كيم جونغ أون والتشخيص الخاطئ لشخصيته

FILE PHOTO: North Korea's leader Kim Jong Un speaks during a New Year's Day speech in this photo released by North Korea's Korean Central News Agency (KCNA) in Pyongyang on January 1, 2018. KCNA/via REUTERS/File Photo ATTENTION EDITORS - THIS PICTURE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY. REUTERS IS UNABLE TO INDEPENDENTLY VERIFY THE AUTHENTICITY, CONTENT, LOCATION OR DATE OF THIS IMAGE. NO THIRD PARTY SALES. NOT FOR USE BY REUTERS THIRD PARTY DISTRIBUTORS. SOUTH KOREA OUT.

على مَرّ التاريخ؛ لاحظ المراقبون السياسيون أن صانعي القرار الذين يُعتبرون "مجانين" هم الأكثر صعوبة في التقييم. في الواقع؛ نادرا ما تكون المشكلة نفسية، ويشير التصنيف عادة إلى سلوك مختلف عما كان يتوقعه المحللون التقليديون.

كان هذا بالتأكيد صحيحًا بالنسبة لرشيد الدين سنان القائد الديني (الإسماعيلي) بسوريا خلال القرن الثاني عشر الميلادي. فأثناء الحملة الصليبية الثالثة؛ حقق سنان -الملقب بـ"رجل الجبل العجوز" المجنون- نجاحا ملحوظا في تعطيل تقدم صليبي على القدس، بتوجيه أتباعه لتنفيذ عمليات اغتيال محددة الأهداف.

وبعد تنفيذ أوامرهم، ظل القتلة ينتظرون أن يُقبض عليهم على مرأى ومسمع من السكان المحليين، لضمان حصول قائدهم على الفضل المناسب لهذا الفعل. وحينها، كانت هذه التصرفات غير مفهومة من وجهة نظر الغرب.

كان الغربيون يصفون أتباع الرجل العجوز بـ"الحشاشين" -أو مدمني الحشيش- لأنهم اعتبروا تعاطي المخدرات هو التفسير الوحيد الممكن لهذا التجاهل "غير المنطقي" لرفاهية الفرد الخاصة. لكن الحشاشين لم يكونوا متعاطين للمخدرات بشكل دائم.

صرحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنها لن تتسامح مع تهديد كوريا الشمالية للولايات المتحدة باستخدام الأسلحة النووية. ووفقًا لمستشار ترمب للأمن القومي هربرت ماكماستر؛ فإن موقف الإدارة يعكس اعتقادها بأن كيم شخص مجنون، وأن "نظرية الردع الكلاسيكية" غير ملائمة معه

والأكثر من ذلك، أنهم كانوا ناجحين: لقد أدى اغتيال (القائد الصليبي) كونراد دي مونتفرات (اغتيل 28 أبريل/نيسان 1192م) إلى الانهيار السياسي للائتلاف الصليبي، وهزيمة القائد الإنجليزي ريتشارد الملقب بـ"قلب الأسد". وكما يقول بولونيوس عن هاملت؛ فقد كانت هناك طريقة لجنون الرجل العجوز.

واليوم، ظهرت مشكلة تحليل القادة المجانين من جديد مع الأزمة النووية الكورية الشمالية؛ فسواء كان دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون مجنونا أم لا، فإن هذا ليس مجرد سؤال أكاديمي، بل هو صلب الموضوع.

لقد صرحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنها لن تتسامح مع تهديد كوريا الشمالية للولايات المتحدة باستخدام الأسلحة النووية. ووفقًا لمستشار ترمب للأمن القومي هربرت ماكماستر؛ فإن موقف الإدارة يعكس اعتقادها بأن كيم شخص مجنون، وأن "نظرية الردع الكلاسيكية" غير ملائمة معه.

وخلال الحرب الباردة؛ أشار الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور إلى أنه حتى لو ارتكب ستالين (ولاحقا ماو تسي تونغ) جرائم قتل عديدة، فقد كان عقلانيا أيضا، ولم يرغب في الهلاك بسبب ضربة مضادة أميركية. لقد نجح منطق "التدمير المتبادل المؤكد" الذي يقوم عليه الردع النووي.

ومع ذلك؛ إذا كان زعيم دولة مسلحة نووياً مجنوناً غير مبالٍ بأمانه الشخصي وبأمن المحيطين به، فإن إستراتيجية الردع بالكامل ستبوء بالفشل. وإذا كان كيم مجنوناً، فإن الخيار الوحيد هو خلعه قبل أن يقتل نظامُه الانتحاري ملايين الناس.

لكن هل كيم شخص مختلّ عقليا بالفعل أم لديه رؤية عالمية تربك المحللين الغربيين؟ إن عرضه الدرامي لعقد قمة مع ترمب بحلول شهر مايو/أيار القادم لا يتناسب مع رواية شخص "مجنون". في الواقع، يبدو وكأنه تصرف شخص عاقل يعرف بالضبط ما يفعله.

يجب الانتباه لثلاثة اعتبارات إستراتيجية يمكن أن يأخذها كيم بعين الاعتبار: أولاً، أن نظامه يخطط لتقديم تنازلات لا ينوي الالتزام بها. فبعد كل شيء؛ كانت الصفقة النووية السابقة التي توسطت فيها الولايات المتحدة مع والده (كيم جونغ إيل) خرجت عن مسارها بسبب الازدواجية.

وفي عام 2002، اكتشفت الولايات المتحدة أن النظام كان يعمل على تخصيب اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة سرًّا، في انتهاك مباشر لتعهده السابق.

"انفتاح" كوريا الشمالية سيكون مخيبا للآمال. لكن من الملاحظ أن إستراتيجية المناورة الدبلوماسية لكيم قيمة للغاية. ومن المؤكد أن التفكير الكوري الشمالي ماكر، لكنه يعكس أيضا إرادة النظام البقاء، ورغبته في السيطرة على الوضع الحالي. وهذا يشير إلى أن كيم ليس "مجنونًا" رغم كل شيء

وفي الواقع، أثبتت كوريا الشمالية مرارًا وتكرارًا أنها لا تلعب وفقا للقوانين. فهي تقوم بالمفاوضات للحصول على تنازلات مثل المساعدات الغذائية، ثم تعود إلى أنشطتها غير المقبولة، وبالتالي تبدأ مسلسل أسطورة سيزيف مرة أخرى.

لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الأمور ستكون مختلفة هذه المرة؛ لكن ينبغي ألا يُعتبر انحراف النظام مرادفا للّاعقلانية أو للجنون. فبالتعبير عن انفتاحه على المحادثات؛ تمكن كيم من الحصول فعلا على الشرعية السياسية التي يتوق إليها.

ثانياً، حتى وإن كان كيم يبدو مختلا عقليا فإنه واعِ بالتاريخ الحديث. وقد دفع صدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا ثمنا باهظا للتخلي عن برامجهما النووية. ونتيجة لذلك، طوّر كيم قدرات النظام النووية وأصبح الآن بمثابة أقوى رجل على وجه الأرض. لطالما سعى نظام كيم إلى مثل هذا التبرير رغم كل شيء آخر.

الاعتبار الثالث والأخير هو أن كوريا الشمالية تقوم باللعب على عنصر الوقت. فرغم موافقتها على وقف التجارب النووية والصاروخية في الفترة التي تسبق القمة، فإنها يمكن أن تستخدم الأشهر المتداخلة لتطوير التقنيات ذات الصلة.

وعلى سبيل المثال؛ لا تزال كوريا الشمالية تحتاج إلى تحسين آلية إعادة دخول الغلاف الجوي لجعل صواريخها الباليستية العابرة للقارات قادرة على ضرب البر الرئيسي الأميركي بشكل موثوق ودقيق.

وما دامت القمة واردة؛ فإن كوريا الشمالية ينبغي ألا تقلق بشأن ضربة عسكرية أميركية. هذه مكافأة أو ضمانة معقولة ومهمة يسعى كيم وراءها.

وعلى كل حال، فإن "انفتاح" كوريا الشمالية سيكون مخيبا للآمال. لكن من الملاحظ أن إستراتيجية المناورة الدبلوماسية لكيم قيمة للغاية. ومن المؤكد أن التفكير الكوري الشمالي ماكر، لكنه يعكس أيضا إرادة النظام البقاء، ورغبته في السيطرة على الوضع الحالي.

وهذا يشير إلى أن كيم ليس "مجنونًا" رغم كل شيء، وأن الردع التقليدي سينجح بالتأكيد، كما كان الحال منذ عام 1945. هذه أخبار جيدة للجميع، ولإدارة ترمب بشكل خاص؛ نظرا إلى أنها بالتأكيد ستفشل في الحصول على أي تنازلات جادة من كوريا الشمالية خلال المحادثات القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.