للتذكير وسط المعمعة

للتذكير وسط المعمعة الكاتب: توجان فيصل


 
قصة الملك سليمان والأم الحقيقية التي تؤثر تسليم ابنها لأخرى تنازعها عليه, على أن يشق  لنصفين, تفرض نفسها على مشاهدي ما يجري في سوريا وعلى من يبحث عن حل له.. وبالمقابل, العزيز الوحيد الذي يفتدى حتى بالأبناء هو الوطن, كما فعل مناضلون كثر منهم الشيخ حسن نصر الله. 
 
وسوريا معرضة لأطماع ستبدل  وجودها في قبضة أسرة واحدة تزعم أبوتها وأمومتها حصريا, بمخططات تقسيم وتقطيع أوصال البلاد. فقمة السذاجة افتراض أن القوى المتربصة بسوريا منذ زمن, لا تتدخل فيما يجري الآن.
 
الكتابة عن سوريا في هذه الأيام كالسير في حقل ألغام, لمن يريد الالتزام الأمين بدور المحلل السياسي, الذي هو كالطبيب في تشخيص الحالة  والنصح بعلاج يسبق الكي والبتر, أعجب أم لم يعجب تشخيصه مرضاه.. فغير هذا يجعل المرضى مجرد "زبائن", وكثرة من يستثمرون الأمة بجعلها زبائن, قبل وإبّان وبعد ثورات الشعوب في وجه الدكتاتورية والفساد.
 

"
الكتابة عن سوريا في هذه الأيام كالسير في حقل ألغام, لمن يريد الالتزام الأمين بدور المحلل السياسي, الذي هو كالطبيب في تشخيص الحالة والنصح بعلاج يسبق الكي والبتر
"

ويزيد الصعوبة أن تكتب عشية ذهاب مراقبي الجامعة العربية لسوريا في أول خرق للستار الحديدي حول بلد لا يُعرف تماما ما يفعل, ماذا فيه أو به مؤخرا. فالحديث هنا يأتي قبل تبين أحدث الحقائق, ولكنها حقائق لا تشكل وحدها صورة وضع أغلب مكوناته سابق بل وقديم..

 
ومن هنا وجبت الإعانة على اكتمال الصورة  بالتذكير ببدهيات عقلانية لا يطغى عليها تشويش المصالح, كما لا يطغى فعل "الأدرينالين" الذي أشار كاتب سوري لتزايده عند كل عملية  قتل  وقتل مقابل.
 
أهم الحقائق القديمة, أن ما نتحدث عنه هنا  ليس القطر السوري ومصيره, بل مصير سوريا الكبرى التي كانت موحدة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. "بلاد الشام" تعود لاسم مدينة دمشق القديم "شام" نسبة لسام بن نوح, وكان اسمه يلفظ "شام" بالآرامية. وهو ما يثبت أن سكان بلاد الشام الساميين هم العرب, بعكس ما يروج اليهود الصهاينة الآتون من أقوام مختلفة, وقلة قليلة منهم يهود ساميون من المنطقة.
 
وثاني الحقائق التي يفترض أن لا تحتاج لتذكير, أن أول تقسيم لسوريا الطبيعية تم في اتفاقية سايكس–بيكو. و"الحلفاء" الذين قسموها وتقاسموها وأعطوا فلسطين للصهاينة, جاؤوا, أيضا, بزعم نصرة ثورة تحرر عربية, وكانت بلاد الشام ودمشق بخاصة, تمثل حينها قلب وقبلة الثوار.
 
وثالث تلك الحقائق, أن دولة الصهاينة لا تقبل بتحديد حدودها, وتزعم أنها دولة "الساميين" وأن العرب وكل من يؤازرهم أو يعيد دراسة التاريخ بما يؤدي لدحض أي من المزاعم الصهيونية, يعادون السامية.. هذه الدولة حتما لها مطامع  في "شام" (سام) بقدر ما لها في فلسطين, وتأمل في تدمير أي أثر عربي في دمشق كما تفعل بالقدس وبنابلس والخليل.
 
جهل غالبية العرب بمطامع الحلفاء والصهاينة وبوجود اتفاقية سايكس–بيكو, وتواطؤ بعض قياداتهم عليهم حينها, يسّر تمرير ذلك التقسيم الذي تعود له كل المآسي التي حلت بالأقطار التي نتجت عنه, والأخطار التي تتهددها الآن, فرادى ومجتمعة..
 
وهذا الجهل بعضه خداع للنفس أنتجه توق لإنجاح الثورة العربية, مما جعل العرب يتحالفون مع شياطين أكبر. وبدل لطم الخدود وقول "لو كنا عرفنا حينها", نؤثر هنا أن نعيد تعريف المعروف كي لا نلدغ من ذات الجحر مرتين.. بخاصة في وجود من يطالبون بتدخل دولي عبر مجلس الأمن, بمعنى التدخل العسكري الأجنبي, وفور تفعيل مبادرة الجامعة العربية (التي هوجمت لأنها لم تتدخل في الشأن الليبي), مما يجعل طلبهم مستغربا.. ونورد حزمة الحقائق المستجدة التالية, لتقرأ في ضوء سابقاتها:
 
أولا, أن هنالك رغبة لدى الغرب في التدخل العسكري في سوريا. وكل المؤشرات كانت تقول إن سوريا ستلي العراق, ولهذا  نجد "سوريين" يدعون  لهذا الآن!! ما غاب عن هؤلاء أنه لا أميركا ولا أوروبا تريد التدخل العسكري الآن, ليس لأن الصين وروسيا ترفضانه, بل لأسباب سياسية عسكرية اقتصادية متعلقة بالداخل الأوروبي والأميركي. 
 
وإسرائيل ذاتها تخشى أن تضغط باتجاه هكذا تدخل, خشية أن يتحول  الجيش السوري من فوره لحرب الغزاة. وهو الجيش الذي حقق نصر تشرين, والشعب السوري والعربي سيسانده حينها ويخوّن ويسقط كل من يحاول طعنه من الخلف.
 
وبوجود حزب الله المنتصر والمتحفز لمحاربة إسرائيل, الأرجح -بغض النظر عما سيصيب القوات الأجنبية وردود فعل شعوبهم- فإن إسرائيل ستخسر عسكريا ويتقوض مفهوم أمنها بما يؤذن بنهاية دولة تعيش على جلب مستوطنين أغراب بإغراءات لا تزيد عما يجلب مرتزقة للجيوش. 

"
النظام السوري سقط منذ الأسابيع الأولى لانتفاضة الشعب, وذلك لتوظيفه درجة من العنف والإذلال لا يمكن بعدها أن يأمن السوريون لهكذا نظام
"

ثانيا: إن احتلال العراق وتسريح جيشه, لم يمكنا إلا بعد حصار العراق لاثنتي عشرة سنة.. ولهذا تتحدث أميركا وأوروبا عن الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية. ولكون سوريا المحاصرة غارقة في صدام دموي, ما سيلحق بالشعب السوري أسوأ مما لحق بالشعب العراقي أثناء حصاره.. هو أقرب لما لحق بالعراقيين بعد احتلال العراق وجعله أرضا مستباحة.

 
وهكذا "تقلى سوريا بزيتها", وحين تصبح أرضا محروقة, تبدأ مهمة الأعداء في تصفية ما تبقى من جيش سوريا وعقولها ونخبها الوطنية, ويبدأ مخطط تقسيم سوريا الأشد إلحاحا من تقسيم العراق, كون سوريا مجاورة لإسرائيل ولن يسمح لها بأن تتوحد ولو بفدرالية, بينما فدرالية العراق تخدم المطلوب منه كخزان نفط تحت تصرف أميركا وإسرائيل.
 
ثالثا: حقيقة أن النظام السوري سقط منذ الأسابيع الأولى لانتفاضة الشعب, وذلك لتوظيفه درجة من العنف والإذلال لا يمكن بعدها أن يأمن السوريون لهكذا نظام. وحتى العنف المتأتي من اختراقات خارجية معادية, أو من قوى متطرفة تريد أن تحل محل النظام بذات وسائله, أغلبه حُسب على قوات الأمن الرسمية التي تعمدت أن تظهر بمظهر القاهر منذ اليوم الأول.. فكما يقول المثل الشركسي "الثعلب يحسب عليه ما أكله وما لم يأكله". وحتى ما لم يحسب على قوات الأمن مباشرة, تتحمل "الدولة" مسؤوليته.
 
وهذه الحقيقة المفترض أنها تلبي مطالب الشعب, تلبي بذات القدر مصالح إسرائيل وحلفائها. فلا عاقل ولا منصف ينكر عداء النظام السوري لإسرائيل ولا فضله في انتصار تشرين أو انتصارات حزب الله التي أنعشت آمال العرب في زوال إسرائيل. ولكن عسكرة نهج النظام في التعامل مع شعبه, أودى به للدكتاتورية التي جلبت معها, ككل الدكتاتوريات, حجما هائلا من الفساد المحتمي بها.. والفساد مقتل الحكم, أي حكم.
 
رابعا: حقيقة مستجدة لم يجر التوقف عندها (بفعل أدرينالين الثأر أو بفعل المطامع الشخصية ), رغم أن نصف الحل يكمن فيها.. وهي أنه ليس لسوريا الآن قيادة واحدة ولا حتى قيادة موحدة. وهي حقيقة اعترف بها المعنيون مباشرة أو بشكل غير مباشر.. الشارع السوري كان يعرف أن الحكم حين جرى توريثه, أوكل شقه السياسي للدكتور بشار لما يلقاه من قبول شعبي أكبر, والشق الأمني أبقي بيد أخيه ماهر, فيما اختلطت بقايا نفوذ رفعت الأسد بالهوامش الملحقة, وتنسب له غالبية الشبيحة, والأهم نهجها الذي أرساه. وبقية الصلاحيات لا يعرف تداخلها لاختلاط المال الفاسد بالسياسة.
 
وبينما يصعب قبول اتهامات رفعت لمن يزعم أنهم يحركون الجيش, فإن قوله إن بشار غير مسؤول عن الإجراءات الأمنية هو مما تؤيده غالبية شعبية سورية ليست في وارد المنافسة على المناصب.. وهو ذاته ما قاله بشار نفسه بصيغ مواربة في مقابلته مع محطة (أي بي سي). وفي المعمعة المتعمدة من كافة الأطراف الطامعة, لم ترد قراءة محايدة لتفاصيل اللقاء, بل أخذ بالقراءة المجزوءة المسيسة للإعلام والساسة الأميركان.
 
ولا تهمني السقطة الإعلامية الأميركية, ولكن يهمني أن لا تغيب القدرة على قراءة ما بين الكلمات عن سياسيين يريدون تولي مصير سوريا الكبرى وليس فقط القطر السوري.. كي لا نكون أجهل مما كنا زمن سايكس-بيكو.
 
فمع أن قلة تساءلت عما إذا كان هذا يعني أن بشار أصبح واجهة ورهينة قرارات غيره, لا أحد توقف عند ما يفتحه هذا الاحتمال الغالب من فرص نقل الحكم بقدر بأقل من الخسائر البشرية, من حلقته الغائمة حاليا إلى ممثلين حقيقيين للشعب.
 
فبشار الأقدر على ذلك النقل  لكونه رأس الدولة, وقد سبق لمفتي سوريا أن سرب رسالة مشابهة بقوله إن بشار يرغب في العودة لممارسة طب العيون دون أن يكذبه أحد بمن فيهم  بشار ذاته.. ومع ذلك هنالك من يسمون أنفسهم معارضة ويجيبون: لا, أنت الرئيس, ولا نريد توقيعك على تنحٍ, بل نريد "قطع يدك"!!
 

"
الجيش السوري محدود الخيارات بين تصفيته في حرب أهلية غير مشرّفة تليها مطاردة أعدائه التاريخيين لفلوله بقتلهم وإذلالهم, وبين توليه دور الحامي والمنقذ لسوريا وشعبها, والذي هو أهل له
"
والنصف الثاني للحل لدى الجيش السوري القدير عسكريا وذي التاريخ السياسي الذي يؤهله لتولي مرحلة الانتقال. فالجيش السوري كان صاحب قرار سياسي وصل حد إبرام الوحدة مع مصر. وليس من العدل ولا العقل قسمته على أمن نظام وجيش حر لا مناص من أن يقتتلا.. فهنالك الجزء الثالث الذي ينتظم غالبية الجيش, وهو الجيش "السوري" القومي عمود خيمة سوريا. وهو الآن محدود الخيارات بين تصفيته  في حرب أهلية غير مشرّفة تليها مطاردة أعدائه التاريخيين لفلوله بقتلهم وإذلالهم.. وبين توليه دور الحامي والمنقذ لسوريا وشعبها, والذي هو أهل له.
 
ودخول الجامعة العربية على خط الحل, يمكن أن ينسق لتلك النقلة السلمية للحكم, ويحسب لكل من قاموا بها أنهم أوقفوا عن سوريا جراح وقروح حرب أهلية, وأنهم صدّوا سايكس–بيكو ثانية عن كل أقطار سوريا الكبرى المبتلاة منذ تلك القسمة.. وإن عجزت الجامعة كهيئة رسمية, فلن تعجز القوى الشعبية التي ستجد في عقلاء المسؤولين العرب سندا يعوض عن جامعة فشلت.
 

ومن يرفض هذا لا يكون قد "قطع يد بشار", بل هو يحقق مقولة افتداء بشار "بالروح والدم".. فهل المطلوب إعادة العنب السوري لأهله, أم القتل العبثي لآلاف السوريين في الطريق لناطور أعلن مباشرة وبطرق غير مباشرة أنه غير مسؤول عما جرى, ويرغب في التنحي عن صليب الفزاعة المثبتة على مدخل الكرم؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.