أي مستقبل للأمن النووي؟

أي مستقبل للأمن النووي؟ - الكاتب: عبد الجليل المرهون

undefined 

كيف يبدو واقع الأمن النووي في البيئة الدولية الراهنة؟ ما فرص التحكم بالبنية النووية المدنية، ومنع وقوع المواد الذرية والإشعاعية في أيد غير أمينة؟ وماذا عن المقاربات العسكرية والإستراتيجية للأمن النووي؟ 

أولا: مخاطر الوصول غير المشروع للمواد النووية
عقدت في أواخر مايو/أيار الماضي قمة الأمن النووي الثانية، في العاصمة الكورية الجنوبية سول  بمشاركة 53 دولة. وكانت القمة الأولى قد عقدت في واشنطن في أبريل/نيسان 2010، بهدف تسليط الضوء على مخاطر تسرب المواد النووية إلى جهات غير نظامية أو غير مسؤولة.

وجاءت تلك القمة بعد خمسة أعوام على إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة للمعاهدة الدولية لمكافحة الإرهاب النووي، في أبريل/نيسان 2005.   

وقد استمدت معاهدة العام 2005 أصولها الرئيسة من معاهدة الحماية المادية للمواد النووية، التي جرى تبنيها عام 1979، وتعد من أركان مقاربة الأمن النووي العالمي. ويمكن النظر، في السياق نفسه، إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1540)، الصادر عام 2004، الذي هدف إلى منع وقوع أسلحة الدمار الشامل ومكوناتها في أيدي الجهات غير الحكومية.

كما يمكن النظر إلى "المبادرة العالمية لمكافحة الإرهاب النووي"، التي أطلقتها الولايات المتحدة وروسيا، في يوليو/تموز 2006، وهدفت إلى "إقامة شبكة متنامية من الدول الشريكة، الملتزمة باتخاذ إجراءات فعالة، لإقامة دفاع عميق متعدد الطبقات، يمكنه التكيف باستمرار مع طبيعة التهديدات المتغيرة".

تتجسد المخاوف الدولية، ذات الصلة بالاستخدام غير المشروع للمواد النووية في ثلاث حالات أساسية، هي: استخدام الذخائر النووية لإصابة أهداف محددة, وتنفيذ الأعمال الإرهابية, واستخدام المواد المشعة بهدف القتل

وتتجسد المخاوف الدولية ذات الصلة بالاستخدام غير المشروع للمواد النووية، من قبل أفراد أو جماعات، في ثلاث حالات أساسية هي: استخدام الذخائر النووية (خاصة القنابل الصغيرة) لإصابة أهداف محددة. وتنفيذ الأعمال الإرهابية ضد المنشآت النووية (بما في ذلك مفاعلات الطاقة العاملة بالوقود النووي). واستخدام المواد المشعة بهدف القتل، بما في ذلك المواد المنخفضة الإشعاع. ويجري استخدام هذه المواد أيضا في صناعة ما يعرف بالقنبلة القذرة.

ويؤدي تفجير رأس نووي متوسط إلى تلويث إشعاعي طويل الأمد، لمساحة تبلغ عدة كيلومترات مربعة، بينما يسفر تدمير مفاعل للطاقة النووية، أو مستودع للوقود النووي المستهلك، عن تلويث عدة مئات من الكيلومترات المربعة. أما تدمير مفاعل لتخصيب اليورانيوم فيتسبب في تلويث إشعاعي لبقعة تبلغ مساحتها عدة آلاف من الكيلومترات.

وتطرح جملة معايير لتحديد مدى تمكن الدولة من الإمساك بمقاربة الأمن النووي، منها قياس القدرات الوقائية للدولة (الطبيعية والجغرافية)، وقدرات الرد لديها (قوات الشرطة الخاصة وكيفية السيطرة على الطوارئ وإجراءات مكافحة المتفجرات)، وقدرات ما بعد الحدث (تحقيقات للشرطة تغطي الأبعاد الجنائية والاقتصادية). وقدرات الأمن الإلكتروني.

وهناك إجراءات احترازية يمكن اعتمادها، على المستويات الوطنية، لضمان عدم وقوع المواد منخفضة الإشعاع بأيد غير أمينة، من بينها: وضع ضوابط تعتمد تقنية البيانات الحيوية، لتعرف هوية من يستطيعون الوصول إلى هذه المواد، ومراقبة المرافق والموظفين عن بعد، واعتماد أنظمة وبرمجيات كمبيوتر متصلة بوحدات الرد السريع، في الأجهزة الأمنية.

ثانيا: صعوبة التحكم بالتكنولوجيا النووية  
البعد الآخر في مقاربة الموقف النووي هو ذلك المرتبط بالأسلحة النووية المنتشرة على صعيد عالمي، والتي تزايدت كما ونوعا، واتسع نطاقها الجغرافي.

ووفقا للتقديرات الدولية، كان العالم يحوي في مطلع العام 2011 ما مجموعه 20530 قنبلة نووية. وهذا بالطبع فضلا عن الانتشار غير المسبوق للتكنولوجيا النووية، لا سيما منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. كما أن حظر التجارب الذرية لم يعد موضع إجماع فعلي. والأهم من ذلك كله، بدت الضوابط والقيود المفروضة على الاستخدام الفعلي للسلاح النووي وقد تراجعت عما كانت عليه بالأمس القريب.

وكان قد جرى في العام 1957 إنشاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي كلفت بمسؤولية مزدوجة، تتمثل في تعزيز التكنولوجيا النووية ومراقبتها. وبحلول العام 1968، اتفق نهائيا على معاهدة حظر الانتشار النووي، التي تمنع انتشار الأسلحة النووية. وتتيح التعاون من أجل استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية. وتعزز هدف تحقيق نزع السلاح النووي.

ورغم ذلك، تضمنت هذه المعاهدة بنودا تسمح لغير الدول النووية الخمس بتنفيذ برامج نووية سلمية، ومن ثم سحب عضويتها، بعد بلوغها مستوى التطور، الذي يمكنها من المباشرة بتصنيع السلاح النووي. وهذا تحديدا ما حدث في حالة كوريا الشمالية، التي أعلنت انسحابها من المعاهدة في العام 2003. كما لم تتمكن هذه المعاهدة من وقف الاستخدام العسكري للطاقة النووية في كل من إسرائيل وباكستان والهند.

وفي مشهد مقابل، أوقفت كل من تايوان وكوريا الجنوبية مشاريعهما لإنتاج أسلحة نووية. وقيل إن ذلك قد جرى تحت ضغوط سرية مارستها الولايات المتحدة. وبعد أن حصلت كل منهما على إعادة تأكيد من واشنطن بضمان أمنهما. 

كذلك، أوقفت الأرجنتين والبرازيل برامجهما الناشئة لإنتاج السلاح النووي. وتخلت جنوب أفريقيا عن مخزونها السري من هذه الأسلحة.

الأسلحة النووية في العالم مطلع العام 2011


البلد

القنابل المنشورة

بقية القنابل


المجموع

الولايات المتحدة

2 150

6 350

8 500

روسيا

2 427

8 570

11 000

بريطانيا

160

65

225

فرنسا

290

10

300

الصين

. .

200

240

الهند

. .

80–100

80–100

باكستان

. .

90–110

90–110

إسرائيل

. .

80

80

مجموع الدول النووية

5 027

15 500

20 530

Source: Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI) – 2012

ثالثا: تحولات الميزان الإستراتيجي
وقبيل افتتاح قمة سول النووية الأخيرة، تعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما بالسعي مع روسيا لإجراء المزيد من التخفيضات في مخزون البلدين من الأسلحة الإستراتيجية، قائلا "أعتقد بحزم أن بإمكاننا ضمان أمن الولايات المتحدة وحلفائنا. والحفاظ على رادع قوي ضد أي تهديد. والسعي لإجراء مزيد من التخفيضات في ترسانتنا النووية". وأضاف "بإمكاننا أن نقول بثقة إن لدينا أسلحة نووية أكبر مما نحتاجه".

تقليص الترسانة النووية الروسية والأميركية يؤدي إلى تعاظم الأهمية الخاصة لعدد الوسائط الناقلة، ذلك أن قدرات الردع الفعلية تعتمد على عدد هذه الوسائط، ومواصفاتها الفنية، وقدرتها على البقاء

كان الرئيس أوباما قد وقع مع نظيره الروسي ديمتري مدفيدف، في 8 أبريل/نيسان2010، على معاهدة "ستارت" الجديدة للحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية.

والأسلحة الإستراتيجية المعنية في المعاهدة هي الأسلحة النووية في الغالب، إلا أنه لم تسم بالأسلحة النووية لشمولها الصواريخ بعيدة المدى، حتى وهي خالية من الرؤوس الذرية.

وثبتت المعاهدة الجديدة الحد الأقصى للقوى النووية في كل من الولايات المتحدة وروسيا، على النحو التالي:

 – 1550 شحنة نووية  لكل من الدولتين.
 –  700 صاروخ باليستي عابرة للقارات، أو منصوب في الغواصات الذرية والقاذفات الثقيلة، وهو ما يقل بمقدار الضعف عن الرقم المثبت في اتفاقية "ستارت-1".

وكان الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة قد وقعا معاهدة "ستارت–1″، في 31 يوليو/تموز 1991، ودخلت حيز التنفيذ في 5 ديسمبر/كانون الأول 1994، وشاركت فيها ثلاث دول أخرى غير نووية، هي: بيلاروسيا وأوكرانيا وكزاخستان.

ومن الناحية العملية، يؤدي تقليص الترسانة النووية الروسية والأميركية إلى تعاظم الأهمية الخاصة لعدد الوسائط الناقلة، ذلك أن قدرات الردع الفعلية تعتمد على عدد هذه الوسائط ومواصفاتها الفنية وقدرتها على البقاء.

ويتمثل التحدي الراهن الذي يواجه معاهدة "ستارت" الجديدة في إيجاد تفسير مشترك لطبيعة الترابط المقصود بين الأسلحة الإستراتيجية الهجومية والأسلحة الإستراتيجية الدفاعية. ويرتبط هذا الأمر بصفة أساسية بالنقاش الدائر حول الدرع الأميركي المضاد للصواريخ المزمع إقامته في أوروبا.

وإذا كان جوهر العلاقات الروسية الأميركية يدور حول إشكالية التوازن الإستراتيجي أو بالأصح الاستقرار الإستراتيجي، فإن تعثر اتفاقية "ستارت" الجديدة يعني أن هذه العلاقات ستبقى رهينة توترات كامنة أو معلنة، قد تعكس نفسها على طيف واسع من القضايا العالمية، بما فيها تلك الدائرة في منطقتنا العربية.

رابعا: مشهد الحرب النووية
على صعيد السياسات الحاكمة لاستخدام السلاح النووي، تحركت الولايات المتحدة منذ وقت مبكر باتجاه تطوير إستراتيجية تنطوي على "توازن فعال" بين القوتين التقليدية والنووية. وقد تطلب الأمر إعادة النظر في العقيدتين التكتيكية والعملياتية، في ضوء القدرات النووية الأميركية وقدرات عدو يمتلك أسلحة نووية. وكان هذا التحول هو الذي تحكم في الصراع الأيديولوجي والعسكري بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على مدى عقود من الزمن.

وفي سبتمبر/أيلول 1996، وقع الرئيس الأميركي حينها بيل كلينتون مذكرة رئاسية تخلت بموجبها الولايات المتحدة عن التعهد، الذي أقر في العام 1978، وقضى بعدم استخدام السلاح النووي ضد دول لا تمتلك هذا السلاح.

وفي يناير/كانون الثاني 2002، طرح وزير الدفاع دونالد رمسفيلد وثيقة ‏‏السياسة النووية (NPR)، التي أشارت إلى أن الترسانة النووية الأميركية لا تحوي أسلحة دقيقة بالشكل الكافي، بل أسلحة قوية للغاية، لكنها ذات قدرة محدودة جدا على اختراق الأرض. واستعرضت الوثيقة 1400 هدف تحت الأرض حول العالم، اعتبرت أنه ليس للأسلحة التقليدية قوة اختراق كافية لتدميرها.

ورأى الأميركيون أن قوة الردع الأميركية يمكن تعزيزها كلما تضاءل الفرق بين الأسلحة النووية والأسلحة التقليدية.

وفي العام 2006، حددت الولايات المتحدة عددا من خياراتها بعيدة المدى في المراجعة الدفاعية التي تصدر كل أربع سنوات. والمعروفة اختصارا بـ(QDR). وقد أوصت هذه الوثيقة باعتماد مجموعة واسعة من خيارات الردع التقليدي، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الردع النووي.

وفي العام 2010، أصدرت إدارة الرئيس أوباما وثيقة المراجعة النووية الجديدة، التي دعت إلى التخلي عن عقلية الحرب الباردة في مقاربة السياسات النووية، لا سيما ما يتصل بمستوى الكم والنوع، الذي يمكن للولايات المتحدة اعتماده على صعيد مخزونها النووي. 

جرت إعادة تعريف الظروف التي يستخدم بموجبها السلاح النووي الروسي، لتشمل صد عدوان تستخدم فيه أسلحة تقليدية، ليس في الحرب الواسعة النطاق فحسب، بل كذلك في الحروب الإقليمية والمحدودة

على مستوى السياسات الروسية، جرى في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2009 الإعلان عن الملامح العامة للعقيدة العسكرية الروسية، للفترة بين 2010 و2020. وهي العقيدة الثالثة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

وعلى صعيد الجزء الخاص بالسياسة النووية، جرت إعادة تعريف الظروف التي يستخدم بموجبها السلاح النووي الروسي، لتشمل صد عدوان تستخدم فيه أسلحة تقليدية، ليس في الحرب الواسعة النطاق فحسب، بل كذلك في الحروب الإقليمية، والحروب المحدودة النطاق (أو الحروب المحلية). وفوق ذلك لم تستبعد العقيدة الجديدة استخدام السلاح النووي "وفقا لظروف الموقف ونوايا العدو المحتمل"، أي استخدام هذا السلاح في حرب استباقية، يتقرر شنها وفقا لتحليل النوايا.

ويمكن القول الآن إنه قد سقطت تباعا أربعة خطوط حمراء فرضت نفسها تقليديا على المبادئ الحاكمة لاستخدام السلاح النووي. وهذه الخطوط، أو المحرمات، هي: المبادرة باستخدام القوة النووية في الحرب، واستخدامها ضد عدو غير نووي، واستخدامها في الحروب المحلية (غير الإقليمية أو الواسعة النطاق)، واستخدامها على سبيل الحرب الوقائية، المستندة بالدرجة الأساسية إلى التحليل والتخمين.

إن الأمن النووي العالمي لا يعد اليوم في أحسن حالاته بل في أكثرها ضبابية، إن على صعيد مخاطر حيازة المواد النووية والإشعاعية لأغراض غير مشروعة، أو على مستوى انتشار التكنولوجيا النووية، وطبيعة الضوابط الحاكمة لاستخدام السلاح النووي. ولا ريب، بأن هناك الكثير مما يجب على المجتمع الدولي القيام به لجعل مستقبل البشرية أكثر أمنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.