إيران تواجه استحقاقات خطيرة

إيران تواجه استحقاقات خطيرة الكاتب: محمد عباس ناجي


 
دخلت العلاقة بين إيران والمجتمع الدولي مرحلة جديدة من التوتر والاحتقان على خلفية اقتحام السفارة البريطانية بطهران في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وهو المشهد الذي أعاد إلى الأذهان مرة أخرى أزمة احتلال السفارة الأميركية بطهران في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1979، التي استمرت 444 يوما وأنتجت تداعيات سياسية خطيرة كان أبرزها قطع العلاقات الإيرانية-الأميركية.
 
اقتحام السفارة البريطانية جاء بعد أيام قليلة من قرار مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، الذي صدق عليه مجلس صيانة الدستور، بإلزام الحكومة تقليص مستوى التمثيل الدبلوماسي مع بريطانيا إلى درجة قائم بأعمال، وذلك ردا على الإجراءات التي اتخذتها الحكومة البريطانية بمنع جميع المؤسسات المالية البريطانية من القيام بأعمال مع نظيراتها الإيرانية وبينها البنك المركزي الإيراني، في إطار توسيع هامش العقوبات المفروضة على إيران بسبب ملفها النووي.
 
لكن هذه الخطوات المتسارعة بدت متجاوزة للسياق العام الذي حكم في السابق ردود فعل إيران وضبط تفاعلاتها مع التطورات المحيطة بها. فرغم التصريحات والتهديدات الصاخبة التي دائما ما يطلقها المسؤولون الإيرانيون، فإن إيران كانت حريصة، في كثير الأحيان، علي قراءة المعطيات الموجودة على الأرض وحدود قدرتها على التعامل معها بفعالية بشكل يصب في مصالحها أولا ويدرأ المخاطر عنها ثانيا.
 
فهي حذرة في تبني أسلوب "المواجهة المباشرة" طالما أن قدرتها على تحقيق ذلك ليست مضمونة وتستعيض عن ذلك بانتهاج سياسة "الحرب بالوكالة"، بمعنى تكليف أطراف أخرى بتنفيذ هذه المهمة. 
 

"
ثمة حساسية خاصة تكتسي علاقات إيران مع بريطانيا، التي لم تكن، في رؤيتها، صديقا لها في أي وقت بل كانت رقما هاما في كل "المؤامرات" التي تعرضت لها على مدار تاريخها الحديث
"

حساسية تاريخية

تغيير إيران لأسلوب تعاملها مع الغرب يعود إلى اعتبارات أساسية ثلاثة: الأول، أن ثمة حساسية خاصة تكتسي علاقاتها مع بريطانيا، التي لم تكن، في رؤيتها، صديقا لها في أي وقت بل كانت رقما هاما في كل "المؤامرات" التي تعرضت لها على مدار تاريخها الحديث.
 
فقد كانت الامتيازات الواسعة التي حصل عليها البريطانيون من قبل الأسرة القاجارية من أهم الأسباب التي أدت إلي ظهور ما يسمي بـ"حركة التبغ" عام 1891، عندما أثار منح الشاه امتياز التبغ إلى أحد المستثمرين البريطانيين استياء واسعا داخل إيران دفع آية الله محمد حسن شيرازي إلى إصدار فتواه الشهيرة بتحريم تداول التبغ أو تدخينه، الأمر الذي أدي إلى فرض مقاطعة صارمة للتبغ وأجبر ناصر الدين شاه في النهاية على إلغاء الامتياز.
 
كما يتهم الإيرانيون بريطانيا بأنها ساهمت في إجهاض الحركة الوطنية التي قادها رئيس الوزراء الإيراني الأسبق الدكتور محمد مصدق عندما شاركت في الإطاحة به وإعادة الشاه المخلوع عام 1953، وأنها انتهجت سياسات عدائية تجاه إيران بعد نجاح الثورة في الإطاحة بالشاه عام 1979، عندما قدمت مساعدات للعراق في حرب الثماني سنوات (1980-1988)، وشاركت في الجهود الغربية لعرقلة البرنامج النووي الإيراني، ودعمت الاحتجاجات الداخلية التي شهدتها إيران بعد إجراء انتخابات الدورة العاشرة لرئاسة الجمهورية في يونيو/حزيران 2009، على خلفية رفض المعارضة نتائجها التي أسفرت عن فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.
 
ويبدو أن وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي كان يشير إلى هذه الحساسيات في معرض إعرابه عن أسفه لاقتحام السفارة، حيث برره بأنه ناجم عن "تراكمات نفسية وغضب كامن في نفوس المقتحمين".
والثاني أن قرار بريطانيا وقف جميع التعاملات المالية مع إيران يمكن أن ينتج تداعيات سلبية علي مصالح إيران، لا سيما أن الأولى تمثل بوابة هامة لمعاملات بيع النفط الإيراني، وأن البنك المركزي الإيراني يمتلك حسابات في لندن.
 
أما الثالث الأهم فهو اعتقاد طهران أن ما يحدث من تصاعد لحدة التوتر والاحتقان في علاقاتها مع المجتمع الدولي لا ينفصل عما يموج في منطقة الشرق الأوسط من تطورات متسارعة خصوصا في ملفاتها المعقدة لا سيما الملفين السوري والعراقي، فالمسألة برمتها تبدو محصلة لـ"تشبيك الملفات" و"صراع الإرادات" بين الأطراف المختلفة.
 
فالولايات المتحدة الأميركية لا تريد أن تتم انسحابها من العراق دون أن تسجل أهدافا في مرمى إيران، من خلال الضغط عليها عبر الملفين السوري والنووي. وإيران ترى أن الحفاظ على حليفها السوري بأي ثمن والاستمرار في برنامجها النووي هو الضمان الوحيد أولا لحمايتها من خطر التعرض لهجمة عسكرية محتملة، وثانيا للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الغرب مع امتلاك أوراق لعب مؤثرة في حالة عجز الأخير عن التطرق إلى الخيار الأول.
 
من هنا كان اتجاه إيران إلى الاستعاضة عن سياسية "الحرب بالوكالة" ونقل مواجهاتها مع الغرب من الخفاء إلى العلن، بدءا من تهديد الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بشن هجمات "لا طاقة لهما بها"، وانتهاءً باقتحام السفارة البريطانية في طهران.
 
إيران لم تكتف بذلك، بل بدت مصرة على التمسك بحليفها السوري حتى آخر لحظة والمراهنة بكل أوراقها الإقليمية من أجل حمايته من شبح السقوط. لكن الهدف لم يعد فقط الحفاظ على "جسر التواصل" مع الحلفاء الآخرين في لبنان وفلسطين، بل عدم الإذعان لضغوط الغرب بتقديم تنازلات في الملفات الرئيسية وعلى رأسها الملفان العراقي والنووي.
 
ولإدراكها أن تركيا أصبحت "سن الرمح" في الضغوط الغربية "المتدرجة" علي النظام السوري، انتقلت بوصلة إيران صوب أنقرة، بالتهديد علانية بأن الدرع الصاروخي الأطلسي الذي وافقت الأخيرة على نشره على أراضيها سيكون أول أهداف إيران في حالة تعرضها لضربة عسكرية، خصوصا أن نشر هذه المنظومة معناه تقليص الخسائر التي يمكن أن تلحق بإسرائيل أو المصالح الأميركية من جراء الصواريخ التي يمكن أن تطلقها إيران في حالة تعرضها لهذه الضربة المفترضة.
 

"
تفاعلات إيران الخارجية أصبحت محورا هاما للصراع الداخلي الذي يتأجج يوما بعد يوم خصوصا مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات التشريعية في مارس/آذار القادم
"

سجال داخلي حول ملفات خارجية

لكن المفارقة هنا تتمثل في وجود تفسيرات داخلية "للتسخين" المفاجئ في الخارج، لاسيما أن تفاعلات إيران الخارجية أصبحت محورا هاما للصراع الداخلي الذي يتأجج يوما بعد يوم خصوصا مع اقتراب موعد إجراء انتخابات الدورة التاسعة لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) في 2 مارس/آذار 2012، التي ستدعم فرص التيار الذي سيفوز بالأغلبية في ترشيح أحد كوادره لانتخابات الدورة الحادية عشرة لرئاسة الجمهورية التي سوف تجري في منتصف العام 2013.
 
فاللافت أن أحد الاتجاهات يشير إلى ضلوع التيار الذي يدعمه الرئيس أحمدي نجاد، والذي بات يسمى بـ"تيار الانحراف" لتبنيه توجهات ليبرالية وقومية يرفضها رجال الدين، في تسخين هذه الملفات لتنفيس الاحتقان الذي يطغى على صراعاته المتعددة مع خصومه من التيار المحافظ الذين يدعمهم المرشد الأعلى علي خامنئي. 
 
لكن هذا الاتجاه يواجه صعوبة تكمن في أن أيا من التيارات السياسية الإيرانية لا يستطيع التأثير بمفرده في قرارات السياسة الخارجية لاسيما تلك التي تمس المصالح العليا للدولة، حتى لو كان هذا التيار مدعوما من جانب رئيس الجمهورية. فضلا عن أن هذا التيار تحديدا الذي يقوده مدير مكتب الرئيس وصهره أسفنديار رحيم مشائي يتبنى توجهات انفتاحية، إذ إنه لم يعد يرى مبررا للقطيعة مع الولايات المتحدة الأميركية، معتبرا أن مصالح إيران وأمنها القومي يقتضيان فتح قنوات للتواصل مع "الشيطان الأكبر".
 
أما الاتجاه الثاني فيرى أن تصعيد التوتر والاحتقان في العلاقات مع الغرب من تدبير خصوم الرئيس أحمدي نجاد من المحافظين الذين يسعون إلى إلقاء مسؤولية هذا التصعيد على السياسة المتشددة التي ينتهجها الرئيس، وبالتالي قطع الطريق على محاولاته الحصول على الأغلبية في البرلمان القادم وترشيح أحد المقربين منه للانتخابات الرئاسية المقبلة التي لن يترشح فيها لكونه قضى فترتين متتاليتين في الرئاسة، خصوصا أن قوى من داخل هذا الاتجاه تعتقد أن الرئيس الحالي يحاول تكرار "السيناريو الروسي" من خلال إيصال أحد حلفائه إلى رئاسة الجمهورية لمدة أربعة أعوام، يستطيع بعدها الترشح لرئاسة الجمهورية من جديد.
 
وربما يكون ذلك أحد الأسباب التي دفعت المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي إلى التلميح، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بإمكانية إلغاء منصب رئيس الجمهورية والعودة للعمل من جديد بالنظام البرلماني الذي يضع السلطات التنفيذية في يد رئيس الوزراء، حيث قال خامئئي في هذا السياق "إن النظام السياسي للبلاد في الظروف الراهنة نظام رئاسي، وإن رئيس الجمهورية ينتخب مباشرة من قبل الشعب، وهو أسلوب جيد ومؤثر.. ولكن لو تبلور الشعور يوما ما في المستقبل البعيد، احتمالا بأن النظام البرلماني هو الأفضل لانتخاب مسؤولي السلطة التنفيذية، فلا إشكالية إطلاقا في تغيير الآلية الموجودة حاليا"، وأشار إلى أن "الخميني قام بشطب منصب رئاسة الوزراء من السلطة التنفيذية، في ثمانينيات القرن الماضي"، وألمح إلى أنه "يمكن أن يطول الإلغاء أيضا منصب الرئيس".
 
ومن دون شك فإن تطرق خامنئي إلى هذا الخيار لا يرتبط فقط باحتمال أن يحاول الرئيس أحمدي نجاد تكرار "سيناريو بوتين- مدفيدف"، بل، ربما يكون ذلك هو الأهم، يتصل بالمتاعب التي عانى منها المرشد في تعامله مع رؤساء الجمهورية المتعاقبين بسبب التداخل الشديد في الصلاحيات التنفيذية التي يخولها الدستور الإيراني لكل من المرشد ورئيس الجمهورية، فقد عاصر المرشد الحالي ثلاثة رؤساء جمهورية جميعهم سعى إلى توسيع صلاحياته وهم هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي وأحمدي نجاد.
 
وبالطبع فإن توسيع صلاحيات الرئيس لن يتأتى إلا من خلال الخصم من سلطات المرشد، الذي رفض ذلك بتاتا، وتصور أن تمكين أحد أشد مؤيديه وهو أحمدي نجاد من الوصول إلى رئاسة الجمهورية على حساب أحد أهم رموز الثورة وهو هاشمي رفسنجاني في انتخابات الدورة التاسعة لرئاسة الجمهورية التي أجريت في العام 2005، سوف يريحه من هذه المتاعب، إلا أن ذلك لم يحدث خصوصا مع تولي الرئيس أحمدي نجاد فترته الرئاسية الثانية، حيث دخل في أزمات عديدة مع المرشد أولا بسبب محاولاته إبعاد بعض المقربين من الأخير داخل دوائر صنع القرار وكان آخرهم حيدر مصلحي وزير الاستخبارات الذي ألغى المرشد قرار إقالته من منصبه الذي اتخذه الرئيس، وثانيا بسبب دعمه للتيار الذي يقوده رحيم مشائي والذي دخل في مواجهات حادة مع رجال الدين ومن خلفهم المرشد.
 

"
إذا كان خامنئي يريد إنهاء مشكلة تطلع رؤساء الجمهورية المتعاقبين إلى زيادة سلطاتهم التنفيذية على حساب الصلاحيات التي يمنحها الدستور للمرشد، فإن البديل الذي طرحه ربما لا يوفر ذلك أيضا
"

لكن اللافت في هذا السياق أنه إذا كان خامنئي يريد بذلك إنهاء مشكلة تطلع رؤساء الجمهورية المتعاقبين إلى زيادة سلطاتهم التنفيذية على حساب الصلاحيات التي يمنحها الدستور للمرشد، مثلما حدث مع رفسنجاني وخاتمي وأحمدي نجاد، فإن البديل الذي طرحه خامنئي ربما لا يوفر ذلك أيضا، لأن رئيس الوزراء الذي قد تختاره الأغلبية في مجلس الشورى، وفقا للطرح الذي قدمه خامنئي، ربما يسعى بدوره إلى مزاحمة المرشد على الصلاحيات التنفيذية.

 
وهنا يمكن أن تتكرر المشكلة التي عانى منها النظام في العقد الأول من الثورة، عندما حاول بعض رؤساء الوزراء مثل مير حسين موسوي زعيم حركة الاعتراض على نتائج انتخابات الدورة العاشرة لرئاسة الجمهورية التي أجريت فى العام 2009 وأسفرت عن فوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، توسيع هامش الصلاحيات الممنوحة لهم، ما تسبب في نشوب أزمات عديدة داخل النظام.
 
تطورات متسارعة وصراعات مفتوحة كلها تعني أن إيران باتت مقبلة على استحقاقات خطيرة في الداخل والخارج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.