"التنوير" من فوهة بندقية فرنسية

ماكرون يعنف شرطيا إسرائيليا.. صورة الأسبوع في "سباق الأخبار"
(الجزيرة)

ما زال نفر من المثقفين والكتاب العرب أوفياء لما يسمى بـ"قيم الجمهورية الفرنسية"، ذلك الفيل الأبيض الذي نسمع عنه ولا نراه، ويدافع عن فرنسا باعتبارها "منارة التنوير"، ومنبع قيم "الحرية والإخاء والمساواة" على غرار الشعار الأثير للثورة الفرنسية. يقولون ذلك رغم أن أكبر شخصية سياسية في فرنسا، ممثلة في رئيسها إيمانويل ماكرون، قد أهال التراب على تلك القيم وقبرها سواء بسلوكه المتعجرف وتصريحاته المتعجرفة تجاه الإسلام والمسلمين، أو باحتضانه وحمايته ورعايته للسلطويين العرب، وفي مقدمتهم الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي، ومجرم الحرب اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر.

قبل أيام تندر الصديق الباحث الأصولي، والمحرّر بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، رائد السمهوري، على صفحته بالفيسبوك على مصطلح "التنويريين" قائلا، ومعه كل الحق "كل تنويري لا يُسهم في فضح الاستبداد فهو تزويري.. أي تنوير تحت ظلال القمع؟"، فاستحضرت قولا مأثورا ذكرته بتصرف مفاده "كلما سمعت كلمة تنوير، تحسست مسدسي". وفي حين كان التنوير أحد أهم نتائج عصر النهضة الأوروبية، الذي بدأ مع أواخر القرن الـ15، فإن ثمة تشويه كبير يتعرض له على أيدي من يُفترض أن يكونوا طليعة التغيير في العالم العربي.

 

كذا وصل الحال بالتنويريين العرب، والفرنسيين، أن يحاضرهم جنرال يداه ملطخة بدماء الأبرياء في مصر وخارجها. ولمَ لا يفعل وهو في حضرة رئيس هو أقرب للسلطوية والاستبداد منه للديمقراطية والحرية، يدافع عن قمع رجال الشرطة للمتظاهرين في بلاده؛ بل يسعى لحمايتهم عبر تشريع تم سنّه بذريعة حماية "الأمن العام"

أما التنوير على طريقة بعض المثقفين العرب، الذين ينعتون أنفسهم بـ"التنويريين"، فيعني ببساطة ليس فقط الانسلاخ من كل ما يمت للهوية العربية وتراثها وحضارتها الإسلامية بصلة، والتماهي مع كل ما هو "غربي" شرطا استباقيا لوقوع التنوير، وإنما أيضا الانسلاخ من كل ما هو قيمي وأخلاقي وإنساني. فمن الصعب أن تكون تنويريا في زمننا هذا بدون أن تطعن في كل ما هو عربي وإسلامي كما يفعل بعض دعاة (أو بالأحرى مدعي) التنوير العربي. ولن تكون تنويريا إلا إذا صمت على بربرية الأصولية السلطوية التي تقطع معارضيها بالمناشير، أو تلقي بهم في غياهب السجون بتهم سياسية ملفقة. ولن تكون تنويريا إلا إذا دافعت عن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، واعتبرته "ذكاء وفطنة وحسن تصرف" من ولي الأمر. ولن تكون تنويريا ما لم تقبل أن تكون تابعا سياسيا، مستلبا ثقافيا، ومنسلخا هوياتيا. والآن أضيف لروشتة التنوير بُعدا جديدا، وهو الوقوف مع فرنسا سواء أكانت على حق أم على باطل، والدفاع عن أصوليتها الإقصائية، ونزق رئيسها الذي يخون علنا قيم "الجمهورية" وأهمها قيمة الحرية.

قبل أيام قام ماكرون، راعي التنوير والتنويريين العرب الجدد، بفرش السجادة الحمراء في قصر "الإليزيه" لجنرال يمارس إرهاب الدولة على مدار الساعة ضد معارضيه، ويعتاش على دمائهم، ويبني شرعيته على حساب أرواحهم وحريتهم. لذا فلم يكن غريبا، والحال كهذه، أن يحاضر الجنرال مستمعيه من الصحفيين الذين حضروا مؤتمره الصحفي، الذي جمعه بماكرون حول مفاهيم الاستبداد والعنف حسب تصوره. فيطلب منهم، بكل وقاحة، بألا يصفوه بالمستبد، وألا يعتبروا بلاده دولة "عنيفة ومستبدة". يقول هذا، وهو يبدو كما لو أنه يعاتبهم، وهو في الحقيقة يتوعدهم، بأن هذا "لا يليق".

هكذا وصل الحال بالتنويريين العرب، والفرنسيين، أن يحاضرهم جنرال يداه ملطخة بدماء الأبرياء في مصر وخارجها. ولمَ لا يفعل وهو في حضرة رئيس هو أقرب للسلطوية والاستبداد منه للديمقراطية والحرية، يدافع عن قمع رجال الشرطة للمتظاهرين في بلاده؛ بل يسعى لحمايتهم عبر تشريع تم سنّه بذريعة حماية "الأمن العام"، ولِمَ لا يفعل وهو في حضرة سمسار حروب، وتاجر صراعات، لا يختلف كثيرا عن "مورد الجنود والمرتزقة"، الجنرال السوداني محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي"، سوى بارتداء رابطة عنق أنيقة، وبدلة رسمية مرتفعة الثمن؛ أي إنه جنرال غير متوّج، وبدون نياشين.

"التنويري" ماكرون، كشأن غيره من التنويريين العرب، يتعامل مع التنوير بالقطعة، وحسب المزاج، وحسبما تقتضيه المصلحة. فهو تنويري فقط عندما يتعلق الأمر بمعاقبة وقمع "مسلمي" بلاده، حينها فقط يستحضر مقولته المُضحكة حول "القيم الإنسانية"، أما حين يتعلق الأمر بالخارج، فالبندقية والرصاص هما الحل ولتسقط أمامهما أية قيمة، هكذا بدا الأمر جليا حين رفض ماكرون، وبدون مواربة، ربط بيع السلاح الفرنسي لصديقه الجنرال المصري، بمسألة حقوق الإنسان. يقول صراحة، وبدون خجل، في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع ضيفه "مبيعات السلاح لمصر غير مشروطة بتحسين حقوق الإنسان". لا يداري الرجل وقاحته، ولو من باب الدبلوماسية والذكاء، وكأن لسان حاله يقول للجنرال الإرهابي اقتل كيفما تشاء، وإذا انتهى رصاصك، سنزودك بغيره.. إنه حقا تنوير برائحة فوارغ الرصاص.

أما مأساة تنويريينا العرب، فهي أنهم يدافعون عن "فرنسا متخيلة" في أذهانهم، فرنسا الثورة في القرن الـ18، التي حطمت أسوار سجن "الباستيل"، وأعدمت الملكية السلطوية في بحثها عن الحرية، وليست فرنسا الحالية التي يتنافس سياسيوها أيهم يكون أكثر يمينية وقبحا في الداخل والخارج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.