الفقيه والمثقف الديني.. جدلية الأدوار وتكاملها

مسجد ولاية في كوالالمبور أحد أكبر المساجد في ماليزيا

تبوأ العمل الفقهي منزلة محورية في عملية تطوير وتجديد الفكر الإسلامي المعاصر ليكون في مستوى الإشكالات التي يفرضها التطور السريع للحياة الإنسانية، وفي مستوى مواجهة بعض الظواهر الفكرية المَرضية التي تنبت في المجال الإسلامي سواء تلك التي تتخذ من التراث الإسلامي مرجعا لها أو تلك التي استبدلته بمرجعيات غربية في عمومها.

فإذا كان دور الفقيه أساسا في جعل المنظومة الفقهية تواكب ما استجد للناس من أقضية ونوازل، وذلك عن طريق استنطاق النصوص الشرعية (القرآنية والحديثية) والإجابة على حاجات الناس المرتبطة بتدينهم وبالقضايا التي تحول دون تحقق هذا التدين (كالتطرف، والغلو، والإرهاب.. في أبعادها ومصادرها المختلفة) والتي تستند إلى النصوص الدينية وغير الدينية، فإن عمله يظل قاصرا في مواجهة الإشكالات التي يفرضها الواقع المعاصر، إذا لم تتم الاستعانة بالخبراء في مجال الفكر والثقافة.

ونشير في هذا السياق إلى أن المفكر أو المثقف الذي نقصده هنا هو ذاك الذي يستند إلى المرجعية الدينية ليس في بعدها الفقهي فقط وإنما باعتبارها رؤية للكون والعالم والحياة.. أي الذي ينظر إلى الدين باعتباره مصدرا للمعنى وليس باعتباره منظومة فقهية أو برنامجا سياسيا.

فإذا كان علماء الدين وفقهاء الشريعة معنيين بإيجاد أجوبة فقهية أحكامية على مختلف النوازل التي يسأل عنها الناس لارتباطها بتدينهم، وإذا كانوا معنيين أيضا بدحض الأسس الفقهية والشرعية التي تستند إليها الأفكار المتطرفة الدينية واللادينية، فإن المثقف أو المفكر الديني معني بإبراز فلسفة الإسلام ومقاصده الكبرى، كما أنه معنيٌّ أيضا بالحفر في الأسس الفكرية والاجتماعية التي تتأسس عليها الأفكار المتطرفة.

المفكر أو المثقف الذي نقصده هنا هو ذاك الذي يستند إلى المرجعية الدينية ليس في بعدها الفقهي فقط وإنما باعتبارها رؤية للكون والعالم والحياة.. أي الذي ينظر إلى الدين باعتباره مصدرا للمعنى وليس باعتباره منظومة فقهية أو برنامجا سياسيا

يقتضي هذا المدخل ضرورة إعادة الاعتبار للعمل الفكري والثقافي في مجال تدبير الشأن الديني في العالم العربي، وهو الأمر الذي يستلزم بالضرورة تَغيير نظرةِ الدول العربية بمؤسساتها المختلفة؛ خاصة الدينية، إلى المثقف الديني.

وفيما يلي بعض النقاط المنهجية التي يمكن اعتبارها من المنطلقات المهمة في مسألة إعادة الاعتبار للعمل الفكري والثقافي داخل الحقل الديني العربي:

– أولا: استدعاء المثقف الديني عندما يتعلق الأمر فقط بالإرهاب والتطرف الذي يمارسه بعض المسلمين باسم الدين، والواجب أن يتم استدعاؤه أيضا عندما يتعلق الأمر بمواجهة الفكر المتطرف الذي يستند إلى موقف متطرف من الدين، والذي يستعمل الفكرَ غطاء للحديث في الدين.

فالفكر الإرهابي يتغذّى من القراءة المتطرفة للدين ومن القراءة المتطرفة ضد الدين؛ فالقراءة الأُولى تؤصل للفكر الإرهابي من الناحية الدينية، أما القراءة الثانية فتُقدم مبررا لهذا الفكر لكي يتبنى منحى صداميا بمكونات المجتمع المختلفة.
ومن هنا فإن المثقف الذي لا يعتقد بمحورية الدين في حياة الناس والمجتمع، لا يمكن أن ينجح في مواجهة الفكر الإرهابي المتطرف، فهذا النوع من المثقفين يمثل مشكلة لا حلا.

– ثانيا: عدم حصر دور المثقف الديني في إطفاء "الحرائق" التي ربما قد تَسبب فيها غيره؛ فالعمل الثقافي الديني أكبر من حصره في العمل "الإطفائي"؛ وكأن مشكلة الإرهاب سببها الوحيد هو القراءات الخاطئة للنصوص الدينية، بمعزل عن الظروف الثقافية والنفسية والاجتماعية المرتبطة بالفعل الإرهابي.

– ثالثا: ينبغي ألا تحدِّد الأزماتُ التي يمر بها المجتمع دَور ووظيفة المثقف الديني ذي المرجعية الإسلامية، بل ينبغي أن يمتلك هذا المثقف رؤية لواقع وتحديات الإسلام في اللحظة العالمية المعاصرة، ومن ثم ستأخذ مواجهةُ الفكر الإرهابي المتطرف -ومختلف الظواهر المرضية في مجتمعاتنا العربية- الحجم الذي تستحقه؛ فدور المثقف الديني ذي المرجعية الإسلامية أكبر من مواجهة التطرف أو الفكر الإرهابي.

وبعد، فإن الحاجة قائمة اليوم إلى انبثاق مؤسسة دينية فكرية قوية تحظى بدعم من الدولة يكون هدفها الأساس الاشتغال على الأسئلة التي تشكل تحديا للإسلام في واقعنا المعاصر، وأن تشتغل على الثوابت الدينية للمجتمعات المسلمة ليس من حيث التأصيل لها والدفاع عنها، وإنما من خلال جعلها تجيب على التحديات القيمية والفكرية والهوياتية التي تجتاح مجتمعاتنا.

ولن يتحقق هذا الأمر إلا إذا أدرك الساهرون على الشأن الديني والعلمي في العالم العربي بأن العلاقة بالدين لا تقتصر على استنباط الأحكام الفقهية كما هو دور الفقيه، وإنما العلاقة بالدين أوسع وتشمل بناء رؤى وتصورات في مختلف المجالات الحياتية انطلاقا من المرجعية الدينية الواسعة.

إن إعادة الاعتبار للمثقف الديني المسلم في العالم العربي وخارجه، والذي يجمع بين الثقافة الشرعية والوعي بالسياق الاجتماعي والثقافي العالمي، محوريّ في بناء خطاب فكري متناغم مع مقاصد الإسلام ومنفتح على القيم الإنسانية المشتركة

إن المتأمل في المشهد الديني في العالم العربي سيلاحظ أن الجهد الأكبر الذي تبذله المؤسسات الدينية والعلمية هناك ينصب بشكل كبير على قضايا التأصيل لتدين المسلمين معتقدا وفقها وسلوكا.. لكن ما يحتاجه واقعنا المعيش يتجاوز مستوى العمل العقدي والفقهي، ويحتاج إلى عمل فكري يفهم حيثيات الواقع ويقدم رؤى قادرة على استيعاب تطوراته المختلفة خاصة تلك المتعلقة بالنزوع نحو التطرف والإرهاب.

فإذا كان عمل الفقيه ينصب بالأساس على نشر المعرفة الفقهية التي يستقيم بها تدين الفرد المسلم، فإن المثقف الديني معني ببناء رؤى بمقدورها أن تضع الإسلام في قلب العصر وتجعله يُسهم في النقاشات الفكرية والمعرفية التي تجتازها الحضارة المعاصرة.

ومن هنا أرى ضرورة انفتاح هذه المؤسسات الدينية على المثقف الديني غير المؤدلج، والذي تحركه دواع معرفية وفكرية أكثر مما تحركه أخرى مرتبطة بالانتصار لهذا الطرف أو ذاك.

إن إعادة الاعتبار للمثقف الديني المسلم في العالم العربي وخارجه، والذي يجمع بين الثقافة الشرعية والوعي بالسياق الاجتماعي والثقافي العالمي، محوريّ في بناء خطاب فكري متناغم مع مقاصد الإسلام ومنفتح على القيم الإنسانية المشتركة.

وقد يكون استيعاب هذا المثقف لقضايا الدين والإسلام والتطرف والإرهاب والأصولية الدينية أكبر من الفقيه المسلم الذي يشتغل على القضايا الجزئية، بل لا نبالغ إن قلنا إن الفقيه المسلم لا يستغني عن عمل المثقف المسلم وقراءاته لأبعاد الواقع المختلفة، ففهم النوازل بخلفياتها الفلسفية والفكرية والثقافية المختلفة يساعد الفقيه في عملية الاجتهاد الفقهي والعمل الإفتائي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.