حراك الشباب والثورات العربية

حراك الشباب والثورات العربية - الكاتب: عمر كوش


 
 
تكثر الكتابات والدراسات، في أيامنا هذه، التي تحاول تلمّس قضايا الثورات والانتفاضات العربية وتفسيرها، وتحديد سمات وأدوار مختلف الفئات الشعبية المشاركة فيها. بعضها رصين وينتهج طرق تفكير جديدة، وبعضها ليس أكثر من تدوين انطباعات أو محاولات إسقاط ما في الرأس من مقولات أيديولوجية وسياسية قديمة، على واقع الثورات والانتفاضات التي بدأت تعصف بأنظمة الاستبداد في دول عربية عديدة منذ نهاية عام 2010 وإلى يومنا هذا.

 
نظرية المؤامرة

"
لم تتوقف الأنظمة القمعية عن تحقيق أسس سطوتها ومآربها السياسية والاقتصادية، من خلال الاستعانة بأسلحة وخبرات ومساعدات الأجنبي والمرتزقة
"

وتجري محاولات لتفسير الثورات والانتفاضات العربية، بوصفها نتاج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، أو ثمرة لمواقع التواصل الاجتماعي وما قدمته ثورة الاتصالات والتقانة من إمكانات ووسائل.

 
ويتحدث الدغمائيون القوميون واليساريون، وخاصة من يضعون أنفسهم في خانة الممانعة، عن نظريات المؤامرة والفوضى الخلاقة والهدامة، وكأن الثوار والمنتفضين العرب مجرد أداوت بيد القوى الخارجية التي تتربص بالأنظمة العربية الاستبدادية، وينسى أصحاب هذه المقولات المضللة حقيقة الترابط بين نظم التسلط والاستبداد ومصالح الدول العظمى بشرقها وغربها، والأهم أنه يجري التغاضي عن عقود من الحكم المطلق، الممارس للعنف والقمع والتعسف والإذلال والحرمان والتهميش والإقصاء بحق الشعوب العربية، إلى جانب الفساد والإفساد ونهب ثروات البلاد. 
 
ولا يهتم أصحاب نظرية المؤامرة بما يختزنه الواقع المعيش في البلدان العربية من مشاعر ومكنونات وطاقات، مع أنها كانت تتفجر على مرأى من عيونهم في أشكال مختلفة من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي قُمع في أكثر من مناسبة، وكان يتمخض في كل مرّة عن أزمة عاصفة، تثبت وجود قوى حية تنشد التغيير نحو الأفضل، لكن القمع كان أكبر، ومع قمع الحراك كان التسلط يزداد والظلم يكثر.
 
ويفتقد أصحاب المؤامرة إلى المنهجية اللازمة، ذلك أن النظرة الأيديولوجية هي الغالبة لديهم، وتحجب مفاعيل ومسببات الحراك العربي، الأمر الذي يكشف عن عمى أيديولوجي، يمنع إمكانية معرفة القوى التي كانت ترفض التغيير والإصلاح، وتحاول الالتفاف على المطالب الشعبية مع كل أزمة وعاصفة تغيير. ويلتقي مروجو نظرية المؤامرة مع السلطات العربية الحاكمة في توظيف مسألة التدخل الأجنبي، خدمة لتأبيد حكمها، حيث اعتادت أن تلوح بفزاعة الفوضى والاستهداف الأجنبي كلما صعد الحراك الاجتماعي الاحتجاجي.
 
ولم تتوقف الأنظمة القمعية عن تحقيق أسس سطوتها ومآربها السياسية والاقتصادية، من خلال الاستعانة بأسلحة وخبرات ومساعدات الأجنبي والمرتزقة، لأن المهم بالنسبة إليها هو فرض الاستبداد أيًّا كانت الوسيلة، وأيًّا كانت الذريعة واللافتة التي ترفعها.
 
الثورة والحدث

"
الثورة لا تتأطر في نموذج معين منطقي أو رياضي، كي يمتلك أهلية للتطبيق والإسقاط والتجريب في مختلف الدول والمجتمعات، حسبما تصورته الفلسفات الغائية والمثالية
"

إن ما حدث ويحدث، منذ نهاية العام الفائت وإلى أيامنا هذه، في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا وسواها، هو احتجاج ورفض شعبي واسع تقوده جماعات الشباب على سياسات الأنظمة، وعلى الأزمة الاجتماعية العميقة، وعلى التمييز والتهميش والبطالة المقيمة، وعلى الإمعان في الإقصاء، والإبعاد إلى مرتع الأزمات والخيبات.

 
لكن النظام المستبد غير قادر إلا على القتل والعزل والتفرقة والتمييز والفصل، ومع ذلك لا يزال الحراك الاحتجاجي في أكثر من بلد عربي -رغم القمع والقتل الهائل- شديد الطهورية والسلمية إلى حدود غير مألوفة في الحركات الثورية التي قامت في العالم الحديث، والحالة السورية تقدم في هذا المجال مثلاً متفردًا.
 
وفي بعض الأحيان توسم الثورة أو الانتفاضة في هذا البلد أو ذلك بسمة ريفية، فقط لأن شرارتها انطلقت من إحدى المناطق أو البلدات، أو لأن بعضها شارك بقوة في الحراك الاحتجاجي، وينسى أصحاب هذا الإسقاط مشاركة غالبية المدن، بالرغم من قوة أجهزة المراقبة والضبط، والوجود الأمني المكثف فيها، فضلاً عن أن جميع العواصم والمدن العربية الكبرى تضم تجمعات كبيرة لأبناء الريف، وأحياء من الصفيح والحرمان، ومهجرين ومشردين من كل مكان في عصر غيّر العلاقة بين طرفي ثنائية المدينة والريف، والإقليم والحدود.
 
وتمكنت فيه مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة من اختزال المسافات، وتحطيم كل المعيقات، واختراق الأسرار، وتجاوز الأسوار التي بنتها الأجهزة القمعية للسلطات الحاكمة، وعكست تحولاً نوعيًّا في علاقة السلطة بالمعلومة والصورة، بل غيّرت تمامًا معاني القوة، ومدلولاتها في سائر الدول والأقاليم.
 
وعليه، لا يستوي التحليل، ولا يمتلك وجاهة، حين يفسّر الثورات العربية أو يعتبرها آثارًا متوقعة لمختلف الأزمات والمشاكل والانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بمختلف بلداننا العربية، لأن الثورة لا ترتهن إلى مثل هذا التفسير، وبالتالي لا يمكن توقع حدوث الثورة أو انتظار حدوثها، لأنها حدث فريد، يخلق مفهومه الخاص والجديد في كل مرّة يحطّ فيها على الأرض في إقليم أو بلد معين، ويعبّر عن تحولات وتغيرات عميقة، تطاول البشر والأشياء والعالم.
 
ويمكن القول إن الثورة لا تتأطر في نموذج معين منطقي أو رياضي، كي يمتلك أهلية للتطبيق والإسقاط والتجريب في مختلف الدول والمجتمعات، حسبما تصورته الفلسفات الغائية والمثالية، لأن الثورة، بوصفها حدثًا، تمثل خروجًا عن السائد والمألوف والبديهي، ولا تقبل التفسير والتعليل، وتقع خارج كل الحسابات والتوقعات القبلية والتفسيرات البعدية. ولعل الثورة في حدوثها أقرب إلى عمل الخلق والإبداع، لتغدو حدثًا متفردًا بذاته لا يشبهه شيء.
حراك الشباب

"
فشلت الأنظمة العربية المستبدة أمام إمكانيات الشباب الثائر، حيث لم تتمكن من إخفاء عمليات القتل والقمع والاعتقال والتهجير، والفضل يعود إلى توظيف الشباب للإمكانيات التي يقدمها الإنترنت
"

إن أسباب الغضب والاحتجاج التي أفضت إلى اندلاع الثورات العربية معروفة، وهي مقيمة منذ عقود، وتتمثل أساسًا في جملة غياب الحريات السياسية والديمقراطية وتفاقم البؤس الاقتصادي والاجتماعي والحكم الدكتاتوري الفاسد، لكن خصوصية الثورات العربية تكمن في قدرة الشباب على صنعها، أولئك الذين تجاوزوا مختلف النخب السياسية والثقافية، وتجاوزوا الأحزاب والحركات الإسلامية والعسكر.

 
وقد عانى غالبية الشباب من نسبة بطالة مرعبة، حرمتهم من تكوين أسَر ومن العيش تحت سقف محترم، يضمن الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، ففي بعض البلدان العربية تصل نسبة البطالة إلى ما يقارب 90% بين أوساط الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا.
 
وبالرغم من التحسن العام، الذي عرفته البلدان العربية في مجال التعليم العام، فإن نسبة هائلة من التفاوت قد ميزت مختلف الشرائح الاجتماعية، وأحدثت شرخًا كبيرًا بين المناطق الريفية والمدنية، وذلك بفضل الفساد العام، ومسار عمليات الخصخصة ومركزة الثرة بين أيدي فئات مافيوية.
 
وقد فشلت الأنظمة العربية المستبدة أمام إمكانيات الشباب الثائر، حيث لم تتمكن من إخفاء عمليات القتل والقمع والاعتقال والتهجير، والفضل يعود إلى توظيف الشباب للإمكانيات التي يقدمها الإنترنت، فراحوا ينشرون الصور ومقاطع الفيديو على مواقع الفيسبوك وتويتر واليوتيوب وسواها.
 
ولم تتمكن الرقابة من تغطية أو منع نشر الجرائم المرتكبة. وقد عانى غالبية شبابنا في جميع البلدان العربية من سطوة المؤسّسات التسلطية والقمعية على مدى عقود عديدة من الزمن، لذلك اندفعت حركتهم الغاضبة ضد السلطة القامعة، وبرهنوا على أنهم يشكلون قوة جديدة لا يستهان بها، تمتلك قدرة كبيرة على الإنجاز والاستعداد للتضحية بالأرواح، وقدموا مثالاً على قوة العمل المدني السلمي، بوصفه أشد نجاعة من اللجوء إلى العنف واستخدام السلاح، إلى جانب قدرتهم على توصيل أحداث تظاهراتهم وحراكهم ومطالبهم إلى أجهزة الإعلام باستخدام أحدث التقنيات المتوفرة لديهم، بالرغم من مختلف صنوف المنع والقيود والرقابة.
 
وعادة ما يبني حراك الشباب فضاءات جديدة، قد تفضي أرضناته إلى إيجاد أرضنات وأقلمات جديدة، ذلك أنه ثمة جغرافية جديدة أوجدتها الثورات العربية، بوصفها تتويجًا للتدفقات المتكثرة للأجساد والأرواح، تخط أنهارًا وموانئ جديدة، بعد أن أصبحت المدن والبلدات العربية أشبه بخزانات بشرية كبرى، وشبكات توزيع جماهيرية لبشرية حيّة ومحرومة، وحيث تحولت الدولة إلى قاطرات للاستغلال ومراتع للفساد.
 
وحين نمعن النظر في الثورات والانتفاضات العربية يجتاحنا السؤال عن الكيفية التي أفضت إلى نهوض هذه العملية التأسيسية للكيان الشبابي، خاصة في سوريا، ومكنته من أداء عمله، ونرى الفضاءات الاحتجاجية مميزة بابتكارات غير عادية، وبأرضنات غير قابلة للاحتواء، حيث إن ما يجري على الأرض يسطّر طرق انعتاق جديدة.
 
ونتذكر الأثمان الباهظة التكاليف لهذا الحراك البشري على صعيد القتل والاعتقال والملاحقة والمعاناة، ونتذكر تلك الرغبة الجامحة في الانعتاق والتحرر، وفي الوصول إلى فسحات جديدة، تُمكن شعوبنا من بناء صروح جديدة للحرية والكرامة والديمقراطية.
 
وعلى مرّ تاريخ الاستبداد، فإن حركات الاحتجاج حيثما وصلت، وعلى امتداد مساراتها، كانت على الدوام دائبة على فرض صيغ جديدة من الحياة والتعاون؛ تقوم في كل الأماكن. وكان الإقصاء وسيلة أو عقوبة لتلك الحركات، ومع ذلك يخرج الشباب في كل يوم من اليأس والاضطراب وانسداد الأفق لاكتساب القدرة اللازمة لتأكيد استقلاليته، بعد أن أدمن لسنوات طويلة على الصمت، وخرج بعدها، كي يعبر عن الذات، عبر أرضنات بالغة الاتساع ومترامية الأطراف.
 

"
ما تقدمه الأنظمة الاستبدادية سيبقى بعيدًا عن ملامسة أسباب التوتر السياسي الذي يخترق الحركات الشبابية، وكل الأفعال القمعية تبقى في الأساس خارجية بالنسبة إلى جمهور الشباب وحركاته
"

وقد اعتادت النظم الاستبدادية على قمع هذه الحركات، لأنها لا تملك ما تقدمه سوى سعيها ومحاولاتها تجريم أولئك الذين يشكلونها، ووصفهم بأبشع الأوصاف. ومع ذلك لن تتوقف موجات الاحتجاج، التي صارت تتعامل معها الأنظمة على أنها عصابات ومجموعات إرهابية، إلا بنهاية الأنظمة وإسقاطها، ولن تجدي نفعًا محاولات اختزال وشيطنة جموع المحتجين.

 
وليس جديدًا القول إن الحركات الاحتجاجية الشبابية لن تتوقف بالرغم من الإمعان في اتباع الحل الأمني ونشر الوحدات العسكرية والأمنية، من أجل فرض النظام البائد على المحتجين.
 
فما تقدمه الأنظمة الاستبدادية سيبقى بعيدًا عن ملامسة أسباب التوتر السياسي الذي يخترق الحركات الشبابية، وكل الأفعال القمعية تبقى في الأساس خارجية بالنسبة إلى جمهور الشباب وحركاته، الذي لن يتوقف إلا بتحقيق طموحاته وأهدافه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.