اللعب بالنار بتغيير قواعد اللعبة
– لعبة القتل المستهدف
– الاغتيال والقانون
– مغنية.. نقطة التحول في قواعد اللعبة
من المؤكد أن اغتيال عماد مغنية في دمشق يذهب إلى أبعد من مجرد عملية اصطياد لقائد عسكري مهم في حزب الله تم اختراق سوره الأمني، ذلك أن الاغتيالات أضحت مادة للتغيير السياسي والمغامرات العسكرية على مدى التاريخ السياسي للبشر.
فقد كان الاغتيال سببا في الحرب العالمية الأولى، وصولا إلى اغتيال جون كينيدي الذي طوى صفحة الكاثوليكية السياسية في سدة الرئاسة الأميركية لعقود.
الاغتيال الذي يتجاوز قواعد اللعبة التي لا تشمل السياسيين ولا كبار القادة العسكريين عادة، والمفروضة بموجب تفاهم "جنتل مان" فرضته آلية الصراع وتوازن الرعب.. يعطي انطباعا بأن عودة لغة الاغتيالات بهذا الشكل توحي بأن الاغتيال قد عاد مرة أخرى لغة للتعامل السياسي.
ويتجلى ذلك على وجه الخصوص عندما يعلن في واشنطن قبل نحو خمس سنوات عن إحياء قانون القتل المستهدف الذي تم إيقاف العمل به عام 1973 إثر حرب فيتنام، وعندما يعلن عن تشكيل مجموعات اغتيال متجاوزة للقوميات وبتعاون دولي إقليمي محلي.
صحيح أن هذا النوع من القتل لم يُتوقف عن اعتماده مرارا، وقد غدا اليوم في واجهة اللعبة السياسية الدولية، خاصة أن إسرائيل لم تتوقف عن استخدامه أبدا، بل كانت دائما ترفع من أسهمه وتخفضها حسب توقعاتها برد فعل الطرف الآخر في المعادلة التي لا تشكل فيها الطرف الوحيد.
وإن إسرائيل نفسها لم تستعمل مصطلح الاغتيال بوضوح، وإنما تفضل تعبير الإحباط المستهدف، ويعني القتل المستهدف.
" هناك اعتقاد شبه عالمي بأن سياسة القتل المستهدف تمثل رد فعل مناسبا على الهجمات الإرهابية، إذ لم تتعرض إسرائيل لانتقادات واسعة ولاذعة على هذه السياسة " |
لعبة القتل المستهدف
وإسرائيل تستخدم التاريخ الأسطوري دلالة دائمة على شرعية تاريخية أخلاقية لهذا السلوك، فتقول إن ممارسة إسرائيل للقتل المستهدف ليست جديدة، فهي تعود تاريخيا إلى ادعائهم أن "الملك داود أمر بقتل قائد جيوشه لأنه خشي طموحاته".
وفي الفترة ما بين العهدين القديم والجديد أقدم المتعصبون الدينيون -لتحرير حصن ماسادا- على قتل خصومهم بحرية تامة.
وكانت الجماعات اليهودية السرية التي نشأت قبل نشأة إسرائيل الهاغانا وإيرغون وليهي تستشهد بأمثلة من الكتاب المقدس وأمثلة تاريخية لتبرير ما كانت تقوم به من عمليات القتل المستهدف.
سياسة القتل المستهدف هذه التي مارستها الجماعات اليهودية المتعصبة مارستها إسرائيل منذ قيامها عام 1948، ففي الخمسينيات ركزت على هذه السياسة بادعاء وقف الهجمات الفدائية من مصر، وكان في الاستيلاء على مناطق جديدة بعد عام 1967 وازدياد العمليات الفلسطينية سببا كافيا لإسرائيل لمضاعفة استخدام سياسة القتل المستهدف، حسبما تبرر.
وفي عام 1971 قاد أرييل شارون كتيبة ضد "الإرهاب" في محاولة لطرد المقاتلين الفلسطينيين من غزة. وشهدت الثمانينيات محاولة إسرائيلية لقتل قائدين فلسطينيين نجحت في قتل أحدهما، كما تمكنت من قتل أبو جهاد عام 1988 في تونس.
واستمرت سياسة القتل المستهدف في التسعينيات، فقتلت إسرائيل فتحي الشقاقي في مالطا عام 1995، والمهندس يحيى عياش عام 1996، إضافة إلى عمليات متتالية ضد حزب الله وقادته.
ومع مطلع الانتفاضة الثانية أواخر عام 2000 بدأت موجة من عمليات القتل المستهدف، وعلى خلاف الانتفاضة الأولى التي كانت نسبة القتلى الفلسطينيين إلى الإسرائيليين فيها تساوي تقريبا 25 فلسطينيا مقابل إسرائيلي واحد، قلصت الانتفاضة الثانية هذا العدد ليصل إلى ثلاثة فلسطينيين مقابل إسرائيلي واحد.
الاغتيال والقانون
ويحظى القتل المستهدف بالقبول عند الإسرائيليين على عكس سياسات التوغل في الأراضي الفلسطينية، فبحسب استطلاع للرأي عام 2001 تبين أن 90% من عامة الإسرائيليين يؤيدون هذه السياسات ويرون أن هناك اعتقادا شبه عالمي بأن سياسة القتل المستهدف تمثل رد فعل مناسبا على الهجمات الإرهابية، فلم تتعرض إسرائيل لانتقادات واسعة ولاذعة على هذه السياسة كما هو الحال في سياسة التوغل الميداني.
العلاقة بين القانون والقتل المستهدف ينظر إليها من زاويتين: علاقة القتل المستهدف مع القانون اليهودي والإسرائيلي من جهة، وعلاقة القتل المستهدف مع القانون الدولي من جهة ثانية.
ويرى الإسرائيليون أن سياسة القتل المستهدف تنسجم مع كلا القانونين مع تعقدها أكثر فيما يتعلق بالقانون الدولي.
" هناك إجماع واضح على أن الاغتيال خرق للقانون الدولي، ومع ذلك توجد أسباب قوية لدى البعض تدعو إلى الاعتقاد بأن سياسة إسرائيل في القتل المستهدف ليست اغتيالا " |
ففيما يتعلق بالقانون اليهودي والإسرائيلي تقول هذه الدراسة إن القانون المسمى بمبدأ روديف -كما ذكر في الكتاب المقدس- يقول بصراحة مطلقة إنه إذا جاء شخص لقتلك فأنت ملزم بقتله أولا، وهذا الإلزام لا ينطبق على حماية المرء لذاته فقط، وإنما دفاعا عن مجتمعه.
وبناء على ذلك أجاز القانون الإسرائيلي ثلاثة شروط يمكن على أساسها تنفيذ سياسة القتل المستهدف:
1- يجب أن تكون السلطة الفلسطينية قد تجاهلت مناشدة إسرائيل إياها اعتقال المشتبه بهم كإرهابيين قبل الإقدام على قتلهم.
2- يجب أن يكون الإسرائيليون قد توصلوا إلى قرار بأنهم غير قادرين على اعتقالهم بأنفسهم.
3- يكون القتل لاتقاء هجمة إرهابية فورية أو مقبلة وليس انتقاما ولا عقوبة، وهذا ما يتصل بكافة أعداء إسرائيل.
أما فيما يتعلق بالقانون الدولي، فالمعاهدات الدولية والعرف الدولي يحرمان الاغتيال، كمعاهدة 1937 لمنع وقمع الإرهاب واتفاقية نيويورك لعام 1973.
يوجد إجماع واضح على الرأي بأن الاغتيال خرق للقانون الدولي، ومع ذلك توجد -كما يرون- أسباب قوية تدعو إلى الاعتقاد بأن سياسة إسرائيل في القتل المستهدف ليست اغتيالا.
ويستند هذا الرأي إلى مدير مركز قانون الأمن القومي وكلية القانون من جامعة فرجينيا جون كورتون موور الذي يقول "إذا اشترك شخص في عدوان مسلح بشكل قانوني فلا يعتبر استهداف المتورطين في العمل العدواني والقتال اغتيالا".
ويوافق على هذا الرأي تشارلز دونكان -وهو محام عسكري أميركي- إذ يقول "خلافا للاعتقاد الشائع فلا القانون الدولي ولا القانون المحلي الأميركي يحظر قتل أولئك الذين يواجهون قوات مسلحة في الحرب، فجميع الأمم لها الحق تحت راية القانون الدولي استخدام القوة ضد الإرهابيين". وهي الدولة الوحيدة التي تعتمد هذا التفسير الذي لا يقبل به حتى الأميركيون أنفسهم رغم إقرارهم لقانون الاغتيالات بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
لكن ورغم ذلك فإن إسرائيل تورد نقطتين غامضتين بشأن التزامها بالقانون الدولي:
– الأولى، أن إسرائيل في حالة حرب فعلية مع الفلسطينيين وحزب الله، فالقانون الدولي وبحسب رئيس قسم القانون الدولي في الجيش الإسرائيلي يميز فعليا بين حالتين فقط هما الحرب والسلم.
وليست إسرائيل في حالة حرب، لأن الحرب تكون بين جيشين أو دولتين، والفلسطينيون مثل حزب الله يفتقرون إلى الاثنين. لكن ما دامت إسرائيل في صدام مسلح مع الفلسطينيين فمسموح لها استهداف هؤلاء المقاتلين.
إن في الحرب أو الصراع المسلح رخصة قانونية على قتل الخصوم سواء كان هذا بالقتل المستهدف أم بالقتل التقليدي.
– النقطة الثانية، وتتمثل فيما إذا كانت إسرائيل تستخدم وسيلة الغدر عندما تعتقل الإرهابيين المشتبه بهم، فالكيفية التي تم فيها القتل تعادل وربما تفوق في الأهمية هوية الشخص المقتول.
مغنية.. نقطة التحول في قواعد اللعبة
" قد يرى البعض ضرورة تأخير رد الفعل حول اغتيال مغنية في دمشق لاختيار الزمان والمكان المناسبين، وقد يراه البعض فرصة لتلقين إسرائيل درسا جديدا، ولكن لا يمكن لأي أحد إلا أن يرى فيه نقطة تحول بين زمنين وآليتين للصراع " |
وهنا بيت القصيد: اغتيال عماد مغنية في دمشق بالذات يبدو أنه لهدف أكبر، فالمكان له دلالة ربما تعادل الشخص نفسه، والسيناريو هو ربط سوريا بالشخص وبالتالي بالعملية وصولا إلى رد حزب الله الذي قد تستخدمه إسرائيل ذريعة لما ينال سوريا بالذات، لا نقول بحرب بل بضربة.
وكان لافتا الصمت السوري الحذر، فالسوريون "حيسوبيون" (أي يحسبونها جيدا) ويستشعرون مكمن الخطر، إذ منذ عملية قصف المنطقة الواقعة قرب دير الزور كان النفي الإسرائيلي مؤشرا على أن إسرائيل تحاول جر دمشق إلى رد متعجل يكون بمثابة اعتداء سوري طالما أن إسرائيل نفت، يستوجب الرد.
والرد له عدة فوائد: أنه يفسح المجال أمام رفع معنويات الجيش الإسرائيلي المهزوم عام 2006، والانتقام من دعم سوريا لحزب الله، واستباق أية وسائل ردعية سورية يدعون أنها تتنامى، بما ينقل سوريا من الردع إلى المنع للحرب، ودفعها إلى طاولة المفاوضات تحت وقع متغيرات عسكرية.
صحيح أن هذه النظرية تغفل عن طبيعة الرد السوري التي لن تكون عابرة، إلا أنها تشير إلى حجم الصراع بين العقلانية واللاعقلانية في القيادة العسكرية الإسرائيلية وكذلك السياسية، التي تعتبر إحدى تجلياتها إعلان إيهود باراك في أنقرة يوم 14/2/2008 أي بعد العملية بيوم، أن لا مكان في الشرق الأوسط للضعفاء، وإن السلام لن يأتي قبل أن يعرف العرب أن إسرائيل لن تهزم بالحرب ولا بالدبلوماسية، أي أن القرار لدى وزير الدفاع الإسرائيلي هو الذهاب نحو استعراض للقوة.
وفي حديث لصحيفة "ملّت" التركية غداة العملية في دمشق، اتهم باراك دمشق بدعم منظمات وصفها بالإرهابية مثل حزب الله وحماس، مشيرا إلى أن الحزب يعمل تحت مظلة سوريا لحشد صواريخه وقذائفه للاشتباكات المقبلة مع إسرائيل.
وهددا باراك بأنه "سيكون لنا موقف آخر حيال سوريا وإيران، إذا استمرت الحال على ما هي عليه في لبنان وفلسطين". وأكّد أن الدولة العبرية "لن تتخلى عن الرد بصورة مفرطة، مهما تكن مواقف الرأي العام العالمي".
كان الصمت السوري يحسب طبيعة هذا المتحول وهو دفع لقواعد اللعبة ودخول في الحرب المفتوحة فعليا.
مع أننا نقدر أن الإسرائيليين في اضطراب منذ هزيمة 2006 وتقرير فينوغراد، فإنهم -رغم طلبهم الهروب إلى الأمام- ليسوا مجانين، على أنهم كما كان موشيه شاريت ينصح بن غوريون دائما يودون أن يظهروا كمجانين.
لن تكون العملية الأخيرة مجرد تاريخ عابر، إذ قد يرى البعض ضرورة تخفيض آلية رد الفعل حولها لاختيار الزمان والمكان المناسبين للرد، وقد يراه البعض فرصة لتلقين إسرائيل درسا جديدا، ولكن لا يمكن لأي أحد إلا أن يرى فيها نقطة تحول بين زمنين وآليتين للصراع.
المهم أن هذه العملية في دمشق مفصلية وتحتاج إلى دراسة معمقة من حيث التباس غبائها وحماقتها الظاهريين وصولا إلى أن غدا لناظره قريب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.