فوز ترامب.. تَصدع قدرة المؤسسة

epa05620774 Republican presidential candidate Donald Trump campaigns at a rally at Loudon Fairgrounds in Leesburg, Virginia, USA, 07 November 2016. Republican Donald Trump is running against Democrat Hillary Clinton in the election to choose the 45th President of the United States of America to serve from 2017 through 2020. EPA/MICHAEL REYNOLDS

خيبة التحليل الرغبوي
حاجة العالم إلى الجنون
ديمقراطية إرادة الفاعلين

على الأغلب فإن الذين توقعوا فوز هيلاري كلينتون منا نحن العرب، كانوا قد استسلموا لتفكيرهم الرغبوي المعزز بالانطباع النمطي عن الولايات المتحدة الأميركية، وبعملية التضليل الدعائية التي مارستها المؤسسة الأميركية، والتي أوحت بأنه لا يمكن لهذا "المهرج" أن يفوز برئاسة الدولة الأعظم في العالم.

خيبة التحليل الرغبوي
الحزب الجمهوري (حزب ترامب) لم يكن سعيدا به، ولم يكن موحدا خلفه، وقد ناصبه الإعلام العداء الصريح، وكذلك المراكز البحثية التي أعلنت استطلاعاتها بأنه لن يفوز، وكان ثمة تقدير بأن هذا الرجل القادم من خارج المؤسسة مرفوض من داخلها، وكان لا بد وأن تعيق المؤسسة وصوله إلى البيت الأبيض.

هكذا بدت الصورة، وهي صورة منطقية جدا بالنظر إلى تصوراتنا عن أميركا، الدولة القوية المحكمة، التي تديرها نخبة قادرة، لا يكاد "يعزب عن قدرتها شيء". ولكن إذا كانت المؤسسة لا تريده بالفعل، فإن هذا يعني أن جهودها في استخدام الإعلام والمراكز البحثية قد فشلت، وأن استطلاعات الرأي لم تكن أكثر من عملية تضليل دعائية تحاول تثبيط جمهور ترامب.

بالإضافة إلى المجهول الذي يخشاه الناس، فإنهم يخشون أن يصاب العالم بالمزيد من الجنون، لاسيما وأن منطقتنا قد اكتسحها الجنون وافترستها الفوضى، ولذلك يرغب الطيبون في عالم عاقل ورتيب يمكن فهمه والتنبؤ بمساراته، حتى لو كان سيئا

وعلى كل حال، ومهما كان الأمر، فقد فشلت استطلاعات الرأي في بلد مراكز التفكير والإعلام والديمقراطية الأكبر في توقع النتائج الصحيحة، وإن الفكرة التي تستبعد احتمال توجيه تلك الاستطلاعات، قد تكون محاولة للحفاظ على صورة أميركا النمطية في أذهاننا، كأن نقول: لا، الخلل لم يكن في المؤسسات، ولكن ربما في جمهور ترامب الذي أخفى توجهاته!

أما كثير من الراغبين في فوز هيلاري، والذين جعلوا من رغبتهم أساس التحليل والتنبؤ، فبالإضافة إلى المجهول الذي يخشاه الناس ويرتبط في وعيهم السياسي العام بقوة أميركا المطلقة، فإنهم يخشون من أن يصاب العالم بالمزيد من الجنون، لاسيما وأن منطقتنا قد اكتسحها الجنون وافترستها الفوضى، ولذلك يرغب الطيبون في عالم عاقل ورتيب يمكن فهمه والتنبؤ بمساراته، حتى لو كان سيئا.

نعم؛ من شأن فوز ترامب الفاشي المشحون بالعنصرية، صاحب الأفكار الاقتصادية المثيرة لقلق الشركات الكبرى، والمواقف السياسية الخارجية المتناقضة؛ أن يثير الكثير من المخاوف؛ مخاوف الأقليات داخل أميركا، بما فيها الأقلية المسلمة، ومخاوف عالم الاقتصاد، ومخاوف منطقتنا الملتهبة التي ينتظر كل طرف من خصومها المتصارعين موقفا أميركيا يسانده، ولكن هذا لا يعني أن العالم قبل ترامب كان أحسن.

حاجة العالم إلى الجنون
كان العالم قبل ترامب سيئا إلى الدرجة التي تحتاج كسر الرتابة التي ينجم عنها خلط الأوراق، وزيادة الغموض، وجعل التنبؤ عسيرا، لأن الركون إلى الرتابة القائمة يعني استمرار السوء على حاله، كما أن إعادة اكتشاف أميركا والعنصرية الكامنة في أحشائها ليس أمرا سيئا على أي حال.

إذا أخذنا نظرية كسر الرتابة هذه إلى جانب النظرية التي تقول إن ترامب فاز رغما عن المؤسسة، فإننا إزاء تصدع في قدرة المؤسسة على الضبط والسيطرة، وهذا يعني أن الترتيبات المعروفة تقليديا في تصعيد الرؤساء الأميركيين، وفي إدارة الديمقراطية الأميركية؛ لم تكن هي التي جاءت بترامب، وإنما جاءت به جماهيره.

كان المخرج الأميركي مايكل مور، والذي تنبأ بفوز ترامب، قد جعل من ضمن الأسباب الخمسة لفوزه الرغبة في السخرية من نظام سياسي معطوب، وزعزعة الوضع القائم، وبلغتنا نحن هنا، إنها الرغبة في كسر الرتابة، ولكن مهما كان الأمر، فإن السر كما قال مايكل مور سلفا، كان في قدرة ترامب على الحشد، وعلى استنهاض الجماهير من بيوتها للوقوف في الطوابير والتصويت له، وهو ما فشلت فيه هيلاري.

كما تنبأ مور، تمكن ترامب من الفوز بولايات ميتشيغان وأوهايو وبنسيلفانيا وويسكونسن، وهي ولايات ديمقراطية تقليديا، ولكنها متضررة من السياسات الاقتصادية التي دمرت الصناعات فيها، وهو الأمر الذي استفاد منه ترامب في استقطاب سكانها الذين حطمتهم تلك السياسات التي لم يفعل الديمقراطيون إزاءها شيئا سوى مغازلة أرباب المؤسسات الاستثمارية الكبرى، طلبا للدعم والتمويل.

تمكن ترامب أيضا من استثارة النزعة البيضاء التي تعاظمت مع ثماني سنوات لحكم رجل أسود للبيت الأبيض، وعلى الأرجح كان شيئا مريعا لهؤلاء أن تفوز امرأة بالبيت الأبيض.

إن الذين ظلوا في منازلهم لا يريدون ترامب، ولكنهم غير متحمسين لهيلاري، لذلك فاز الأقدر على الحشد باستثارة غرائز الغضب والعنصرية، وبهذا لا تُعبر الديمقراطية بالضرورة عن رأي الأغلبية، ولكنها تُعبر عن إرادة الفاعلين

لا يعني ذلك أن هؤلاء هم أغلبية الأميركيين، ولكن هؤلاء هم الأكثر من بين الذين خرجوا للتصويت، وبعبارة أخرى فإن هيلاري عجزت عن حشد مؤيديها في طوابير الانتخابات، إنها سياسية تقليدية بكل ما في ذلك من زيف ومراوغة، لا تثير الحماس، وتفتقر إلى الإلهام والقدرة على إخراج المصوتين من منازلهم للتصويت لها.

ديمقراطية إرادة الفاعلين
إن الذين ظلوا في منازلهم لا يريدون ترامب، ولكنهم غير متحمسين لهيلاري، لذلك فاز الأقدر على الحشد باستثارة غرائز الغضب والعنصرية، وبهذا لا تُعبر الديمقراطية بالضرورة عن رأي الأغلبية، ولكنها تُعبر عن إرادة الفاعلين.

وإذا كانت الديمقراطية الأميركية تُعبر تقليديا عن إرادة الفاعلين التقليديين من الشركات الاستثمارية الكبرى، والمجمع الصناعي العسكري، والحزبين الكبيرين، والعائلات الحاكمة، وأعضاء مجموعة بلدربيرغ وما يشبهها، واللوبيات، وما يُعرف أميركيا بالمؤسسة، فإنها في حالة ترامب، في حال كان هذا الأخير قد فاز فعلا رغما عن كل هؤلاء، تُعبر عن إرادة الملايين الذين استطاع ترامب إخراجهم من بيوتهم إلى طوابير الانتخابات.

إن هيمنة الفاعلين التقليديين على العالم ليست بذلك الإحكام، لكن زعزعة هذه الهيمنة لم تبدأ من أميركا. دعونا نتذكر هنا ما قالته هيلاري كلينتون عن فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية عام 2006 كما كشف تسريب صوتي قالت فيه: "ما دمنا طالبنا بانتخابات في الأراضي الفلسطينية فإنه كان من الأجدر بنا التحقق من قدرتنا على تحديد الجهة التي ستفوز بها".

بصرف النظر عن إرادة التزوير في كلام هيلاري، ولكن حماس حينما فازت كانت تزعزع تلك الهيمنة، هيمنة الفاعلين التقليديين المحليين والإقليميين والقوى الدولية الكبرى، ثم تعززت إرادة الفاعلين غير التقليديين بالثورات العربية التي جعلت الجماهير في موقع متقدم في عملية التدافع.

إن الجماهير والفاعلين غير التقليديين ليسوا على سوية أخلاقية واحدة، بمعنى أننا لا نقارن ترامب أو المصوتين له بالفاعلين غير التقليديين في مجالنا العربي، ولكن الفكرة هنا تنطوي على عِبرتين أساسيتين؛ تقول الأولى: إن عالم المهيمنين أقل إحكاما مما نظن، والثانية: أن كسر إرادة أجهزة الضبط والسيطرة هو سبيل التغيير، مهما كان القادم مجهولا ومخيفا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.