ما بعد نداء أوجلان للسلام

ما بعد نداء أوجلان للسلام

 undefined

لم يكن النداء التاريخي الذي أصدره زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المسجون في إيمرالي بمناسبة عيد نوروز، والذي لخصه بانتهاء زمن البندقية وحان وقت السلام، مفاجئا.

فقد سبق هذا الإعلان محادثات سلام مكثفة بينه وبين رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان في السجن، تلتها زيارات العديد من السياسيين الأكراد لأوجلان في السجن، ورسائل من الأخير إلى القيادتين السياسية والعسكرية لحزبه بشأن رؤيته للحل السلمي، وحملة إعلامية من الجانبين التركي والكردي عن أهمية تحقيق السلام، انتهت جميعها إلى ما يشبه خريطة طريق لحل القضية الكردية سلميا، على أمل تحقيق السلام التركي الكردي المنشود بعد عقود من الحرب الدموية التي أودت بحياة عشرات آلاف من الجانبين ودمرت آلاف القرى والبلدات وكلفت تركيا ميزانية تجاوزت خمسمائة مليار دولار.

فتح الطريق أمام مسيرة السلام وضعَ كلا من الزعيمين أردوغان وأوجلان أمام تحديات تحقيق السلام وضبط الشارعين التركي والكردي، والتأسيس لتركيا جديدة تكون للشعبين التركي والكردي

كل ما سبق لا يقلل من أهمية نداء أوجلان، بل يؤكد أهميته في فتح الطريق أمام مسيرة السلام التي تبدو أنها ستكون على شكل خطوات متتالية وعلى مراحل من جهة، ومن جهة ثانية وضعَ كلا من الزعيمين أوجلان ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أمام تحديات تحقيق خطوات السلام وضبط  الشارعين التركي والكردي، والتأسيس لتركيا جديدة تكون للشعبين التركي والكردي كما كانت الأجواء بعد انهيار الدولة العثمانية قبل تأسيس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية على أساس عرقي تركي على حساب باقي العرقيات من الأكراد والعرب والأرمن.. واتباع سياسة صهر قومية شديدة تجاه هذه الشعوب بحجج التحديث والعصرنة.

أوجلان بنداء السلام الذي أطلقه أثبت أولا أنه ما زال القائد الأوحد والتاريخي للحزب الذي أسسه قبل أكثر من ثلاثة عقود. وثانيا: أن الحزب الكردستاني ليس مجرد أداة لهذه الدولة الإقليمية أو تلك كما كانت الحكومات التركية المتتالية تقول طوال العقود الماضية، وإنما جاء لتحقيق المطالب القومية الكردية.

وثالثا: أنه لجأ إلى خيار الحرب في السابق لأن الدولة التركية لم تكن مستعدة للسلام مع الأكراد والاعتراف بحقوقهم. ورابعا: أنه في الدفاع عن هذه الحقوق والمطالب ليس انفصاليا بقدر ما أن النهج القومي الضيق والقسري للدولة التركية هو الذي أجبر الأكراد على حمل السلاح والشقاق والإصرار على الهوية القومية.

خامسا: على مستوى اللحظة السياسية فإن هذه العملية تكتسب أهمية خاصة نظرا للتطورات والتحولات الدراماتيكية التي تشهدها المنطقة على وقع الأزمة السورية وما قد تخلفه هذه الأزمة من تداعيات إقليمية، سواء على صعيد التحالفات التي قد تشهدها المنطقة أو لجهة إمكانية انتقالها إلى الدول المجاورة بما في ذلك تركيا التي تعيش هاجس صعود القضية الكردية على وقع ثورات الربيع العربي الذي بات يزدهر ربيعا كرديا في مختلف أجزاء كردستان.

في الواقع، لقد كانت رسالة أوجلان رسالة للسلام والوحدة والتاريخ المشترك والمستقبل ليس في تركيا فحسب، بل في مجمل دول المنطقة التي يعيش فيها الأكراد، وهو في رسالته هذه أكد أنه القائد الذي يستطيع أنه يكون العقدة والحل معا، وهو بهذه الرسالة أراد وضع الكرة في مرمى أردوغان وحكومته والأحزاب السياسية التركية والأيديولوجية القومية للدولة التركية التي تحكم أسس الجمهورية التركية قوميا حيث تشتهر تلك الشعارات التي كانت تقول: (أنا سعيد لأني تركي) مقابل وصف (الأكراد بأتراك الجبال) قبل أن تتراجع هذه الشعارات وتختفي في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية لصالح الانفتاح التدريجي على الأكراد ومحاولة حل القضية الكردية سلميا.

ما يلفت الانتباه حتى الآن هو حماسة الجانب الكردي الذي طرح خريطة طريق تقوم على تحقيق سلسلة خطوات، منها: انتهاء عهد الكفاح المسلح، ووقف متبادل لإطلاق النار، وسحب المقاتلين إلى الخارج، وتشكيل لجان حكومية لتقديم الخطوات اللازمة وأخرى برلمانية لإنجاز تشريعات جديدة تؤسس مفاهيم الدولة التركية من جديد على أساس المواطنة وليس العرق وفق صيغة حكم محلي تحقق الإدارة الذاتية انطلاقا من المفاهيم الأوروبية للحكم المحلي، بما يعني كل ذلك الاعتراف بالهوية القومية من لغة وثقافة وخصوصية اجتماعية وحضارية، على أن تتوج هذه الخطوات بالإفراج عن أوجلان.

مقابل الرؤية الكردية هذه، لا نجد رؤية تركية واضحة، فالموقف التركي يتسم بالحذر الشديد، سواء لجهة الاعتراف بسقف الحقوق القومية الكردية أو لجهة مصير حزب العمال الكردستاني مع تركيز كبير على نزع سلاح الحزب وتفكيك بنيته العسكرية والاكتفاء بأن تركيا مستعدة لتجرع كأس السم إذا تطلب الأمر كما صرح أدروغان بذلك أكثر من مرة.

في الواقع، بغض النظر عن أسباب هذا الحذر التركي، فإن انطلاق عملية السلام بين الحكومة التركية والحزب الكردستاني بعد عقود من الحرب الدموية يعد بمثابة عهد جديد في تاريخ العلاقة التركية الكردية، إذ للمرة الأولى يعترف الجانب التركي بأوجلان محاورا من داخل السجن وينظر إليه كرهان لتحقيق السلام بعد أن كان في نظر الأتراك مجرد إرهابي وقاتل، وللمرة الأولى يتم التعامل مع القضية الكردية كقضية شعب حُرم من حقوقه التاريخية في ظل الجمهورية التركية، والأهم على المستوى السياسي، تلك الرؤية الإدراكية لتركيا في النظر إلى أهمية حل القضية الكردية سلميا باعتبار السلام مع الأكراد ثروة إستراتيجية لمستقبل الدولة التركية، وفي قدرة هذه الدولة على استيعاب المتغيرات الجارية وتحقيق الديمقراطية بحثا عن السلام وامتلاك عناصر القوة والدور والنفوذ.

إذا كان نداء أوجلان  يشكل تحديا للحزب الكردستاني، فإنه يفرض تحديات مماثلة على الجانب التركي في كيفية مواجهة أردوغان للتيارات القومية التركية المتطرفة التي بات تتهمه وحزبه بالخيانة 

دون شك، إذا كان نداء أوجلان هو تأكيد لرغبة الأكراد في السلام والمشاركة في وضع أسس جديدة للدولة التركية، فإنه يشكل في الوقت نفسه تحديا للحزب الكردستاني، وتحديدا لقيادته العسكرية، في كيفية السير في هذه المسيرة حتى النهاية والتعامل معها كخيار نهائي وليس فقط من باب التجاوب مع نداء زعيمه التاريخي والروحي في كيفية جعل المفاوضات المقبلة لتسهيل خطوات الحل والدخول في مرحلة جديدة فعليا وليس من باب جعل التفاوض مدخلا للعودة إلى الخلف.

هذا التحدي يفرض تحديات مماثلة على الجانب التركي، أولا في كيفية مواجهة أردوغان للتيارات القومية التركية المتطرفة ولاسيما حزب الحركة القومية الذي بات يتهم أردوغان وحزبه بالخيانة والعمل على تقسيم تركيا.

وثانيا في قدرة الحكومة والمعارضة والجيش التركي معا على كيفية التعامل مع مبادرة أوجلان كفرصة تاريخية لتحقيق السلام مع الأكراد وليس كمناورة لتحقيق أهداف سياسية لها علاقة بتمرير الدستور الجديد أو تحقيق مكاسب سياسية آنية لها علاقة بالانتخابات والسلطة والصراع عليها، وفي القدرة على التخلص من الأيديولوجية الأتاتوركية التي وضعت التعدد القومي والإسلام (من قبل) عدوا للأمن القومي التركي، والأهم ضرورة الإدراك أن فشل السلام مع الأكراد لن يعيد القضية إلى نقطة الصفر من جديد، بل سيفجرها بطريقة غير مسبوقة، فلسان حال الأكراد يقول إلى جانب الاستعداد للسلام إنهم لن ينخدعوا مرة أخرى وإنه لا شيء أغلى من الحرية بعد اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.