شكلت مدخلا مهما للمقاومة والتطبيع على السواء، وقد تَنبه بعض الباحثين الإسرائيليين إلى أهمية فتاوى الصلح في موضوع السلام المفترض لكنه اعتبر كونها فتاوى "رسمية" يجعلها تفتقر إلى الشعبية، وأقربَ إلى التعبير عن موقف السلطة.

يمكن التمييز -في الفتاوى الخاصة بالصلح- بين 3 مداخل:

 

المدخل الأول: الغصب والبغي، فقد رأت لجنة الأزهر سنة 1956 برئاسة الشيخ حسنين مخلوف وعضوية كل من المشايخ عيسى منون ومحمود شلتوت ومحمد الطنيخي ومحمد السبكي؛ أن "الصلح مع إسرائيل كما يريده الداعون إليه لا يجوز شرعا، لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بحقيّة يده على ما اغتصبه"، أما التعاون "مع الدول التي تشد أزر هذه الفئة الباغية… فهو غير جائز شرعا؛ لما فيه من الإعانة على هذا البغي"، ونحوَ هذا سلكت الفتوى الباكستانية اللاحقة التي وقعها عدد من العلماء من بينهم أبو الأعلى المودودي وآخرون.

 

المدخل الثاني: تقييد الصلح بتحقيق المصلحة الشرعية، وفي هذا السياق يمكن أن نورد 3 فتاوى؛ أولها فتوى مفتي مصر الأسبق الشيخ حسن مأمون (ت 1973) رأى فيها أن الصلح جائز؛ "بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين"، وترك تحديد هذه الشروط والقيود لأهل الاختصاص، أما إذا كان الصلح على أساس "تثبيت الاعتداء" فهو باطل. ثانيها فتوى الشيخ جاد الحق الذي قرر أن بدء المسلمين بالصلح جائز؛ ما دام ذلك لجلب مصلحة لهم أو لدفع مفسدة عنهم، وأن قبول المسلمين لبعض الضيم جائز؛ ما دام في ذلك دفع لضرر أعظم. وثالث الفتاوى فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز التي خلص فيها إلى أنه لا مانع -شرعا- من الصلح مع الإسرائيليين؛ إذا اقتضت المصلحة ذلك، "ليأمن الفلسطينيون في بلادهم ويتمكنوا من إقامة دينهم"، وقد أوضح أن هذا الحكم مرهونٌ بـ"الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها".

 

وقد اختلف موقف الشيخ يوسف القرضاوي، ففي اعتراضه على فتوى ابن باز عام 1995، مال إلى النظر المبدئي (كل شيء أو لا شيء) فلا يمكن -برأيه- لشخص احتُل بيته أن يصالح المغتصب على غرفة فيه؛ لكن موقف ابن باز اتسم بالمرونة هنا إذ اعتبر أن ذلك ممكن إذا لم يستطع الشخص استعادة المنزل كله، فيما رأى القرضاوي أن مشكلة فتوى الصلح تتمثل في كيفية تنزيل حكم الصلح على حالة إسرائيل تحديدا (يُسمى تحقيق المناط)، فالسلم الشرعي -في نظر القرضاوي- مرهون بما إذا جنح له العدو؛ لكن "اليهود الغاصبين لم يجنحوا للسلم يوما"، وأن المطلوب "ليس مجرد هدنة"؛ بل الاعتراف بأن الأرض التي اغتصبها الإسرائيليون "أصبحت ملكا لهم وأصبحت لهم السيادة الشرعية عليها"، وهنا لا بد من الاستماع إلى "رأي الخبراء في السياسة والسلم والحرب، الخبراء الثقات المأمونين الذي لا يدورون في فلك الحكام الخونة أو المتخاذلين". لكن بعد مبادرة السلام العربية، وفي مؤتمر القدس تحديدا الذي انعقد سنة 2007، اشترط القرضاوي للتطبيع مع إسرائيل إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يعني التسليم -مرحليا على الأقل- بسيادة إسرائيل على حدود 1948، وهو عودة إلى المدخل المصلحي، وهي النقطة التي ضمّنتها حركة حماس في وثيقتها التي صدرت سنة 2017 حين قبلت بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 دون الاعتراف بشرعية إسرائيل صراحة.

 

المدخل الثالث: المدخل السياسي، وهو تأييد موقف السلطة السياسية بصفتها جهة اختصاص وأعلم بالمصلحة، وهو ما مثّله الشيخ بن بيه حين قال: "إن هذه المبادرة (الإماراتية) هي من الصلاحيات الحصرية والسيادية لولي الأمر شرعا ونظاما"، و"في الشريعة نماذج كثيرة وأصول شرعية ناظمة لمثل هذه القضايا صلحا وسلاما؛ وفقا لما تقتضيه الظروف والمصلحة العامة"، أي أنه رهن القرار بإرادة الحاكم المطلقة، وأن ما يحدده الحاكم هو المصلحة الشرعية.

 

من اللافت أن الفقهاء القدامى نظروا إلى الصلح على أنه عقدٌ من العقود، ومن ثم بحثوا في شروطه الصحيحة والفاسدة، ومن يبرمه، والحقوق والالتزامات المترتبة عليه من الناحية الدينية والقانونية

وبالعودة إلى المصادر الفقهية، نجد أن باب الصلح باب مصلحي أساسا، فالفقهاء متفقون على مشروعية الهدنة أو الصلح مع أهل الحرب، ويستدلون لذلك بأدلة من القرآن والسنة النبوية والسوابق التاريخية، فالمسألة ليست مقيدة بما إذا جنح العدو للسلم فقط؛ بل يجوز للمسلمين طلب ذلك في حالة الضعف ابتداء، لكن أحكام هذا الباب مشروطة بتحقيق المصلحة العامة، فلا يكفي لصحة عقد الصلح انتفاء المفسدة فقط (بأن لا يترتب على الصلح ضرر)؛ بل لا بد من حصول مصلحة من ورائه، فعقد الصلح إنما جاز لوجود حاجة ملجئة إليه أو لتحقيق مصلحة متوخاة لدفع ضرر قائم أو لتفادي ضرر متوقع، فإذا انعدمتا لم يُشرع بالاتفاق.

 

ومن اللافت أن الفقهاء القدامى نظروا إلى الصلح على أنه عقدٌ من العقود، ومن ثم بحثوا في شروطه الصحيحة والفاسدة، ومن يبرمه، والحقوق والالتزامات المترتبة عليه من الناحية الدينية والقانونية (الوفاء والإخلال به، وكونه ملزما أو غير ملزم، ومدته…)، ومن ضمن الشروط الفاسدة في عقد الصلح ناقشوا عدة أمور، منها: ما إذا عقد الإمام الصلح مع العدو على شرط بَذْل عوض مالي للعدو (كالجزية لكن معكوسة، يدفعها المسلمون)، وهنا وقع الخلاف، فبعض الفقهاء عدّوه شرطا فاسدا؛ لكن بعض المالكية ذهبوا إلى جواز ذلك في حالة الضرورة فقط، وهو ما عبر عنه الإمام المازري، كأن يريد التخلص من المشركين "عند استيلائهم على المسلمين، وإحاطتهم بهم حتى يصير المسلمون كالأسرى في أيديهم لا ملجأ لهم"، ومن الواضح هنا أن للبعد المصلحي أثرا أيضا في طبيعة الشروط المعتبرة؛ لأنه ردها إلى أصل الضرورة والمصالح المرجوة، وقد حملوا هذه الصورة على حالة فداء الأسرى المسلمين من العدو بدفع عوض لاستخلاصهم، واستدلوا على ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين بذل للمشركين ثلث ثمار المدينة في غزوة الأحزاب.

 

ويمكن أن نلحظ البعد المصلحي كذلك في الخلاف بين الفقهاء حول مدة الصلح أو الهدنة؛ فقد اختلفوا في عقد الهدنة المطلقة (غير محددة المدة)، فذهب ابن تيمية وابن القيم إلى جوازها، ويرجع أصل الخلاف حول المؤقت والمطلق هنا إلى مسألة الإلزام والتأبيد، والحقوق المترتبة على هذا العقد وصلته بالمبدأ الإسلامي الذي ينظم العلاقة بالعدو غير المسلم، فهم متفقون على عدم جواز الصلح الملزِم المؤبَّد؛ لكنهم يجيزون الصلح المؤقت، ويكون ملزما خلال المدة المحددة له فقط، أما الصلح المطلق عن المدة: فمَن تصوره ملزما لم يُجوّزه، ومن تصوره غير ملزم بحيث يجوز نَقضه أجازه، ومدار كل ذلك على تقدير مصلحة المسلمين في الصلح، وهو ما يعيدنا -مجددا- إلى المزاوجة الفقهية بين النظرين: المعياري والواقعي، ما يَعني أن النظر الفقهي هنا ليس نظرا عقائديا بل هو نظر نفعي عملي متحرك بحسب المصلحة العامة، فهو يوازن بين ثبات المبدأ وإمكان وتوقيت تحقيقه، وذلك أن "الأصل في العقود أن تُعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة"، كما قال ابن قيم الجوزية.

 

هذه المرحلية تعصم من الإقرار بالخطأ مطلقا أو من إبطال الحقوق إلى الأبد بحيث يتحول المغتصب إلى حق مكتسب ومن ثم يصبح تمليكا مؤبدا؛ لكن يُقرّ به مرحليا فقط (تمليك مؤقت)، وفي أثناء هذه الهدنة يُلزم -من الجانب الإسلامي- بالواجبات الأخلاقية سواء لجهة الوفاء بالعقود اللازمة (كالهدنة المؤقتة) أم لجهة الامتناع عن الظلم أو العدوان أثناء الهدنة المطلقة، ولذلك يجب إخطار العدو بنية فسخ العقد المطلق عن المدة قبل فترة كافية.

 

وكون الصلح عقدا مصلحيا ينبني عليه أمران:

الأول: أن الصلح مسألة تعاقدية محضة لا تستلزم المودة والموالاة. فموضوع العقد الأمن بين الطرفين، وكفّ بعضهم عن إيذاء بعض، وإجراء المعاملات الدنيوية المتعددة كالبيع والشراء وغيرها على الوجه المشروع.

 

والأمر الثاني: أن الصلح لا يقتضي تمليك المغتصب لما تحت يده تمليكا أبديا؛ بل يقتضي -فقط- تمليكا مؤقتا، ولذلك منع الفقهاء الصلح المؤبد أو أن يكون الصلح المطلق صلحا ملزما؛ لأنه بهذا يقتضي التأبيد، وإنما رهنوه بالمصلحة وإمكان الفسخ عند تحقق المصلحة، كأن يكون بسبب ضعف المسلمين فينتقلوا من حالة الضعف إلى حالة القوة، ما يعني أنه ليس إقرارا بالباطل وتطبيعا معه إلى الأبد، وإنما هو حالة ضرورة واستثناء محكوم بالمبدأ والقيم الإسلامية، ومن هنا نجد أن ابن باز الذي أفتى بجواز الصلح لمصلحة قيّد ذلك بالضرورة والمصلحة وبأن يعود المسلمون إلى القتال عند القدرة عليه (ليس استسلاما)، وهذان أمران يفارقان ما هو قائم اليوم من دعوات التطبيع التي تختلط بالموالاة من جهة، ويتورط بعضها بالاستسلام للرغبات الإسرائيلية وللإضرار بمصالح الفلسطينيين خاصة والمسلمين عامة من جهة أخرى.

 

لكن كيف يتنزل هذا العقد المصلحي؟ وهل ينطبق فقط على الفلسطينيين أم عليهم وعلى غيرهم؟ الذي ذهب إليه ابن باز أنه "لا يَلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة إلى بقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها"، أي المصلحة المعتبرة شرعا، ولكن ترتب على غياب موقف عربي موحد من القضية الفلسطينية أضرار بالغة دفعت الشيخ أحمد الريسوني سنة 2006 إلى القول بجواز إقامة اتفاق سلام دائم أو مؤقت بين الفلسطينيين والإسرائيليين بحكم الضرورة، وهو مشروط -عنده- بالاعتراف بجميع القرارات الأممية بفلسطين كمرجعية للتعايش، وقد اعتبر هذا تنازلا مرحليا، واستند في ذلك إلى بعض القواعد الفقهية مثل: قاعدة الحق قديم فلا يزول بالتقادم، ما يعني عدم إبطال ملكية الفلسطينيين للأرض، وقاعدة الضرر لا يكون قديما فلا يصبح مقبولا بالتقادم، ما يعني إعفاء الفلسطينيين من تحمل عبء لا يطيقونه وحدهم؛ فإن إسرائيل -بحسبه- ضرر وهلاك تجب إزالته، لكن هذه الإزالة ليست مسؤولية خاصة بحماس أو الفلسطينيين وحدهم، بل بالأمة، والتقصير يجب أن يُلام عليه الحكام والجيوش، وقد أثارت الفتوى -التي سماها رأيا- انتقادات عدة في حينها.

 

ينقلنا هذا النقاش إلى مسألة مركزية، وهي أنه ما دامت المصلحة مسألة محورية في الصلح فما هي ومن يقررها؟ أحال بن بيه المسألة برمتها إلى ولي الأمر؛ بحيث صارت مهمة بن بيه وغيره التوقيع الديني على توقيع السياسي فقط، في حين أن مهمته الواجبة هنا هي البيان عن الشارع وفق المنهج المقرر؛ لكنه تستر وراء ولي الأمر وأوحى كما لو أن هذه المصلحة غامضة أو غير معقولة المعنى. في المقابل اشترط الشيخ القرضاوي استشارة الخبراء الثقات المأمونين "الذين لا يدورون في فلك الحكام الخونة". أي إننا بتنا أمام موقفين؛ موقف يعطيها كلها للحكام، وموقف يسحبها منهم لعدم الثقة فيهم. والواقع أن المسألة برمتها إنما تبرمها دول، ما يعني أننا أمام إشكالية الانفصال بين الواقعي والمعياري. فالواقعي يعبر عنه حسابات الحكام الفعليين الذين لا يعبرون عن إرادة الشارع ولا الشعب، والمعياري هو المصلحة الشرعية المفترضة والتي تتبناها حركات هنا وهناك، مما يعيدنا إلى مأزق الفقه في ظل الدولة القطرية والنظام الدولي الحالي.

المصالح السياسية في عالم اليوم لم تعد مسألة غامضة يقدرها ولي الأمر، وذلك لأسباب عديدة، منها أن كثيرا من الولاة هم محل اتهام؛ لأن بناء التحالفات الخارجية باتت سبيلاً للتعويض عن نقص الشرعية الداخلية وبهذا يكون الصلح ضد المصلحة العامة لا لأجلها

توضح الموسوعة الفقهية الكويتية أن المصلحة المبيحة لعقد الهدنة أو الموادعة هي "كل ما يحقق للمسلمين غرضا مقصودا شرعا؛ بأن يكون بالمسلمين ضعف من قلة عدد أو عدة أو مال والعدو قوي، أو بالمسلمين قوة وفي الموادعة مصلحة من نوع آخر بأن يُرجى إسلامهم بالموادعة باختلاطهم بالمسلمين، أو يطمع في قبولهم بذل الجزية، أو يكفوا عن معونة عدو ذي شوكة، أو يعينوا المسلمين على قتال غيرهم من المشركين، إلى غير ذلك من المنافع"، أي إن المصالح هنا متنوعة: دينية ودنيوية تتعلق ببناء التحالفات والإعداد العسكري والمصالح الاقتصادية وغيرها.

 

لكن تحديد المصالح السياسية في عالم اليوم لم تعد مسألة غامضة يقدرها ولي الأمر، وذلك لأسباب عديدة، منها أن كثيرا من الولاة هم محل اتهام؛ لأن بناء التحالفات الخارجية باتت سبيلاً للتعويض عن نقص الشرعية الداخلية وبهذا يكون الصلح ضد المصلحة العامة لا لأجلها، ومنها أن تقدير المصالح بات مسألة تخصصية تنبني على معلومات وتحليلات ثم تقدير موقف كالذي تقدمه مراكز الأبحاث المرموقة، أي إن المصلحة ليست سياسية محضة ولا فقهية محضة. وإنما أُنيطت المصلحة بولي الأمر في كتب الفقه؛ لعلة أنه -وفق تصورات ما قبل الدولة الحديثة- أعرف بالمصالح من أفراد الناس، وذلك لإشرافه على جميع الأمور العامة وهذا تصور مبني على الحكم الفردي لا المؤسسي.

 

ومن طريف المسائل أن الحنفية يرون أنه يجوز عقد الهدنة والموادعة من قبل فريق من المسلمين ولو بغير إذن الإمام، ما يعني أنهم سحبوا هذا الاختصاص من الإمام وأناطوه بالمصلحة العامة، فحيث وُجدت جاز العقد، بغض النظر عمن يقوم به طالما أنه في صالح الجماعة. وهذا أمر عَسِر تصوره في ظل الدولة القطرية، ولكنه يؤكد مجددا تعقيدات المصلحة التي يمكن أن تكون مطية للاستبداد كما فعلت الإمارات وغيرها وساندها بن بيه في ذلك، أو مطية للافتئات على المجتمع كما تفعل جماعات العنف باسم الجهاد وتطبيق الشريعة، وكلا الموقفين ينهجان نهجا انتقائيا ويستخدمان الفقه بطريقة معادية لمصالح شعوب المنطقة؛ بل إن المصالح في هذا السياق باتت مرتهنة اليوم إلى معرفة العدو ومشروعه وسياساته المستقبلية والاستراتيجية، فهي مبنية على موازين قوى وخطط وتحالفات ومناورات، فضلا عن أن ثمة أبعادا قانونية لمثل هذه الاتفاقات (لجهتي الإلزم والملكية)، وهي ستؤثر على مشروعية الصلح من عدمه؛ لأن لها دورا مؤثرا في تحديد المصلحة والضرر المترتب على أي تطبيع، يجسد الشيخ بن بيه -بمواقفه المتكررة من الثورات العربية وفلسطين- النهايات الكارثية لخطاب المصالح التي باتت تُستعمل شعارا للعمل ضد مصالح الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.