صناعة العبيد

: صناعة العبيد الكاتب: توجان فيصل

undefined

أول مرة أتعرف فيها على واقع الهند, "ديمقراطية المليار نسمة" (حينها والمليار وربع الآن)، كان أثناء نيابتي أواسط تسعينيات القرن المنصرم, حين عقدنا مؤتمرا للاتحاد البرلماني الدولي في نيودلهي التي تعيش في وسطها القديم (أولد دلهي) أسر بأكملها على الأرصفة.

يقابل هذا تقدم كبير في حقول أخرى علمية منها الطب وحتى المفاعلات النووية, يرافقه ترف هائل للقلة المتنفذة. هناك عرفت أن هذه "الديمقراطية" تقوم حقيقة على شحن الفقراء في كافة إقطاعيات الهند, مرصوصين وقوفا في شاحنات, للتصويت لصالح المرشح الإقطاعي, في الأغلب الأعم,  لمجلس النواب.

الديمقراطية الهندية تقوم حقيقة على شحن الفقراء في كافة إقطاعيات الهند, مرصوصين وقوفا في شاحنات, للتصويت لصالح المرشح الإقطاعي, في الأغلب الأعم, لمجلس النواب

وحين لحظت أن رئيس مجلس النواب الهندي حينها كان يتصرف بتبعية واضحة تجاه النواب الآخرين, جرى تفسير هذا لي بكون ذلك الرئيس هو أول رئيس لمجلس النواب يأتي من قواعد شعبية وليست إقطاعية.. أي أن من يمثل الشعب حقيقة يوظف لخدمة الإقطاع المالي السياسي.

وهذا لا ينفي أن للهند تاريخا سياسيا رائعا كتبه قادة عظام كغاندي ونهرو وأنديرا غاندي, وبخاصة معركة التحرير السلمية التي أسقطت فيها الهند تحديدا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.. بل إن تمكن غاندي كفرد من إنجاز ذلك التحرير الأسطوري جاء لكون عامة الشعب الهندي وقفت معه, وهو ما يشكل عنصر الصدمة الأكبر في فهم ما آلت إليه الأمور حين أصبح الحكم "ديمقراطيا" للشعب!!

وهذا يعيدنا لمنطقتنا حيث حطت الإمبراطورية العائدة منكسرة منهزمة من الهند رحالها.. ولم تلبث أن أورثتنا, كأي إرث إقطاعي يشمل الأرض وما تحتها وما عليها ومن عليها, للولايات المتحدة الأميركية حين تقلص نفوذ بريطانيا أكثر بفعل بروز الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عسكرية لم تضعف بفعل الحرب العالمية بل قوي اقتصادها باستثمار نتائج تلك الحرب, ورسّمت نفسها كأكبر قوة عسكرية حين جاءت لتقطف, في آخر لحظة وبعون كبير من عامل الصدفة (حيلة إنزال نورماندي), نتائج هزيمة كان "الجيش الأحمر" قد ألحقها بألمانيا النازية.

منطقتنا لم تكن إقطاعية في أغلبها, وأثر الإقطاع لم يتجاوز شواطئ المتوسط على شكل نفوذ محدود لبعض الأسر الإقطاعية, فيما بقي العمق العربي, بشقيه الآسيوي والأفريقي, قبليا في جوهره (باستعمال وصف إشبنغلر للنظام الإقطاعي بأنه هرمي، فيما النظام القبلي دائري مركزه شيخ القبيلة ويمكن لكل عضو في محيط الدائرة مد نصف قطره للشيخ)، حيث كانت حالة البداوة ما زالت قائمة, وأيضا حيث بدأت تتلاشى لصالح المجتمع الزراعي الحرفي.

ولكن توريثنا هكذا لإمبراطورية بَنَت جلّ خبرتها في قمع الشعوب في بلاد إقطاعية, أدى لزرع "صناعة العبيد" بتكريس غالبية الشعوب العربية كطبقة فقيرة يجري العمل بجد متواصل على أن لا تصل مستوى معيشة يضمن حرية الخيار.

ومن أدلة أن هذه "صناعة" مدخلة وليست مكونا رئيسا في مجتمعاتنا العربية, أن "السادة" الجدد هم, وباضطراد, ليسوا زعماء القبائل التاريخيين بل زعامات جديدة فرضت بقوة المستعمر وجيشه لا أقل, ثم بقوة حكم "الدول الوظيفية" العديدة التي استحدثت في تقسيمات العالم العربي, وانتهاء بنفوذ المال الفاسد الذي جمعه المتنفذون بوسائل غير مشروعة من ثروات الأوطان ومن كد أبنائها وحتى من بيع سيادتها.. وهو ما أوصلنا للحال الحالي من استحقاق قيام سلسلة ثورات الربيع العربي, ومن اعتراض سبيل تلك الثورات وإعاقة (إذ يستحيل منع التحول التاريخي) قطف الشعوب لثمارها بتوظيف المال الفاسد, الذي بات يسمى "المال السياسي", في تربة "الإفقار" تلك المرعية منذ عقود.

ولبيان أن ما هو قائم هو "إفقار" متعمد لإنتاج عبيد, في بلد كمصر يُزعم أن كثرة سكانه سبب فقره, وبلد كالأردن قليل السكان فيُزعم أن السبب شح موارده الطبيعية, نتحول للخليج النفطي لنجد فقرا في السعودية نسبته في ارتفاع  بحسب تقرير "التنمية البشرية 2011" الصادر عن الأمم المتحدة.

ومما يدل على أن "الفقر" شأن سياسي أن الحديث عن الفقر في السعودية كان ممنوعا تماما حتى العام 2002، حين زار الأمير سلطان بن سلمان (ابن ولي العهد حينها) منطقة فقيرة في ذات مدينة الرياض, وفاجأت صور الفقر المدقع العالم كله. وبحسب تقرير لوزارة الشؤون الاجتماعية السعودية نسبة الفقر تصل إلى 22% من السكان, ويقول التقرير ذاته إن تعداد من هم تحت خط الفقر يبلغ ثلاثة ملايين سعودي.. ومع ذلك جرى توقيف مدونين تحدثا عن الفقر.

وكون الفقر سياسيا يثبته أن نسبته وشدّته في السعودية تزداد (ولكنه لا ينحصر) في المناطق الحدودية، حيث لا تعترف الحكومة ببعض السكان المنحدرين من قبائل تتواجد تاريخيا ضمن ما أصبح حدود السعودية وفي مناطق مجاورة. وذات المعيار ينطبق على الفقر في الكويت، حيث يتركز خاصة في فئة "البدون" التي لا تستطيع الاستفادة من خدمات الدولة الرعائية, ويكثر أيضا في دوائر الشيعة, كما الحال في البحرين.

وكون الفقر قابلا للتجاوز بقرار سياسي في دول الوفرة تلك, يدل عليه غياب الفقر في دولتي قطر والإمارات, بشهادة دراسات دولية. والقرار السياسي بالتوظيف السياسي للمال منحا وحجبا توضحه المعونات السعودية والكويتية  لدول عربية أخرى, حيث توجد شكاوى شعبية (كما في الأردن ومصر) من مصبها ومن أهدافها ابتداء.

وفي عهد الربيع الأردني بدأ بعض من يكتب أحيانا وكان دوما محسوبا على النظام صراحة, يطالب السعودية والكويت بعدم تقديم معونات بل بإعانة الأردنيين على تتبع مآل المعونات السابقة, وهو ذات ما كتبته مخاطبة "الشقيقة الكبرى" في بدايات الألفية حين جُند بعض الصحفيين الأردنيين, المسترزقين بدورهم من النظام بوفرة, للتسول باسمنا لديها.

حين تمكنت مصر من خلع فرعونها, جرى في أول انتخاباتها إعمال للمال السياسي على يد حائزيه الرئيسيين, فالنظام الحاكم والإسلاميون كلاهما وظف المال السياسي في معركة الانتخابات

وحتى حين تمكنت مصر من خلع فرعونها, جرى في أول انتخاباتها إعمال للمال السياسي على يد حائزيه الرئيسيين. فالنظام الحاكم والإسلاميون كلاهما وظف المال السياسي في معركة انتخابات ما بعد الثورة في جولتيها الأولى والثانية.

وقصة الجولتين تؤكد أن "الإسلاميين" ليسوا ممثلين لا للإسلام ولا لـ1,3 مليار مسلم في العالم (بدليل انقسام هؤلاء لطوائف واقتتالهم للأسف بينيا منذ قرون ولحينه لمكاسب سياسية), بل هم لا يمثلون حتى أغلبية ناخبة من الثمانين مليون مسلم مصري أو الستة ملايين مسلم أردني, وإلا لما وجدوا من ينافسهم في الانتخابات ابتداء, ولما احتاج إسلاميو مصر لتوسل دعم تيارات أخرى في مواجهة مرشح "الفلول" ولبذل وعود وعهود، انتهاكهم لها بعد الفوز دليل آخر على أن ما يجري هو توظيف سياسي نفعي بحت للإسلام كشعار جاذب, كما توظف تيارات سياسية أخرى شعاراتها وبنزاهة أكبر كونها لا تدعي دعما إلهيا ولا تدعي الحديث باسم الله.

وهذا هام لبيان كيفية استثمار الدين لجمع المال (بدءا بالزكاة ومرورا بالتبرعات وانتهاء بالبنوك وكل أشكال الاستثمارات الرأسمالية الأخرى) لتيار سياسي بعينه, لتحويله لمال سياسي لا يفيد إن لم يتم إبقاء فئة تُستغل حاجتها إليه. وهذا ليس مبدأ الزكاة -الذي لو طبق في دول الخليج كما يُزعم لكفت زكاة أثريائه أضعاف حاجة فقرائه- ولكنه مبدأ اليد العليا واليد السفلى الذي حذر منه القرآن الكريم حاثا الإنسان على أن لا يقبل حالة "اليد السفلى".

ولكون الزكاة "حقا" يوازي في الدولة الحديثة حق كامل الشعب في خدمات ورعاية الدولة الممولة من ريع ثرواتها الوطنية والرسوم والضرائب التي تجنيها من المقتدرين خاصة, فإن توظيفها سياسيا بالمنح أو الحجب منّة تستوجب الولاء, فيه مخالفة صريحة لشرع الله كما أنه مخالف لقوانين كل الدول التي تحكم بقوانين ناظمة وضامنة لحقوق الإنسان والمواطنة متفق عليها دوليا ولا مجال للاجتهاد فيها هي أيضا.

ما جرى في انتخابات الأردن (ومثله جزء غير يسير مما جرى في مصر) لا يقف عند كونه خرقا صريحا لكلا المنظومتين الحقوقيتين الشرعية والوضعية, بل هو جزء من مخطط "صناعة العبيد" القائم بتعمد لاستثماره سياسيا.

فأحدث دراسة للفقر في الأردن صدرت أثناء الحملة الانتخابية تؤشر على أن نسبة الواقعين تحت خط الفقر تزايدت لتصل إلى 14.5%، وفي تحليلات اقتصادية نجد أن النسبة ستبلغ 16% لو شملت من يتلقون دعما كفقراء من صندوق المعونة الوطنية بما يرفع دخلهم الإحصائي, وتوصل التحليلات النسبة لـ17%.. في حين تقول ذات الدراسة أن إنفاق الـ10% الأثرياء في الأردن زاد بنسبة 27.5%.. أما الطبقة المتوسطة, فسرها عميق لن يعرف قبل أن يتفجر لبلوغه الفقر المدقع, كونها  تتعفف عرفا عن كشف حقيقة وضعها حتى للباحث.

لعجيب أن الدولة تمنّ على الناس بكونها رفعت الدخل الفردي الشهري المحدد لخط الفقر بـ11 دينارا وبضعة قروش عما كان عليه في الدراسة السابقة التي جرت قبل أكثر من أربعة أعوام. وهي زيادة تساوي فارق سعر جرتي غاز مما جرى رفع أسعاره مع كامل المشتقات النفطية قبل شهرين فقط, سبقتها رفوعات عدة لذات أسعار الطاقة ولأسعار خدمات ومواد أساسية أخرى.

وبسؤالي عن الحد الأدنى لكلفة أجرة الباص أو الباصات اللازمة لتنقل أي عامل لمكان عمله, فوجئت بأنه يستهلك أكثر من نصف الدخل اليومي "للفقير" المقدر بحدود ثلاثة دولارات بعد رفعه, وأكثر منه بكثير يلزم لطلاب الجامعات.

يلحظ الاقتصاديون غياب أي توجه لتأهيل الأفراد والأسر الفقيرة، أو خطط استثمارية موفرة لفرص العمل، أو إستراتيجية لمكافحة الفقر الذي يتنامى بشكل سرطاني

ويلحظ الكتّاب الاقتصاديون, من نهج توظيف المعونة وأرقام وأوجه صرف الموازنة, غياب أي توجه لتأهيل الأفراد والأسر الفقيرة أو خطط استثمارية موفرة لفرص العمل أو إستراتيجية لمكافحة الفقر الذي يتنامى بشكل سرطاني.

والحكمة من هذا نقلتها الصحافة الأردنية عن متنفذ في أكثر من موقع يأتي بالتعيين أو يزعم انتخابه, أفقرت ثروته مئات الأسر الأردنية إن لم يكن ألوفها, ترشح ثانية للانتخابات الأخيرة, يبرر توظيف المال السياسي في الانتخابات بقوله "دعوا الفقراء يترزقون".

وهم حتما ترزقوا لوهلة ولحاجة ملحة تستدعي وضع الكرامة جانبا, كما جرى تحديدا في الساعات الأخيرة وساعة التمديد للاقتراع، حيث تم رفع سعر الصوت بما رفع نسبة الاقتراع من حدود 20% عصرا ليصل إلى 56.5%, وأدى نقل الناخبين الفقراء لمراكز الاقتراع بسرعة, بحسب ما أوردت الصحافة, لحوادث سير لم تعطل مهمة الشارين.. وقريبا سيبدأ "ترزّق" النواب من استثمارهم هذا.

مشهد يذكّر بآخر من رواية "قصة مدينتين" التي أرّخت أدبيا للثورة الفرنسية كما لا تستطيع الوثائق أن تفعل. المشهد يصور حادث دهس عربة أحد النبلاء -وهي تمر مسرعة في حي شعبي- لطفل فقير, فأبطأت العربة سيرها وأطل صاحبها من نافذتها ورمى قطعة نقد لوالد الطفل المقتول, وتابعت العربة سيرها.. في تلك الليلة تسلق والد الطفل قصر النبيل وتسلل إلى غرفة نومه… هذا هو المشهد الذي اختاره تشارلز ديكنز لبداية الثورة الفرنسية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.