السودان وإثيوبيا والتحليق على جناح الكونفدرالية

تصميم مقال الكاتبة - منى عبد الفتاح / السودان وإثيوبيا والتحليق على جناح الكونفدرالية

undefined

تعاون على وقع التأزم
تحديات الكونفدرالية
اتحاد في ثوب الانقسام

نبع مشروع كونفدرالية القرن الأفريقي من صميم ظروفٍ ذات خصوصية طبعها توهج العلاقات بين دول الاتحاد الأفريقي في جزئها الشرقي من القارة.

وقد تخللت العلاقات بين السودان وإثيوبيا جهود ثنائية داخل هذا الحلم أسهمت في دفعها رياح التغيير في العلاقات بين السودان وبقية جيرانه في محيطه الإقليمي.

يتجه السودان شرقا بعد أن خفت حماسه من إنزال اتفاقية الحريات الأربع مع مصر إلى أرض الواقع، خاصة بعد تحفظ مصر على بندي تنقل المواطنين وحرية العمل في البلدين، وبهذا يمكن أن تكون هذه بداية النهاية لمشروع كونفدرالي مع مصر كان البلدان يتمنيانه مماثلا ومكملا لتجمعات شرق أوسطية أخرى مثل مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي، فهل بإمكان اتحاد السودان مع إثيوبيا أن يتحول من فضاء التمنيات إلى أرض التوقعات؟

تعاون على وقع التأزم
يمثل الاتحاد الكونفدرالي بالنسبة لدول القرن الأفريقي -في جانبه النظري- ضرورة ملحة ووسيلة لمواجهة التحديات الخارجية لهذه المنطقة الحيوية. ولكن من جانب آخر، فإنّ خصوصية المنطقة تضع لهذا الاتحاد شروطا صعبة قد تعيق تحقيقه.

تمثل الكونفدرالية بالنسبة لدول القرن الأفريقي ضرورة ملحة ووسيلة لمواجهة التحديات الخارجية، ولكن من جانب آخر فإنّ خصوصية المنطقة تضع لهذا الاتحاد شروطا صعبة قد تعيق تحقيقه

وهذه الشروط هي الانسجام النوعي بين الدول المكونة للاتحاد، والإيمان بفكرة الاتحاد كدافع للتطور ونمو الدول ومواجهة المهددات الخارجية، والتسامي فوق الخلافات التاريخية.

ولتحقيق الكونفدرالية كنظام تعاهدي بين دول ذات سيادة لا بد أن يتضمن ذلك توافق سلطاتها في مجالات الأمن القومي والعلاقات الخارجية حتى يتسنى تحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية.

شرعت دولتا السودان وإثيوبيا نحو تحقيق هذا الاتحاد مؤخرا، في ظل اضطرابات تحيط بالدولتين وتزعزع نظامهما الداخلي، وتراهن الدولتان على العلاقات المشتركة، وهي علاقات نمت وربت بين مدٍّ وجزر منذ عهود سلفت إلى أن وصلت إلى عهد الإنقاذ الحالي الذي طغى فيه انقسام الرؤى الأيديولوجية.

وبالرغم من بعض التوتر في العلاقات الذي أعقب اتهام إثيوبيا السودان بمحاولة اغتيال الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، وعودة إثيوبيا للترحيب بالحركة الشعبية لتحرير السودان بعد خروجها من إثيوبيا عام 1991، فإن النظامين لم يدخلا في مواجهات مباشرة.

وهذه الحالة من التأزم المتراخي خدمته ظروف عديدة منها: أنّه بالرغم من نقاط العداء التي تنشط بين الحين والآخر فإن السودان يضع ألف حساب للدعم الغربي الذي تتمتع به إثيوبيا، كما أنّ إثيوبيا تضع حسبانا لموقف السودان الداعم للحركات الإسلامية في المنطقة وتتخوف من احتمالية توسع المد الأصولي والنفاذ إلى الداخل الإثيوبي والتأثير في مسلمي إثيوبيا.

بدلا عن العداء، أخذت إثيوبيا تشد السودان بغرض إبعاده عن تكوين أي نوع من الاتحاد مع مصر قد يخلق نوعا من التحالف ضدها، خاصة في ظل توترات عقد التسعينيات التي شهدتها إثيوبيا مع إريتريا، وبشكل أخص وأقرب إلى التوقع في ظل الخلافات العميقة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة الإثيوبي ووقوف السودان كطرف محايد أثبت عدم تضرره من قيام السد، ثم دعم ذلك بزيارة رسمية للرئيس الإثيوبي هايلي ماريام دياسيلين في أكتوبر/تشرين أول الماضي، تبعتها مشاريع تعاون في إشارة إلى تعزيز العلاقات بين البلدين.

فإذا كان الصراع الثلاثي بين مصر والسودان وإثيوبيا على مياه النيل هو الذي يأتي باستكشاف فرص الاتحاد بين السودان وإثيوبيا فذلك يستوجب إعادة النظر في هذا التكوين في هذه الظروف بالذات.

تحديات الكونفدرالية
بالرغم من أنّ العلاقات بين دولتي السودان وإثيوبيا تعاني في مسارها الكثير من العقبات والتحديات التي رهنت حركتها في حدود معينة، فإن هناك عوامل كثيرة برزت على السطح قد تسهم في تشجيع فكرة الاتحاد بين الدولتين وإعطائه بعدا جديدا يقوم على فكرة الهم المشترك وبالأخص في ظل التطورات على المستويين الإقليمي والدولي.

فالمسؤولية المشتركة تقف في وجهها قضايا شائكة تتداخل ما بين السياسي والاقتصادي والأمني والإنساني وهي قضايا اللجوء والهجرة والإتجار في البشر، بالإضافة إلى نقاط الالتقاء مع التكتلات الإقليمية كالاتحاد الأفريقي.

والنقطة المحورية تدور حول قدرة العلاقات بين البلدين على التعاطي مع المتناقضات والخلافات بينها وبين الدول الجارة، خاصة موقف السودان الذي تم وصفه بالضبابي من قبل الحكومة المصرية فيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي والحدة في العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا، ثم التواؤم بين السودان وإريتريا.

وما تستوجبه هذه العلاقات من إدارة يجب أن تتوافق مع المصلحة المشتركة بين هذه البلدان بدرجة من التوازن المنطقي وبعيدا عن المشروع الحالم الذي تكون به الاتحاد الأفريقي في 9سبتمبر/أيلول 1999، كبديل لمنظمة الوحدة الأفريقية.

ومنذ ذلك الوقت تدور الكثير من علامات الاستفهام والتساؤلات بشأن جدوى هذا الاتحاد وأجهزته القائمة والحكمة من تغيير التسمية إذا كان الاتحاد الأفريقي يعجز عن الإتيان بما لم تأتِ به المنظمة الأفريقية ولم يستطع تجاوز فلسفتها وأعطابها؟

تعيد تجربة الاتحاد بين الدول الأفريقية إلى الأذهان كيفية تكوين الاتحاد الأفريقي، وكيف أنّ القادة الأفارقة لم يأخذوا في حسبانهم أنّ هذا الاتحاد الجديد سيفتح الباب على أسئلة كثيرة حول قضايا متشعبة تتعلق بوجود هذا الاتحاد نفسه، ففكرة الوحدة ترجع بجذورها إلى ما عانته الدول الأفريقية من شتات أمام المنظومات الدولية.

إذا كان الاتحاد بين الدول يبدأ بذروة سنامه المتمثلة في التكامل الاقتصادي فإنّ أوضاع السودان الاقتصادية وعلاقاته مع إثيوبيا في هذا المجال يمكنها أن تزلزل قواعد الاتحاد وأركانه

وبهذه الخلفية، يمكن اعتبار أنّ إسهام أي دولة أفريقية في خلق نواة هذا الاتحاد أتت قبل مرحلة الاستقلال السياسي، وهذا يوضح بعض العبارات التي كان يستخدمها بعض القادة الأفارقة مثل "الاستعمار الجديد"، كوامي نكروما. و"التكامل الاقتصادي"، جمال عبد الناصر. وغيرها من العبارات التي نبت عندها الإيمان بضرورة الوحدة.

ولأنّ الإيمان بالوحدة ارتبط بهؤلاء القادة فلما رحلوا بقيت أفريقيا ولكن خبا ألق التحرر من خُطب قادتها الجدد، زاده العجز في مجال التنمية والنكوص دون تحقيق الديمقراطية ليشتد الحال بالقارة ويجعلها تسعى وراء أطياف قادة الوحدة القدامى.

ولم تكن التطورات الدولية لتعين القارة الجريحة، بل كان انفراد الولايات المتحدة الأميركية بالعالم ودخولها الخط على مستعمرات الأمس العاجزة عن تعويض استحقاقات الاستعمار معنويا وماديا، عاملا في زيادة التحالفات في القارة.

وبالإمكان أيضا قراءة مشروع الاتحاد من خلال واقعه الحالي، وقد تجمعت الكثير من التحديات لتقف في وجه تجربة اتحاد السودان مع إثيوبيا مثل التحديات السياسية والاقتصادية والخارجية.

وتتمثل التحديات السياسية في الاضطراب على المستوى السياسي في صراع الداخل السوداني مع دولة جنوب السودان التي كانت جزءا منه واشتعالها في الحدود حتى تصل إلى الحدود المشتركة بين الدول الثلاث.

ويدخل تعقيد آخر، هو طبيعة العلاقات التي تربط دولة جنوب السودان مع إثيوبيا وإمكانية ترجيح المصالح بينهما بأكثر من مصالح إثيوبيا مع السودان وذلك لاتفاقهما الأيديولوجي وتمتعهما بالدعم السياسي الغربي المشترك.

كما أنّ الاضطرابات السياسية الداخلية كالنزاع في دارفور والجنوب السوداني في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان تعيق كثيرا من خطوات السودان في التقدم نحو الاندماج في الاتحاد، خاصة أن السودان ما زال يعاني من فشل ذريع في الحفاظ على وحدته وإطفاء نار النزاعات المشتعلة في أقاليمه المختلفة.

من التحديات أيضا تبرز التحديات الاقتصادية التي تعتبر من أكبر المعوقات، فبذهاب معظم نفط الجنوب بعد انفصاله إلى الدولة الحديثة وتقويض البنية التحتية بسبب الحروب المستمرة وفقدان القاعدة الإنتاجية المتمثلة في الزراعة والرعي، تفاقمت المشاكل الاقتصادية وانعكست آثارها على الاستقرار السياسي.

كما يظهر جليا أنّ السودان يعاني حاليا من أعباء الديون الخارجية والعقوبات الاقتصادية بسبب المواقف السياسية مما أثر على عملية التنمية واستشراء الغلاء المعيشي.

وفي ظل هذه الأوضاع الاقتصادية السيئة نجد أنه يكاد ينعدم بين السودان وإثيوبيا أي تعاون في مجال التبادل التجاري، وإذا كان الاتحاد بين الدول يبدأ بذروة سنامه المتمثلة في التكامل الاقتصادي فإنّ أوضاع السودان الاقتصادية وعلاقاته مع إثيوبيا في هذا المجال يمكنها أن تزلزل قواعد الاتحاد وأركانه.

كما يمكن النظر إلى مجموعة التحديات الخارجية المتمثلة في العداء بين السودان وأميركا، والذي بدأ وأخذت وتيرته في الازدياد بعد قيام حكومة الإنقاذ، ومما زاد من هذه التحديات هو قفز الحكومة السودانية فوق الحواجز لإدراك البدائل المتاحة فكان اتجاهها نحو خلق قواعد دولية بديلة على أرض السودان مثل الصين وإيران.

وكمثل المستجير من الرمضاء بالنار، فإنّ السودان لم يزد في استعداء أميركا وحدها وإنما حصل على استياء دول الخليج دون أن تحقق له التوجهات الجديدة أيا من أنواع الاستقلال في الإرادة أو الخيارات الوطنية.

اتحاد في ثوب الانقسام
فشل التكامل بين السودان ومصر من قبل، كما فشلت محاولات التكامل مع ليبيا أيضا، لأنّ سلوك طريق الاتحاد الشاق تعتمد فيه التجربة على نهج معين وعلى درجة من الثبات، وهذا ما افتقدته التجارب السابقة بالرغم من أنّها اهتمت بالحاجات الإنسانية وعملت على خلق نوع من التكامل الثقافي والاقتصادي بالإضافة إلى التكامل السياسي. فشلت تجربة التكامل السابقة لأنها راهنت على الأحلام على حساب مصالح الشعب وربطتها بنماذج هلامية.

جاءت معظم التجارب الإقليمية المتداخلة عربيا وأفريقيا نتيجة سريعة لعاطفة وحماس قادة الدول أكثر منها إرادة سياسية حقيقية، لذا فهي تبدو مؤطرة في قالب العلاقات المتذبذبة بين هؤلاء القادة وتخضع في كثير من الأحيان لتقلبات السياسة والنزعات الفردية، أكثر منها تأسيسا يعكس رغبات الشعوب وآمالها.

إذا كان الاتحاد  خيارا إستراتيجيا يبدأ من السودان ليشمل دول القرن الأفريقي فإنّ السلوك السياسي للسودان سيقذفه خارج هذا الاتحاد لأسباب تتعلق بالرؤى المستقبلية المبنية على الواقع أكثر من التاريخ

الاتحاد الكونفدرالي بالنسبة للسودان -كدولة جربت التكامل من قبل وفشلت مع دول أخرى، ثم عانت من حالات الانقسام السياسي وانفصال قسم السودان إلى بلدين- يُرجى منه تذليل كل العقبات في سبيل أن يذوب كيان الدولة في كيان آخر تجمعه معه الأفريقانية وبعض الهموم المشتركة.

فإذا كان الاتحاد الكونفدرالي خيارا إستراتيجيا يبدأ من السودان ليشمل دول القرن الأفريقي فإنّ السلوك السياسي للسودان سيقذفه خارج هذا الاتحاد وذلك لأسباب تتعلق بالرؤى المستقبلية المبنية على الواقع أكثر من التاريخ.

ففي الحالة السودانية، نجد أنّ هناك تصورات للسيادة تنزع إلى استدامة الصراع مع الآخر في أقرب خلاف والوصول السريع إلى مفترق الطرق وتدمير مشروع الاتحاد كليا.

ثم أنّه من الملاحظ أنّ الحكومة السودانية تنزع إلى التحالف مع الأضعف دوما في منظومة الدول الإقليمية، وذلك يعبر عن ضعف الثقة على مستوى القيادة بنفسها ورؤيتها والفائدة التي يمكن أن تقدمها، كما أنّه يعمل على إشباع رغبات وتصورات الإحساس بالعظمة.

في ظل عدم مقدرة السودان على الوحدة الكاملة مع دولة أخرى، فإنّ المشروع الكونفدرالي مع إثيوبيا يحتمل عدة سيناريوهات -تغيب ملامحها الحالية على الأقل- إلى أن تنجلي أزمات أكثر إلحاحا مثل حرب الجنوب وقضية سد النهضة الإثيوبي والاضطرابات في مصر.

ما زال الاتحاد الكونفدرالي مشروع حلم سوداني إثيوبي ولكن الخلافات الإستراتيجية السالف ذكرها تدعم اتجاه تقليص الحلم إلى مجرد التعاون الثنائي بين البلدين، وذلك لأنه من الصعب الاقتناع بأنّ دولتي السودان وإثيوبيا يمكنهما إكمال مشروع الاتحاد الكونفدرالي وهما لم تستطيعا ترسيخه بعد، إذ كيف تكتمل وحدة خارجية لمن فشل فيها داخليا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.