الديمقراطية وحداثة المسلمين

الديمقراطية وحداثة المسلمين



سنن الحداثة
أزمة الحكم والحداثة عند المسلمين
الديمقراطية والحداثة

للحداثة في كل عصر سننٌ كونيةٌ سنها خالق الكون ويسرّها لمن يعيها ويفهمها ثم يسعى إلى تتبعها وصولا إلى تحقيق مصالح البشر. ومن هذه السنن أن الحداثة تعني التقدم، والتقدم يعني التطور المتصاعد والارتقاء والنظر إلى المستقبل وعدم النظر إلى الخلف. وللتقدم أبعاد متعددة أبرزها تلك المتصلة بالعلم والمنهج العلمي والاقتصاد والسياسة.

سنن الحداثة
وفي البعد المنهجي، لا يكون التقدم إلا بالعقل وحرية الفكر والتحرر من الأساطير والقيود التي وضعها البشر لتحقيق مصالحهم الخاصة. والعقل والحرية يقودان إلى العلم. والعلم والاكتشافات أساس البعد الاقتصادي الذي يهتم بتسخير الطبيعة لخدمة الإنسان في الدنيا وحثه على العمل والإنجاز والسعي في الأرض في ظل قيم العدالة والمساواة.

ومن هنا تأتي أهمية البعد السياسي للحداثة الذي يهتم بتطوير المؤسسات السياسية وتنظيم الحكم على أساس حكم القانون بدلاً من استبداد الحكام أو الاعتماد على النوايا الحسنة لبعضهم، واحترام كرامة الإنسان وعقله وحريته بدلا من ادعاء فرد أنه الأصلح والأقدر على معرفة الحقيقة، وحماية كافة فئات المجتمع بدلا من الطبقية والتمييز، وعدم احتكار فرد أو مجموعة للسلطة أو الثروة.

"
تكمن أهمية البعد السياسي للحداثة في الاهتمام بتطوير المؤسسات السياسية وتنظيم الحكم على أساس حكم القانون بدلاً من استبداد الحكام أو الاعتماد على النوايا الحسنة لبعضهم، واحترام كرامة الإنسان وعقله وحريته
"

في الغرب، ارتكزت الحضارة على البعدين الاقتصادي والسياسي دون الأخلاقي والاجتماعي. لقد استعمل الغربيون المنهج العلمي، الذي طوره العرب، ليضيفوا آفاقًا جديدة للحضارة بتقدم التصنيع والزراعة والجيوش والسفن والمواصلات والاتصالات. وبهدف حماية الثروة وضمان حرية التجارة، طورت المجتمعات الأوروبية نظم حكم ديمقراطية تحترم حقوق الأفراد وتُرسي قواعد للتداول على السلطة ومحاسبة الحكام.

غير أن الحضارة الغربية أضافت بعدين آخرين حققا الكثير من الإنجازات في الغرب، برغم تسببهما في الكثير من نقاط التوتر، هما العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة، والنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي راح يدعو إلى تعظيم الربح وتراكم الثروات بلا ضوابط.

تسبب هذان البعدان في كثير من المشكلات فيما يتصل بالجوانب الأسرية والأخلاقية والاقتصادية. فتحييد الدين (وفصل الأخلاق عن الشؤون الدنيوية) سمح بظهور أيديولوجيات عنصرية كالنازية والصهيونية، وتفشي الكثير من الأمراض الاجتماعية كالجريمة وانتهاك كرامة المرأة وتفكك الأسرة. وأفضت المادية المفرطة إلى ظهور أفكار عنصرية عن نقاوة العنصر الأوروبي، وظاهرة الاستعمار.

ثم جعلت النزعة الاستهلاكية الإنسان عبدًا لكيانات تجارية ومالية كبرى، إلى أن وصل الأمر إلى الأزمات المالية الحالية، فانهارت بعض الأسواق والشركات الكبرى وأصبح الملايين عاطلين عن العمل.

أزمة الحكم والحداثة عند المسلمين
عرف المسلمون الأوائل سنن الحداثة عندما كانوا يمتثلون لكلام خالقهم فيتدبرون في وحيه المنزل من السماء، ويُعملون عقولهم في إنزال ما جاء في القرآن الكريم وما وصى به رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم على واقعهم المتغير، ويتفاعلون مع الحضارات الأخرى فيفيدون ويستفيدون.

وعلى عكس الحضارة الغربية، تميزت حضارة المسلمين بجانب أخلاقي وقيمي يقوم على أساس عقيدة التوحيد، ويمنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وظهور النزعات العنصرية الاستعلائية على الأمم الأخرى. قامت هذه الحضارة على المساواة وإقامة العدل لكل الناس، مسلمين وغير مسلمين. فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، وجزاء الاختلاف بين المسلم وغير المسلم شأن أخروي ولا ينبغي أن يتخذ معيارًا للتمييز في الشؤون الدنيوية.

غير أن حضارة المسلمين لم تطور مؤسسات سياسية أو نظما للحكم تصلح لأن نتبناها في وقتنا هذا. وكان لذلك عدة أسباب منها أن الحضارة الإسلامية قامت بعد ظهور الإسلام مباشرة ومن ثم كان الرابط بين الحكام الأوائل وقيم الإسلام قويًّا مقارنة بأوضاع زماننا هذا، فما احتاج المسلمون إلى إعمال عقولهم في وضع أنظمة مُحكمة كما تفعل شعوب كثيرة اليوم، كيف لا وهم يتمسكون بكتاب الله الخالد ويحيون بسنة نبيه الخاتم.

وربما دفع هدف الحفاظ على وحدة المسلمين وحماية الدين نفسه الكثير من الحكام إلى إعلاء هذا الهدف بدلا من الاهتمام بتطوير شكل للحكم يعتمد على التداول على السلطة ومقاومة الحكم الظالم والجائر. ولا شك أن غيْرة وشجاعة الكثير من الحكام وإعدادهم للجيوش لمحاربة كل من يستهدف الإسلام ودياره بسوء ساعدت أيضًا على نصرة هؤلاء الحكام وإنْ انفردوا بشؤون الحكم الأخرى.

والأهم من هذا كله أن الإسلام ذاته –الدين الصالح لكل زمان ومكان– يُقدم لأتباعه المبادئ والقيم العليا تاركًا لهم حرية اختيار الأنظمة المتغيرة التي تلائم مجتمعاتهم على اختلاف الزمان والمكان وتباين الثقافات والعادات. وهذا أمر لم يهتم به الكثير من الفقهاء والحكام والعامة. فمع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، وتفوُّق المسلمين على أقرانهم في ميادين العلم والمعرفة والفن والأدب، ظلت الحاجة إلى تطوير فقه سياسي إسلامي في أدنى الحدود.

وبشكل عام اقترنت عصور الازدهار بحكام عادلين فهموا جوهر الإسلام ومقاصد الشريعة، أو على الأقل بحكام لم يجعلوا أهدافهم الشخصية تعلو على أهداف مجتمعاتهم ومصالح شعوبهم. أما ما عدا ذلك فقد عانى المسلمون من حكام مستبدين راحوا يحققون مصالحهم الشخصية دون أدنى اهتمام بدينهم ولا بشعوبهم. فتسببت مواقفهم تلك في انقسام الناس إلى فرق ومذاهب، فسارت سنة الله على المسلمين كما سارت على غيرهم من قبل، وتأخر المسلمون ودخلوا في عصور مظلمة من الظلم والاستبداد والتخلف حتى يومنا هذا.

"
اليوم يواجه مسلمو هذا الزمان تحديين تاريخيين هما: انقسام المسلمين وتفرقهم، واستبداد حكامهم, في الوقت الذي تُقدم فيه الحضارة الغربية أساليب ديمقراطية للحكم وإدارة الدولة وحل الصراعات السياسية، أثبتت نجاحها في الغرب وخارج الغرب
"

وكان التحدي الأبرز الذي واجه المسلمين والعرب منذ القرن التاسع عشر هو تصدع وحدة المسلمين، بتجلياته المختلفة. فدينيًّا، ظهرت فرق ومذاهب أنهت الفهم الحقيقي للإسلام وأظهرت أفهاما عدة لجوهر الإسلام. وفي البعد السياسي ظهرت دول وممالك ودويلات متنافسة. أما اقتصاديًّا، فكان احتكار أقليات معينة للثروات وتجاوزها كل مقتضيات العدالة والتكافل.

ولولا استهداف القوى الاستعمارية للأقاليم التي كانت تابعة للدولة العثمانية ونجاح القوى الاستعمارية في الاستيلاء على هذه الأقاليم، لكانت حركة الإصلاح الواعدة قد نجحت في التعامل مع صدمة المسلمين من الحداثة الغربية التي جاءت في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر، والتي بدأت مع جهود علماء وأئمة من أمثال جمال الدين الأفغاني والطهطاوي ومحمد عبده والتونسي والكواكبي ورشيد رضا وغيرهم.

واليوم يواجه مسلمو هذا الزمان تحديين تاريخيين هما: انقسام المسلمين وتفرقهم، واستبداد حكامهم، في الوقت الذي تُقدم فيه الحضارة الغربية أساليب ديمقراطية للحكم وإدارة الدولة وحل الصراعات السياسية، أثبتت نجاحها في الغرب وخارج الغرب. كما تقدم لنا الخبرات الديمقراطية الحديثة درسًا آخر عن قدرة الحكومات الديمقراطية وحدها على الاتحاد، كما في أوروبا وأميركا الجنوبية وآسيا.

الديمقراطية والحداثة
ولهذا يجب ألا تكون تجاوزات دول ديمقراطية معاصرة وسياساتها الخارجية المزدوجة حُجة لنبذ نظام الحكم الديمقراطي، فالحكمة ضالة المسلم. كما يجب ألا ننظر إلى الديمقراطية على أنها عقيدة تتعارض مع الإسلام. فوضع الإسلام أمام الديمقراطية ثم إجراء مقارنات بينهما أمر غير صحيح منهجيًّا وفكريًّا. فالإسلام دين عقيدة ومعاملات وعبادات، وهو عند أتباعه صالح لكل زمان ومكان.

أما جوهر الديمقراطية -التي هي أقل نظم الحكم سوءًا- فهو مجموعة مؤسسات ومبادئ وإجراءات وضوابط تنظم عملية صنع القرارات ورسم السياسات، واختيار الحكام ومحاسبتهم، وحسم الصراعات السياسية بطريقة سلمية. والديمقراطية بهذا المعنى تعاقد متجدد بين البشر قابل للتعديل والتطوير والحذف والإضافة مع الحفاظ على جوهرها.

أعتقد أن أحد أوجه الخلل الأساسية في فهم الديمقراطية وإمكانية تطبيقها في الدول الإسلامية هو تصور الكثير من المسلمين أن المجالس التشريعية الديمقراطية ستحل حراما وتحرم حلالا لأن الشعب هو مصدر السلطة. وهذا أمر غير صحيح، ففي الغرب هناك مرجعية عليا (هي المرجعية الليبرالية) لا يمكن تصور تجاوز المشرعين لها عند وضعهم للدساتير والقوانين. وبالمثل فليس من المتصور أن تقوم مجالس منتخبة بإباحة الخمر والربا والملاهي الليلية في دولة يستند نظامها السياسي إلى الإسلام ويعتبره مرجعية عليا. للأسف تحدث هذه الإباحة الآن في نظم بعيدة كل البعد عن الديمقراطية.

كما أن أمورًا مثل احتكار السلطة وقمع الحريات وإقصاء الحركات الإسلامية المعتدلة نسبيًّا عن الساحة ساهمت إلى حد كبير في عرقلة تطوير نماذج حكم لا تتجاوز مبادئ الشريعة الإسلامية ولا تحرم مجتمعاتها من مكتسبات الحضارة الحالية (تجربة الإخوان وحزب الوسط في مصر). هذا بجانب أن بعض الحركات الإسلامية لم تحسب خطواتها جيدا وهي تخطو في هذا الاتجاه (تجربة السودان).

وهناك خلل آخر في هذا الشأن هو قيام الكثيرين بمحاولة التصدي للتحديات الكبرى كالمرجعية العليا والعدالة الاجتماعية على حساب التعامل مع التحديات الصغرى التي لو تم التعامل معها بحكمة وتدبر لصار من الأيسر التعامل مع التحديات الكبرى.

إننا مطالبون بالعمل على الإضافة إلى الديمقراطية بإعمال الفكر في نقاط التوتر التي أفرزتها الممارسات الديمقراطية ذاتها، كقضايا التمثيل السياسي، ووضع أنظمة أفضل لمتابعة عمل النواب ونظم للرقابة والمحاسبة وتحييد المال السياسي في الانتخابات، والوصول إلى آليات لدمج الجوانب القيمية والأخلاقية في العمل المؤسساتي والأداء العام، تماما كما أننا مطالبون بإعمال العقل في قضايا كبرى كمفهوم الأمة والعلاقة بين الدول-الأقطار.

"
بدلا من ترديد أمجاد الإسلام ومبادئه العليا بشكل مجرد، لا بد لنا من العمل على البناء على الأنظمة والآليات الديمقراطية، فالإنسانية جمعاء تحتاج إلى هذا العمل وإلى كل الضوابط القيمية والأخلاقية التي قدمها الله عز وجل للناس جميعًا في رسالة الإسلام
"

والبحث عن حلول للتحديات الصغرى يجب أن يبتعد عن كتب التراث بشكل كبير، فالحلول المطلوبة حلول إنسانية، زمنية، وقتية، ولا علاقة لها بما قاله الماوردي أو الغزالي أو غيرهما من أعلام القرون الوسطى. وأذكر هنا أن الشيخ راشد الغنوشي كتب ذات مرة ما معناه أنّ كتاب إحياء علوم الدين للغزالي (وهو من أعظم ما كتب في القرن الخامس الهجري) من عقبات التجديد، وأن أحد الفقهاء التونسيين قال إنّ الكتاب لا يفيد إلا العلماء أما المبتدئون فهو كفيل بأن يضلهم.

وبدلا من ترديد أمجاد الإسلام ومبادئه العليا بشكل مجرد، لا بد لنا من العمل على البناء على الأنظمة والآليات الديمقراطية، فالإنسانية جمعاء تحتاج إلى هذا العمل وإلى كل الضوابط القيمية والأخلاقية التي قدمها الله عز وجل للناس جميعًا في رسالة الإسلام وائتمن عليها أصحاب العقول من المسلمين ليس لمجرد إيصال الرسالة إلى البشر جميعًا فقط، وإنما العمل بها من أجل الوصول إلى إنشاء أمة فاعلة نافعة للبشرية كلها.

وهذا عكس الفهم الشائع بين الكثير من المنتمين إلى حركات إسلامية مختلفة من أن المطلوب هو بذل الجهد وليس الوصول إلى الهدف أو تحقيق النتائج، الأمر الذي يجعلهم لا يتدبرون في عواقب الكثير من أفعالهم على النحو المعروف.

وعلينا هنا أن نتأسى بالرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام الذي لم تكن رسالته مجرد التبليغ أي إيصال الرسالة للناس، وإنما البلاغ بعد التبليغ، أي العمل من أجل الوصول إلى إنشاء أمة من المؤمنين، ترجمةً لقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ". (من الآية 67 من سورة المائدة).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.