العدالة والتنمية المغربي إلى أين؟

العدالة والتنمية المغربي إلى أين؟ - راشد الغنوشي



منذ أكثر من سنة مثل تنبؤ بعض المؤسسات الأميركية التي تتابع تطور اتجاهات الرأي العام في المغرب، بفوز حزب العدالة والتنمية على بقية الأحزاب، كابوسا أقض مضاجع خصوم الخيار الإسلامي في الخارج وعلى رأسهم الكيان الصهيوني، وفي الداخل خصوصا الائتلاف الحاكم، فطفق يطعن بمختلف الطرق في ذلك التوقع الذي تسوق أحداث كثيرة في الداخل والخارج المياه إلى مجاريه.

"
لا عجب أن تنفخ عواصف معاناة الأمة وانتصاراتها في أشرعة إسلاميي المغرب خاصة أن فيه مجتمعا ترتفع فيه معدلات الفساد الإداري والمالي والبطالة والفقر وتتسع فيه الهوة بين مجتمع المدن وأحزمة البؤس التي تحيط بها وبين مجتمع الأرياف والبوادي
"

كان آخر تلك المياه الفوز الساحق الذي حققه فصيل إسلامي آخر يحمل نفس العنوان في بلد مفعم برموز القيادة والعظمة الإسلاميين: تركيا، ذلك الفوز الذي علق عليه د. سعد الدين العثماني زعيم العدالة المغربي بقوله: "لقد كشفت انتخابات تركيا عما تتوفر عليه الدول الإسلامية من طاقات كامنة إذا توفر لها الإطار السليم من ديمقراطية ونزاهة، فسرعان ما تنهض الشعوب وتشارك بقوة، حتى بلغت نسبة المشاركة 80%، وهي تعبئة جماهيرية ضرورية للتنمية والولوج إلى عالم الحداثة، وكان غياب تلك التعبئة سببا في فشل محاولات النهوض" (النقول الواردة مأخوذة من حديث للعثماني في موقع سويس إنفو27-8-2007)


رياح تهب لصالح الإسلاميين
 يستفيد التيار الإسلامي من الأحداث الكبرى التي تعصف بالأمة، خصوصا بعد الأحداث المشؤومة 11-9-2001 التي اتخذتها الصهيونية المسيحية ذريعة للهجوم الشامل على الإسلام، عقائد ومؤسسات مدنية ودولا، بدءا باجتياح أفغانستان فالعراق مع تقديم الدعم المطلق للاجتياحات اليومية الصهيونية للأراضي الفلسطينية واستئناف الدعم الأميركي لأنظمة الفساد والاستبداد التي قابلتها الشعوب الإسلامية بمزيد من الانضواء تحت راية الإسلام وتيارات المقاومة والأحزاب والحركات المنبعثة من نبعه الفياض.

فكانت النتيجة الانتصار المدوي لحزب الله في لبنان على الغزو الصهيوني وتصاعد المقاومة الأسطورية في العراق وأفغانستان واندحار الصهاينة في غزة وفوز حماس والإخوان في مصر.

وفي كل ذلك ينهض الإسلام ذابا عن حرمات الأمة في مواجهة الطغيان الدولي وحليفه في الداخل: الفساد والاستبداد.

وليس المغرب معزولا عن هذه الرياح العاتية، ولا عجب أن تنفخ تلك العواصف في أشرعة إسلامييه في مجتمع ترتفع فيه معدلات الفساد الإداري والمالي ومعدلات البطالة والفقر وتتسع فيه الهوة بين مجتمع المدن وأحزمة البؤس التي تحيط بها وبين مجتمع الأرياف والبوادي.

مجتمع المدن بأجياله الشابة ونخبه الحديثة وأحزمة فقره كان اليسار لعقود يحمل تطلعاته إلى التغيير والمساواة والعدل والتجديد، ومقارعة الرأسمالية الغاشمة الزاحفة بقوة تطبيعا مع العدو الصهيوني وتنسيقا أمنيا بذريعة الحرب على الإرهاب، والتهاما لأقوات ملايين البؤساء.

كل أولئك تركهم اليسار الحاكم وراءه لينضم عمليا إلى عالم المصالح ومجتمع المخزن، حيث الثروة والسلطة وأدوات القمع، مما أدى إلى انحسار نفوذه في المدن شأن جيله من أحزاب الحركة الوطنية مثل "الاستقلال" و"جبهة التحرير" و"الدستور" التونسي..

تلك الأحزاب حكمت فتكرشت، وفتّ في عضدها الفساد، فانصرفت عنها تطلعات الأجيال الجديدة وبالخصوص في المدن الكبرى، ليتمركز نفوذها عموما في البوادي والأرياف، متكئا على أدوات السلطة وما في يدها من نفوذ إداري ومال سياسي وإعلام متخشب، فكان الطرح الإسلامي وبعض حلفائه من اليسار الذي لم يتأمرك هو البديل الحامل لتلك التطلعات في العدل والحرية والتصدي لقوى الهيمنة الرأسمالية وللتطبيع، وللفساد والاستبداد في الداخل.


أرضية إسلامية خصبة
انحسرت أرض المغرب بعد نصف قرن من تداول نخب علمانية حديثة على الحكم عن فيض من الجماعات الإسلامية تغطي طيف الألوان الإسلامية كلها، بدءا بالتدين الرسمي بطبقته العلمائية والمؤسسات الدينية الضخمة، وانتهاء بالجماعات السلفية الجهادية الواسعة الانتشار وبالخصوص في أحزمة البؤس، مرورا بالجماعات الصوفية الكثيفة، وصولا إلى جماعات الحركة الإسلامية "الإسلام السياسي" على اختلاف إيقاعاته: العدل والإحسان -أكبرها فيما يبدو- رغم رفضها الانخراط في مربع العملية السياسية كما حدده بدقة وحزم الماسك بخيوط اللعبة: الملك، ثم "التوحيد والإصلاح" الراعي لحزب "العدالة والتنمية" موضوع حديثنا ثم البديل الحضاري وهو حزب إسلامي آخر معترف به، ثم حزب النهضة وحزب الأمة: وهما حزبان مرشحان للاعتراف.

كلها أودية حملت من دفق الإسلام العارم بقدرها، بما لذلك من دلالة واضحة على عمق واتساع وثراء الإسلام المغربي، فماذا سيبقى للجماعات العلمانية لو أنها خسرت مواقعها السلطوية، وحل محلها الإسلاميون؟ وهو افتراض بعيد.

"التوحيد والإصلاح" الجماعة الأم للعدالة والتنمية التي تفاعلت مع تطور المجتمع المغربي، مستفيدة من تجاربها وتجارب التيار الإسلامي في المنطقة، من الراديكالية مع "الشبيبة" في السبعينيات إلى "جماعة" دعوية إصلاحية في الثمانينيات، كان "العدالة والتنمية" من نتاجها في التسعينيات لتتفرغ بزعامة الأستاذ الحمداوي خليفة الأستاذ الريسوني لمهام الدعوة والإصلاح العام.

"
النظام في المغرب تأسس على التعددية السياسية بما يجعل المؤسسة الملكية هي الماسكة وحدها بزمام الأمور والحكم بين الفرقاء فصيغ النظام الانتخابي على نحو يشتت الأصوات ويحول بين أي فريق وبين الفوز بالأغلبية بما يفرض دوما حكومة ائتلافية وتوازنات يتحكم فيها الملك
"

وقد تركت مهام الإصلاح السياسي للحزب "بعد أن حسم لصالح الوجهة التي طالما دافع عنها أحد أبرز المؤسسين الأستاذ عبد الإله بن كيران، قاطعا نهائيا مع الطرح الراديكالي المصمم على تغيير بنية الدولة، لصالح رؤية إصلاحية تعمل من داخل مؤسساتها، على اعتبار أنها دولة تأسست شرعيتها على الإسلام فهي إمارة مؤمنين، يمكن إصلاحها عبر إستراتيجية هادئة متدرجة، تركز جهدها لا على تغذية الصراع الإيديولوجي، فتلك ليست مهمة الحزب السياسي بل مهمة دعوية لها مؤسساتها المختصة".

"إن دخول العمل السياسي-في نظر العثماني زعيم الحزب- يعني القبول بالتسويات، أما النزعة الطوباوية فنقيض العمل السياسي.

عملية الإصلاح عملية متدرجة وتحتاج إلى نفس طويل. بعض الأطراف التي ترفض هذا التدرج تشترط شروطا تعجيزية كأنها ترفض الإصلاح من أساسه".

ويدافع عن هذه العملية من منطلقات وطنية يستلهم فيها مثل السفينة الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصير الجماعة الواحد "نحن في سفينة واحدة هي الوطن، نريدها أن تصل إلى هدفها، وإذا تركنا البعض يعيث فيها فسادا فسنغرق جميعا.

كما يؤسس مساره الإصلاحي في مواجهة المسار الراديكالي على دروس التاريخ القريب" لقد أمضى البلد زمنا كافيا من الصراع بين النظام والمعارضة. هذه تريد الإطاحة به لإحلال جمهورية محله والنظام يحاول قمعها والنتيجة أن المغرب أضاع نصف قرن من الصراعات على السلطة ولم يهتم بالتنمية ولا بنقل المعرفة ولم ننجز شيئا.

نحن معارضة إصلاحية لن تكرر تلك التجربة. معارضتنا إيجابية، لا نريد تعقيد الأمور ولا تعطيل التنمية".


تطور نوعي
زعماء الحزب يتوقعون الحصول على نسبة تتراوح بين 70 و80 مقعدا، متطورين من 10 مقاعد سنة 1997بعد سنة واحدة من تشكلهم، إلى 42 مقعدا في الانتخابات الموالية، من بين 325 هي عدد مقاعد المجلس.

ولم يكونوا يترشحون إلا في شطر الدوائر، أما هذه المرة فقد أعلن زعيم الحزب قائلا "سنترشح في جميع الدوائر وسنبذل جهدنا للفوز بالأغلبية، لكن النظام الانتخابي ووجود منافسة قوية يجعل السقف محدودا بالنسبة لكل الأطراف، ونحن سعداء بهذا النمط من الاقتراع لطمأنة الجميع، مما يجنبنا الوقوع في تجارب جربتها دول أخرى تعطل فيها المسار".

واضح أنه يشير إلى تجربتي الجزائر 1992وتجربة تونس 1989حيث كان النظام الانتخابي يسمح بفوز حزب واحد بالأغلبية، وكان المعتاد أن يكون الحزب الحاكم، فلما تحول الرأي صوب الإسلاميين انقلب أصحاب المصالح على النتائج مدعومين من الخارج.

ودخل البلدان في أزمة لم يخرجا منها حتى الساعة، بسبب قيام النظام فيهما أساسا على نظام الحزب الواحد فلما تحولت الأغلبية إلى جهة أخرى انهارت العملية وتوقف المسار، أو هو على وشك ذلك كما يحصل في مصر بعد فوز الإخوان، عودا إلى الديكور الديمقراطي طلاء لنظام الحزب الواحد.

أما في المغرب فقد تأسس النظام على التعددية السياسية بما يجعل المؤسسة الملكية هي الماسكة وحدها بزمام الأمور والحكم بين الفرقاء فصيغ النظام الانتخابي على نحو يشتت الأصوات ويحول بين أي فريق وبين الفوز بالأغلبية بما يفرض دوما حكومة ائتلافية وتوازنات يتحكم فيها نهاية الملك.


إنجازات في المعارضة
يقوّم العثماني إيجابيا نتائج انخراط جماعته في معمعان السياسة قائلا "منذ عشر سنوات دخلت عناصر شابة عالية التكوين البرلمان، مما أعاد الاعتبار لهذه المؤسسة لدى شرائح واسعة من المواطنين، طرحوا ملفات لم يكن ليجرؤ على طرحها أحد مثل ملف الفساد المالي والإداري وانتهاك حقوق الإنسان وملفات خارجية مثل التطبيع".


احتمال الانتقال من المعارضة إلى سدة الحكم
ولما سئل العثماني عن احتمال المشاركة في الحكم ترك الباب مفتوحا "المشاركة واردة ومرتبطة بالنتائج، ذلك أن بقاء الحزب في المعارضة يعني أن إمكانات تحقيقه لبرنامجه الانتخابي تظل محدودة، رغم عرفان الشعب المغربي للحزب على الدور الذي قام به من موقع المعارضة دفاعا عن حق المغربي في التعليم والشغل..

المشاركة واردة إذا توفرت الشروط، ومنها أن التحالفات المستقبلية ينبغي أن لا تكون على أساس إيديولوجي فقد انتهت الأيديولوجيات، نحن نشترك مع من يشترك معنا في أولوياتنا وعلى رأسها مقاومة الفساد وإصلاح القضاء والإدارة وحل مشكلة التفاوت الاجتماعي ودعم الحريات وحقوق الإنسان".


"
العدالة والتنمية يبدو مطمئنا إلى أن مشاركته لأول مرة بكل طاقته وتعبئته لأوسع أرصدة التيار الإسلامي في غياب مشاركة قوى إسلامية أساسية، لا تمثل إزعاجا للقصر الماسك بخيوط اللعبة بذكاء يشبه السلطة الناعمة رغم قوة تحكمها، خلافا لما اعتاده الحاكم العربي المتعجرف
"

أجندة خفية للحزب: الأسلمة!
أما ما يتهم به حزبه من أنه يتوفر على أجندة أسلمة للقوانين بما يعنيه ذلك من اتهام للدولة وحتى للمجتمع والأحزاب الأخرى بالكفر فقد نفى ذلك وقال "نحن لا نحتاج إلى أسلمة الدولة لأننا نعتقد أن الدولة مسلمة، ولا يمنع ذلك من وجود إخلالات يجب السعي إلى إصلاحها. إن مقاومة الفساد وبسط العدل من جوهر الإسلام ". (من مقابلة مع برنامج المغرب العربي يوم 29-8-2007 قناة الجزيرة).

لقد حدد الحزب تصوره للإسلام، ومنهج استلهامه في برامجه "ينطلق الحزب من قيم ومقاصد ومبادئ الإسلام وليس من فهم متشدد بل من فهم متجدد منفتح على العصر ومتطلباته والحرص على مكاسب الحداثة.

إن المغرب دولة ينص دستورها على أن دينها الإسلام لكنها في حاجة إلى مشروع إصلاحي لتقويم وحل مشكلة التفاوت الاجتماعي ضمن برنامج يعالج الإخلالات الموجودة ويحقق العدالة والتنمية، ولذلك كان شعارنا الانتخابي "جميعا لبناء مغرب العدالة".


هناك عوائق كأداء
إلا أن الحزب مع التزامه بنهج الإصلاح والتدرج ودأبه على ذلك وتركيزه على هموم الناس المعاشية وليس على الجدل الديني، يجد نفسه شأن بقية القوى الديمقراطية في البلد مكبلا ببنية سلطوية شمولية ماسكة بكل أو بمعظم خيوط اللعبة.

"إن مشكلة الديمقراطية المغربية أن هناك تقليصا من صلاحيات المؤسسات المنتخبة من حكومة وبرلمان لصالح القصر.. هناك نخب فاسدة، واستعمال المال السياسي لا يزال سائدا وهناك تزوير متكرر وذلك سبب عزوف الناخبين".

وفي مسألة العلاقة مع الخارج "يؤيد الحزب قضايا العدل والتحرر مثل قضية فلسطين ويستنكر التطبيع، يؤيد الشراكة مع أوروبا ولكنه يريدها شراكة عادلة، يؤمن بعلاقات متوازنة بين الشرق والغرب".


آفاق المستقبل
الحزب يبدو مطمئنا إلى أن مشاركته لأول مرة بكل طاقته وتعبئته لأوسع أرصدة التيار الإسلامي الممكنة في غياب لمشاركة قوى إسلامية أساسية، لا تمثل إزعاجا للقصر الماسك بخيوط اللعبة بذكاء بما يشبه السلطة الناعمة رغم قوة تحكمها، خلافا لما اعتاده الحاكم العربي المتعجرف، ففي المغرب لا يسمح قانون اللعبة بالمفاجآت الكبرى والاجتياحات الانتخابية المربكة.

إن رغبة الملك الشاب هي في تجديد حكمه واستيعاب الفيض الإسلامي المتصاعد في إطار مؤسسات حكم داعمة له، بما يدرأ شرور العنف باسم الإسلام المتصاعدة، لاسيما أن جماعة العدالة والتنمية ينتمون إلى جيله خلافا للائتلاف الحاكم الذي ينتمي إلى جيل والده الذي فت في عضده الفساد واستهلكه الحكم وفقد قاعدته الاجتماعية.

كل ما تقدم يفتح احتمال فوز العدالة والتنمية وانتقاله من حزب ثالث إلى حزب أول ومن زعيم للمعارضة إلى حزب يقود الحكومة.

ومع ذلك لا يبعد أن يكون الحزب متخوفا من التجربة ومترددا لعلمه بحدود السلطة، والخشية من أن تفرض عليه إكراهاتها الانسلاخ التدريجي من هويته وشعاراته وبرامجه على غرار ما حدث لخصومه الاشتراكيين الذين انتقلوا من معارضين أشداء للخيارات الرأسمالية إلى خدام لها.

فمن ذا الذي يضمن للإسلاميين في ظل الإكراهات القائمة أن لا يستنزفوا ويرمى بهم جانبا؟ وهل في ذلك أصلا مصلحة للبلد واستقراره؟ أم يكون خدمة لخيارات التشدد والراديكالية؟

ولكن ألا تمثل المشاركة خدمة للمشروع الثقافي الإسلامي، ولتيار الاعتدال الإسلامي على كل الصعد في زمن تشتد فيه الوطأة عليه وعلى جماعاته، وحدا من وتيرة النهب والفساد في الداخل؟ ألا يكون ذلك انتصارا ودعما لخيار التعامل الإيجابي مع الوسطية الإسلامية بديلا عن خيار الحل الأمني الذي راهنت ولا تزال عليه أنظمة عربية استئصالية، وإستراتيجية صهيونية ثابتة وحلفاؤها المحافظون واللبراليون الجدد وكل قوى الاستئصال.

ألا يرجح ذلك خيار المشاركة على سلبياته؟ في المسألة نظر. والله ولي التوفيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.