إسرائيل والبلقان.. من العلاقات الباردة إلى التحالف الإستراتيجي

صالح النعامي

– تحولات هامة
– فزاعة العثمانيين الجدد
– الأسطول مقابل الاستثمارات
– لغة المصالح وسلوك عباس

من المفارقة أن تكون اليونان تحديدا، الدولة الأوروبية التي تنقذ إسرائيل من التداعيات التي كانت ستترتب على إبحار "أسطول الحرية 2" صوب شواطئ مدينة غزة، وتحول دون تحقق سيناريو الرعب الذي ظلت تخشاه تل أبيب، المتمثل في المواجهة الحتمية بين الجيش الإسرائيلي والمشاركين في الأسطول، وهو السيناريو الذي سعت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بكل قوة لتلافيه.

وتتمثل المفارقة في أن اليونان كانت حتى وقت قريب أكثر الدول الأوروبية تضامنا مع القضايا العربية، ومؤازرة للشعب الفلسطيني، وكان دعم النضال الفلسطيني ضد الاحتلال أحد محاور الإجماع بين الفرقاء السياسيين في الساحة اليونانية.

"
حرص ممثلو اليونان في المحافل الدولية وفي الأمم المتحدة على تأييد الموقف الإسرائيلي بشكل تلقائي، وهذا ما فاجأ حتى النخب السياسية الحاكمة في إسرائيل
"

لقد كان الحزب الاشتراكي اليوناني (الباسوك) أكثر الأحزاب الاشتراكية تأييدا للقضية الفلسطينية، لاسيما تحت قيادة جورجيو بباندريو، جد رئيس الوزراء الحالي جورج بباندريو، وتحت قيادة والده أندرياس بباندريو، وقد توليا رئاسة الوزراء في أثينا، وكان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات صديقا شخصيا لأندرياس ببناندريو.

ونظرا لهذا الموقف، كانت اليونان آخر الدول الأوروبية التي تقدم على إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عام 1992، وحتى عندما تم تبادل السفراء بين الجانبين، ظلت العلاقات بين الجانبين باردة.


تحولات هامة
منذ مطلع يونيو/حزيران 2010 شهدت العلاقات اليونانية الإسرائيلية تحولات هامة، بلغت أوجها في إعلان بباندريو ونتنياهو أثناء زيارة الأخير لأثينا قبل عدة أشهر أن الحكومتين اتفقتا على التعاون في المجالات الاستخبارية والأمنية، حيث تم التوافق على أن تقوم لجنة مشتركة بتنسيق التعاون الإستراتيجي، إلى جانب توسيع التعاون مع المجالات السياسية والاقتصادية.

وسرعان ما تمت ترجمة هذا التعاون على النحو الذي يمثل خدمة إستراتيجية هامة لإسرائيل تحديدا، حيث تم الاتفاق على سماح اليونان لسلاح الجو الإسرائيلي بإجراء مناورات عسكرية كبيرة في الأراضي اليونانية، حيث قام الإسرائيليون بمناورتين خلال العامين 2010 و2011.

لقد جاء هذا الاتفاق في وقت عصيب بالنسبة لإسرائيل، إذ إنه أعقب قرار تركيا التوقف عن السماح لسلاح الجو الإسرائيلي بالتدريب في الأجواء التركية، ردا على أحداث "أسطول الحرية الأول"، أواخر مايو/أيار من العام المنصرم.

صغر مساحة إسرائيل جعلها دائما تلجأ بشكل خاص إلى تركيا لإجراء التدريبات الجوية الهامة، لاسيما أن القيادة الإسرائيلية في تلك الفترة كانت تضع خيار توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، كأحد الخيارات الرئيسة في التعامل مع البرنامج الذري الإيراني.

وعلى الصعيد السياسي حرص ممثلو اليونان في المحافل الدولية وفي الأمم المتحدة على تأييد الموقف الإسرائيلي بشكل تلقائي، وهذا ما فاجأ حتى النخب السياسية الحاكمة في إسرائيل.

وإذا كان الكثير من دول العالم قد شاركت في إطفاء الحريق الذي أتى على معظم الأحراش التي تغطي جبل الكرمل في منطقة حيفا قبل حوالي تسعة أشهر، فقد حرصت اليونان على أن تكون مشاركتها ذات طابع خاص، حيث وضعت الحكومة اليونانية كل إمكانياتها وخبراتها تحت تصرف إسرائيل.

وكثيرا ما يشير مساعدو نتنياهو إلى أنه عندما توجه لبباندريو طلبا مساعدته، كان الأخير يزور بولندا ويجري لقاء مع رئيس وزرائها، لكنه اعتذر عن مواصلة اللقاء وانزوى في إحدى غرف ديوان رئيس الوزراء البولندي وأخذ يوجه كبار المسؤولين اليونانيين للإسراع بمساعدة إسرائيل. أي أن اليونانيين يحرصون على إظهار حميمية واضحة في علاقاتهم المتعاظمة مع الكيان الصهيوني.

ونظرا لأهمية العلاقات بين الجانبين، فقد عينت الحكومة الإسرائيلية دبلوماسيا مخضرما، وهو آرييه مكيل، كسفير لإسرائيل في أثينا، مع العلم أنه يعرف في تل أبيب، كأحد أفضل الخبراء في مجال العلاقات الدولية والدبلوماسية.


"
إسرائيل باتت تركز على الإرث التاريخي والثقافي في تحفيز دول البلقان بشكل عام للتعاون معها، إلى جانب توظيف الإسلامفوبيا في أوروبا في محاولة بناء علاقات على أسس جديدة مع هذه الدول
"

فزاعة العثمانيين الجدد
هناك الكثير من الأسباب التي تفسر التحول الهائل في موقف اليونان من إسرائيل، لكن مما لا شك فيه أن أحد أهم هذه الأسباب هو تدهور العلاقات بين إسرائيل وتركيا في أعقاب أحداث أسطول الحرية الأول في أواخر مايو/أيار من العام الماضي.

فتركيا التي كانت من أوثق حلفاء إسرائيل كانت عدوا لدودا لليونان، وهذا بالضبط ما دفع النخب الحاكمة في كل من تل أبيب وأثينا إلى استغلال هذه الأحداث لفتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما.

فقد كان الإسرائيليون يبحثون عن بدائل تعوضهم ما خسروه جراء تراجع التعاون العسكري الذي كان يربط أنقرة بتل أبيب، لاسيما التدريبات الجوية والتعاون الاستخباري، وعوائد صفقات بيع السلاح وغيرها. في حين وجدت اليونان في هذا التطور مناسبة لاستغلال العلاقات مع إسرائيل لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي كانت تعصف بها وتفاقمت حتى بلغت مستويات خطيرة جدا.

وقد أدركت إسرائيل حجم الطاقة الكامنة في العلاقات مع أثينا وعوائدها الإستراتيجية على الكيان الصهيوني، فأخذت تستغل تراث العداء بين تركيا واليونان عبر التشديد على أهمية تطوير العلاقات بين الجانبين للوقوف أمام "الأطماع" التركية.

وتشهد الباحثة الإسرائيلية أبيراما غولان بأن النخب الإسرائيلية حرصت على لفت أنظار المسؤولين اليونانيين مرارا إلى ما جاء في كتاب وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو "العمق الإستراتيجي" باعتبار أنه دليل على توجهات أردوغان لبعث الدولة العثمانية في نسختها الحديثة وأدواتها الجديدة، وأن كتاب أوغلو يمثل في الواقع "دليل العثمانيين الجدد" لاستعادة النفوذ القديم.

ولا يتردد الإسرائيليون في استغلال الرواسب التاريخية الناجمة عن وقوع اليونان وبقية دول البلقان تحت الحكم العثماني لمئات السنين.

ويعترف السفير الإسرائيلي في بلغاريا نحجال جالنر بأن إسرائيل باتت تركز على الإرث التاريخي والثقافي في تحفيز دول البلقان بشكل عام للتعاون مع الكيان الصهيوني، إلى جانب توظيف الإسلامفوبيا في أوروبا في محاولة بناء علاقات على أسس جديدة مع هذه الدول.


"
من الأسباب التي تدفع اليونان إلى تطوير علاقاتها مع إسرائيل حاجتها لدعم واشنطن في نزاعها مع تركيا بشأن مستقبل قبرص، وافتراضها أن التعاون مع إسرائيل سيعزز فرص اصطفاف الإدارة الأميركية إلى جانب أثينا
"

الأسطول مقابل الاستثمارات
أدرك بباندريو أن إنقاذ اليونان من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها لا يتوقف فقط على المساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي، بل إن الأمر يتطلب في الأساس تدفق الكثير من الاستثمارات الأجنبية على هذا البلد، وبالتالي فإن حكومته بذلت جهودا كبيرة من أجل إقناع الشركات العالمية بالاستثمار في اليونان.

وفي الوقت الذي كان فيه بباندريو يسعى لإقناع المستثمرين الأجانب بالتوجه للاستثمار في اليونان، كانت القيادة الإسرائيلية تخرج عن طورها في البحث عن حلول لتفادي توجه "أسطول الحرية 2" إلى ساحل غزة، حيث إن اضطرار إسرائيل للتدخل لمنع وصوله بالوسائل العسكرية كان يقترن بحدوث تدهور في مكانة إسرائيل الدولية المتهاوية أصلا وكان يؤذن بتدهور علاقات إسرائيل مع الدول التي كان رعاياها ضمن المتضامنين الأجانب الذين كان من المفترض أن يحملهم الأسطول.

ومن أجل توظيف الأزمة الاقتصادية في اليونان، حرصت حكومة نتنياهو على التشاور مع المنظمات اليهودية الرئيسة في الولايات المتحدة لاستغلال الأوضاع الطارئة في اليونان لصالح تل أبيب، حيث تم الاتفاق بين ديوان نتنياهو وقادة المنظمات اليهودية الرئيسة على أن يتوجه وفد يمثلهم لأثينا والالتقاء بباندريو والتعهد له بأن تسعى هذه المنظمات لإقناع الشركات الأميركية ورجال الأعمال اليهود بالاستثمار في اليونان، مقابل أن تمنع اليونان سفن الأسطول من الإبحار من الموانئ اليونانية.

وهذا ما كان بالفعل، حيث إن حكومة اليونانية عزت قرارها بمنع سفن الأسطول من الإبحار بالقول إن هذا القرار ينسجم مع متطلبات الأمن القومي اليوناني.

ومما لا شك فيه أن الموقف الأميركي الرسمي وموقف الأمين العام للأمم المتحدة الصارم ضد توجه "أسطول الحرية 2" كان له دور في صدور القرار اليوناني.

وإلى جانب ذلك، أبلغ نتنياهو بباندريو بأن إسرائيل بإمكانها أن تساعد اليونان في الخروج من أزمتها الاقتصادية بالعمل على جعل مئات الآلاف من السياح الإسرائيليين يتجهون لليونان بدلا من التوجه لتركيا، التي كانت البلد الذي يفضله السائح الإسرائيلي.

وأبلغ نتنياهو بباندريو أن هناك 400 ألف إسرائيلي يبحثون عن مكان للاستجمام فيه، وعرض عليه تسويق رزم سياحية مشتركة لكل من تل أبيب وأثينا.

ومن الأسباب التي تدفع اليونان إلى تطوير علاقاتها مع إسرائيل حاجتها لدعم واشنطن في نزاعها مع تركيا بشأن مستقبل قبرص، وافتراضها أن التعاون مع إسرائيل سيعزز فرص اصطفاف الإدارة الأميركية إلى جانب أثينا.

صحيح أنه قد تم التركيز على التطور الهائل في العلاقات اليونانية الإسرائيلية، لكن معظم دول البلقان في الواقع باتت تبدي رغبة كبيرة في تطوير علاقاتها مع إسرائيل، وأصبحت تتنافس فيما بينها على عرض الخدمات الإستراتيجية على الكيان الصهيوني.

"
من المرجح أن تتجه دول البلقان لتأييد الموقف الإسرائيلي الأميركي الرافض لطلب الجامعة العربية قبول دولة فلسطين في الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول القادم
"

فقد زار رئيس الوزراء البلغاري بويكو بورويسوف إسرائيل قبيل عدة أشهر، وعرض على نتنياهو أن يجري سلاح الجو الإسرائيلي تدريباته في أجواء بلغاريا. وبشكل شاذ، بادر بورويسوف إلى طلب عقد لقاء برئيس الموساد في ذلك الوقت مئير دغان وعرض عليه التعاون الأمني والاستخباري مع إسرائيل.

ودعا بورويسوف دغان لزيارة صوفيا، حيث سمح ديوانه للصحف البلغارية بعرض صور للقائه مع دغان، وهي خطوة لم تقدم عليها أي دولة زارها رؤساء الموساد من قبل.

وبالطبع كان هناك مقابل، حيث دعا بورويسوف إسرائيل إلى أن تسهم في تطوير صناعات التقنيات المتقدمة في بلاده، وأن تحصل على حصة من السياح الإسرائيليين الذين كانوا يتجهون لتركيا.

وما ينطبق على اليونان وبلغاريا ينطبق على رومانيا، التي سبقت اليونان في السماح لإسرائيل باستخدام أجوائها لإجراء التدريبات العسكرية الجوية، لكنها توقفت هناك بعدما تحطمت مروحية إسرائيلية في الأجواء الرومانية قبل عام، مما أسفر عن مقتل عدد من الطيارين الصهاينة.

وتبدي كل من سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا اهتماما بتعزيز علاقاتها مع إسرائيل.

ومن نافلة القول إنه من المرجح أن تتجه دول البلقان لتأييد الموقف الإسرائيلي الأميركي الرافض لطلب الجامعة العربية قبول دولة فلسطين في الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول القادم.


لغة المصالح وسلوك عباس
لا خلاف على أن حكومة نتنياهو الحالية هي الحكومة الأكثر يمينية وتطرفاً في تاريخ إسرائيل، وهي الحكومة التي لم تراع أبسط قواعد التعامل الدبلوماسي والسياسي في استخفافها بالجهود الدولية الرامية لكسر الجمود في عملية التسوية السياسية، عبر مواصلة الاستيطان والتهويد.

ومع كل ذلك نلاحظ أن هذا السلوك لا يؤثر على مواقف مجموعات من دول العالم، لأن هناك التقاء في المصالح بينها وبين إسرائيل. فلا أحد يتحدث عن تقرير غولدستون الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، ولم تأخذ هذه الدول في الاعتبار عشرات التقارير الأممية التي اتهمت إسرائيل بخرق حقوق الإنسان الفلسطيني بشكل منهجي.

يفهم العالم لغة المصالح فقط، وتتحرك الدول وفق إيقاع مصالحها القومية، ودول البلقان طورت علاقاتها مع إسرائيل ليس فقط لأن هناك التقاء مصالح مع تل أبيب، بل لأنها تدرك أن هذا السلوك لن يؤدي إلى إغضاب الأنظمة العربية الرسمية.

لو كان النظام الرسمي العربي ينطلق من المصالح لما تجرأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على استقبال الرئيس اليوناني في رام الله دون أن يعبر له -على الأقل- عن احتجاج فلسطيني رسمي على قرار اليونان بمنع سفن "أسطول الحرية" من التوجه إلى غزة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.