المشهد الصوفي المصري

الثورة تفتح أفاق جديدة أمام الطرق الصوفية في مصر

الصوفية والسلطة
بين مبارك و25 يناير
الثالث من يوليو

تعد الطرق الصوفية المصرية المعاصرة حالة خاصة داخل الفضاء الديني المليء بالأطياف والتيارات المتعددة بشقيها الدعوي والسياسي, فغلبة الذات الطرقية وعدم ميلها للممارسة السياسية وانكفاؤها على البعد المجتمعي، دفعها لأن يكون لها حضور طاغٍ في القطاعات الشعبية عبر تفاعلها المباشر في الاحتفالات بموالد الأولياء الصالحين، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، بالتوازي مع مناسبات دينية متنوعة لا تقف على الطريقة وحسب، وإنما تلتف بالمشهدين المجتمعي والديني ككل وتتفاعل معه.

بيد أن ذلك لا يعني إغفال التأثير غير المباشر لها في المشهد السياسي، فالمنهجية الطرقية الكلاسيكية القائمة على السمع والطاعة والولاء المطلق للشيخ من قبل المريدين، يتلامسان مع الآلية الجماعاتية القادرة على الحشد والتعبئة، ولكنها تختلف في كونها -أي الصوفية- ذات طابع موسمي، يظهر حين الحاجة إليه، عادة من خلال توظيف السلطة له، بشكل تحكمه البراغماتية (إضفاء الشرعية على ممارسات النظام في مقابل دعمها).

المشهد الصوفي تمخض عن تكون اتجاهين أحدهما انكفأ على ذاته الطرقية يراقب المشهد نأيا بنفسه عن العمل السياسي وثانيهما اندفع نحو تكوين الأحزاب

غير أن السنوات الثلاث الماضية شهدت تقلصا لهذه العلاقة التي بدت لعقود مضت "تقليدية"، وذلك للمتغير الجديد في المشهد المصري آنذاك -ثورة الـ25 من يناير- التي كانت خريفا صوفيا في مقابل ربيع لقوى الإسلام السياسي، التي شكلت السلطة بعد ذلك، فانتشت هذه القوى وتوارت الأخرى عن الأنظار تتحسس هذا المتغير الذي لم تألفه، مشوبة بالقلق على مستقبلها.

تمخض عن هذا المشهد اتجاهان شكلا الواقع الصوفي آنذاك، أولهما انكفأ على ذاته الطرقية يراقب المشهد نأيا بنفسه عن العمل السياسي ممثلا في المجلس الأعلى للطرق الصوفية وشيخها عبد الهادي القصبي، وثانيهما اندفع نحو تكوين الأحزاب، فطفت على السطح تجربة حزبية جديدة بدت هزيلة وغير مؤثرة، كان أبرزها حزب "التحرير المصري"، الذي انبثق عن الطريقة العزمية وشيخها علاء ماضي أبو العزائم.

هذا المقال يحاول رصد تحولات الصوفية في المشهد المصري وماهية العلاقة بينها وبين قوى الإسلام السياسي، مع التركيز على محطتين هامتين، هما ثورة الـ25 من يناير وأحداث الثالث من يوليو، وعلاقاتها مع المؤسسة العسكرية وانحيازها له، ومعرفة المستقبل الذي تنتظره الصوفية على المسارين الدعوي والسياسي؟

الصوفية والسلطة
يذكر أن بيت "القصبية" الذي ينحدر منه شيخ المشايخ الحالي عبد الهادي القصبي, كان أحد المقار التي ارتادها ثوار 1919، والتي جمعت بين السيد حسين القصبي والزعيم سعد زغلول، ولم يكن البيت يخلو من الزعامات السياسية، خاصة الوفدية منها، ومن بينهم النقراشي باشا والنحاس باشا، فضلا عن عضوية القصبي الأب في الاتحاد الاشتراكي، ومن أبرز مواقفه السياسية التي تؤثر عنه انتقاده الرئيس الراحل أنور السادات على خلفية اتفاقية كامب ديفيد، قائلا "احنا دراويش آه.. لكن ساعة الجد.. مابيهمناش حد".

ويعنى ذلك أن المشهد الصوفي كان فاعلا لدرجة ما، إذ كانت هناك أسباب رئيسية ساهمت في تحولاته صوب الالتحاف بالسلطة:

أولها: قانون الرئيس الراحل جمال عبد الناصر 1961 الذي بموجبه قضى على استقلال المؤسسة الدينية، وكان لها واقع الأثر على المشهد الصوفي الذي يمثل أحد روافد الأزهر وعناصره التكوينية.
ثانيها: عدم تفاعل جماعة الإخوان المسلمين مع الصوفية بعد تسلفها وتراجع النزعة الصوفية لديها.
ثالثها: الخطاب السلفي الإقصائي للصوفية.

ساهمت هذه العوامل الثلاثة في اتخاذ التيار الصوفي موقفا معاديا ورافضا لقوى الإسلام السياسي، ولم يجد سوى السلطة بديلا، وفي ذات الوقت وجدت فيه السلطة فرصة لمواجهة ممارسات التيارات المتشددة، مما أثر سلبا على المشهد الصوفي.

بين مبارك و25 يناير
استمال نظام مبارك بشكل كبير الطرق الصوفية, وشاركهم احتفالاتهم وأعطى لهم حريات كبيرة لإحياء موالدهم ومجالس ذكرهم, وجاء التعيين المباشر من قبله للشيخ عبد الهادي القصبي -في نهايات سنوات حكمه- شيخا للمشايخ، لتصل الصوفية لأوج تبعيتها للسلطة آنذاك.

كانت أشد تجلياته الدعم الذي لاقاه الحزب الوطني من الصوفية من ترشح عدد كبير من أبناء الطرق ومشايخهم في الانتخابات البرلمانية عام 2010 على قوائمه، كان أبرزهم القصبي وأبو العزائم وعصام زكى إبراهيم شيخ العشيرة المحمدية و"الطريقة الشبراوية" ممثلا في "اللواء مشهور الطحاوي" وغيرهم كثير.

استمال نظام مبارك الطرق الصوفية, وشاركهم احتفالاتهم وأعطاهم حريات كبيرة لإحياء موالدهم ومجالس ذكرهم, ولذا لم تتعاط غالبية التيار الصوفي مع ثورة يناير
وفي خضم سعي الحزب لاحتواء الصوفية بشكل كامل، عمد أحمد عز، أمين التنظيم السابق بالحزب الوطني لمصاهرة الشيخ أحمد كامل يس شيخ الرفاعية والرئيس الأسبق لنقابة الأشراف، لضمان أصواتهم في الاستحقاقات الانتخابية وإضفاء مسحة من التدين التقليدي على الحزب، خاصة في مواجهة الإخوان المسلمين حينذاك.

وحينما هبت رياح ثورة الـ25 من يناير، لم تتعاط الغالبية العظمى من التيار الصوفي مع المشهد الجديد والصاعد، ونظروا إليه بعين الريبة والشك، وحينما تصدرت قوى الإسلام السياسي المشهدين السياسي والمجتمعي بعد الإطاحة بمبارك، تأكد هذا التخوف، خاصة أن التيار السلفي كان مكونا أصيلا لهذا التشكل داخل السلطة، ومع مرور الوقت أصبح هناك نوع من الكمون الصوفي، والذي ما لبث حتى انتقل إلى دور مختلف يمكننا إيجازه في مشهدين رئيسيين:

أولهما: تأييد المؤسسة العسكرية في الفترة الانتقالية.
ثانيهما: التوحد مع القوى العلمانية من خلال: تأييد كتابة الدستور قبل الانتخابات، وتحالف انتخابي تمثل في "الكتلة المصرية".

كان لا بد من شغل المساحة التي افتقدتها الطرق الصوفية بعد سقوط نظام مبارك، فكان التحول نحو الالتحام مع القوى العلمانية التي وجدت فيهم بديلا عن نظام مبارك في خصومته مع غرمائهم التقليديين من الإسلاميين، خاصة بعدما اشتدت القوى السلفية وتعاظم خطابها المتربص بالصوفية، كان أشد تجلياته الاستحقاق الدستوري الذي جرى في مارس/آذار 2011، حيث تبنت القوى الصوفية التصويت بـ"لا" كموقف معارض لما اتخذه الإسلاميون، ومتماس مع الليبراليين وقيادات الجبهة الوطنية للتغيير لصالح موقف الدستور أولا.

ثم كان اعتزام الشيخ طارق الرفاعي شيخ الطريقة الرفاعية، الدخول في الانتخابات البرلمانية 2012، تحت مظلة حزب "المصريين الأحرار" الليبرالي، الذي يتزعمه رجل الأعمال القبطي نجيب ساويرس، نقطة هامة في مسار التحولات التي شهدها التيار الصوفي في هذه الفترة، ولم يلبث الأمر حتى انسحب الرفاعي لصالح الأكاديمي المصري عمرو الشوبكي، خشية تفتيت الأصوات في مواجهة الإسلاميين آنذاك.

واصطف التيار الصوفي مجددا في انتخابات الرئاسية 2012 مع الفريق أحمد شفيق، ممثل المؤسسة العسكرية في مواجهة مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي، ورغم محاولة طارق الرفاعي التقدم خطوة نحو الإخوان، من خلال الزيارة الأولى من تاريخها لمكتب الإرشاد، والتي استقبله خلالها أعضاؤه وإعلانه دعمه له، وكان الرجل يمني نفسه بصلاة للمرشح الرئاسي في مسجده بالقلعة، إلا أنه لم يجد من الإخوان أي حراك يذكر.

 
رغم ذلك، أعطى مرسي لشيخ المشايخ عبد الهادي القصبي مقعدا في مجلس الشورى، وحاول أن يقترب بشكل أو بآخر مع الصوفية، إلا أن الدائرة السلفية من حوله أبعدته تماما عن ذلك، فكان من الطبيعي أن تلتحف الصوفية بالمعارضة، حيث الوجه الأبرز الشيخ علاء الدين ماضي أبو العزائم، الذي مثل حراكا صوفيا كبيرا ضد مرسي، غزته النبرة العدائية الصاعدة من قبل بعض السلفيين لهم.

الثالث من يوليو
مثلت أحداث الثالث من يوليو منعطفا هاما وتحولا أبرز للقيادات الصوفية تجاه المؤسسة العسكرية مجددا، عززه وشرعنه تأييد المؤسسة الدينية ممثلة في شيخ الأزهر أحمد الطيب، والمفتي الأسبق علي جمعة (الصوفيين) في مباركتهما الإطاحة بمحمد مرسي، وحينها انضم محمد مهنا الأمين العام للعشيرة المحمدية الشاذلية، ومستشار شيخ الأزهر بعد ذلك، إلى لجنة الخمسين ممثلا للصوفية، وانتقد الشيخ القرضاوي بعد تصريحاته ضد شيخ الأزهر عقب الأحداث، وطالب محمد صلاح زايد رئيس حزب "النصر الصوفي" بطرد الإخوان على شاكلة طرد الإنجليز عن مصر، بالتوازي مع تصريحات أبو العزائم بأن الإخوان المسلمين جماعة بلا وطن أو دين.

مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الثانية 2014، وإعلان المشير عبد الفتاح السيسي ترشحه، تسابقت الطرق الصوفية بالإجماع لدعمه، وبادر السيسي إلى لقائهم والاجتماع بهم قبل أن يجتمع بأي فصيل سياسي من شركائ خارطة الطريق، سواء الكنيسة أو حزب النور السلفي، وهو ما يعكس طبيعة التواجد الصوفي التي ستتشكل في المرحلة القادمة.

ومن الأمور اللافتة وبالتوازي مع التحضيرات للاستحقاق الانتخابي المقبل، اللقاء الذي جمع مراد موافي رئيس جهاز المخابرات العامة الأسبق بمشايخ الطرق الصوفية، لمناقشة دعمه في تشكيل تحالف انتخابي استعدادا للانتخابات البرلمانية المقبلة، بل إن الرجل يقوم برأب الصدع داخل البيت الصوفي، ليكون أكثر فعالية فيما هو آت على الطريقة ذاتها التي تمت، بين نظام مبارك والرموز الصوفية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة 2010، للحيلولة دون تكوّن معارضة كبيرة في البرلمان من خصوم السيسي، خاصة من بعض القوى المدنية، حال فوزه في الانتخابات الرئاسية.

على الرغم من أن المرحلة التي تلت الثالث من يوليو قد شهدت خريطة الصوفية استقرارا نسبيا خاصة بعد استشعارها أن هناك دورا سيناط بها في المرحلة القادمة.

لن تتطور الصوفية السياسية كثيرا، ربما لضعف الخبرة السياسية وفهم آلياتها لدى رؤساء هذه الأحزاب ووجود انقسام حقيقي داخل البيت الصوفي حول ممارستها، فضلا عن إدارة الحزب بطريقة شيخ الطريقة

بيد أن النجاح الذى حققه السيسي وشركاء خارطة الطريق في التقرب للصوفية واحتوائها وإعطائها ضمانات حقيقية وملموسة على مستقبلها الوجودي جاء كاستثمار طبيعي لما لم يلتفت إليه مرسي والإخوان المسلمون في ذلك, بل من المتوقع أن تعلو شوكة الصوفية وسيكون لهم الصدارة في المشهد الديني المصري، خاصة أن الحديث عن صوفية الرجل تجعله قريبا منهم لا غريبا عنهم وذلك حال نجاح السيسي.

من دلالات ذلك عودة المساجد والجوامع والزوايا بشكل غير مباشر لقبضة الصوفية بعد إحكام وزير الأوقاف محمد مختار جمعة سيطرته عليها، وهو ما يدفعنا للقول إن الفراغ الدعوي الذي ستتركه قوى الإسلام السياسي بعد تضييق الخناق عليها، سيشغله الأزاهرة المتصوفة أو الوعاظ المنتمون إلى الطرق الصوفية.

الوقائع على الأرض تشير إلى ذلك بقوة، فالتباحث حول أمور الدعوة وآليات الحفاظ على الفكر الأزهري كانت عنوان اللقاء الذى جمع الثلاثي محمد مختار جمعة وزير الأوقاف وعبد الهادي القصبي ومحمد أبو هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر وشيخ الطريقة الهاشمية، تدعمه دعوة محمد صلاح زايد رئيس حزب النصر الصوفي وزارة الأوقاف، للتصدي لأئمة التكفير والتحريض واستبدالهم بأئمة الدين الوسطي.

أما على صعيد الصوفية السياسية، ففي ظني أنها لن تتطور كثيرا، ربما لضعف الخبرة السياسية وفهم آلياتها لدى رؤساء هذه الأحزاب ووجود انقسام حقيقي داخل البيت الصوفي حول ممارستها، فضلا عن إدارة الحزب بطريقة شيخ الطريقة. اللهم إلا ما سيكون من توظيف لها في الاستحقاق البرلماني دعما للسلطة وتفتيتا للمعارضة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.