المعارض الشرعي

المعارض الشرعي

إحدى شخصيات رواية "سقوط الإمام" للدكتورة نوال سعداوي، هي "المعارض الشرعي"، وتقول الدكتورة في وصفه وهو يقف إلى "يسار" الإمام إن "عينه اليمنى على العرش وعينه اليسرى على رئيس الأمن، يتبادلان الابتسام وفي الليل يشربان نخب الصداقة والولاء. صديقان لدودان، واحد في حزب الله والثاني في حزب الشيطان، وكلاهما شرعي أنجبته الإرادة العليا، كالأخوين غير الشقيقين أمهما واحدة والأب رجلان عدوان تجمعهما الكراهية وحب إمارة واحدة".

في كل قطر عربي هناك معارضة شرعية من هذا النوع، والمعارضة الشرعية في الأردن كانت منذ تأسيس الإمارة، "الإخوان المسلمون".

وهذا كان معروفا لدى الجميع منذ قيام الإمارة وطوال عمر المملكة، ولكن الحديث عنه لم يكن يجري بصراحة حتى عام 1997 حين ظهر أول شق بين الحليفين.

"
قول الإخوان إن سبب تراجع تمثيلهم النيابي هو الصوت الواحد لا سحب جزء من الدعم الرسمي لهم، يُرد عليه بأنهم قبلوا التهميش, وهو ما لا يقبله في السياسة من كان قادرا على حشد التأييد الشعبي
"

حينها بدأ الحديث العلني عن فضل النظام الحاكم على الإخوان لكونه سمح لهم بالعمل العلني حصرا دون غيرهم من الأحزاب، فنموا تحت مظلة النظام وبفضله وحمايته كما يجهر الآن كتاب ورجال الحكومة.

ويبدو أن الإخوان كانوا مطمئنين جدا لحظوتهم هذه عند الحكم, فأعلنوا مقاطعة انتخابات عام 1997 حردا على الصوت الواحد.

عندها كتبتُ محذرة الإخوان من أن الحرد لن يجزي لأن الشارع الأردني معني بالديمقراطية التي انتفض لأجلها وليس بالإخوان, وأن الحرد يكون بالاتكال على الحظوة، والحظوة الرسمية بالمقابل لم تعد لهم حصرا، بل مالت عنهم إلى "معارضة شرعية" جديدة تناسب مرحلة وادي عربة.

والمعارضة الجديدة كانت تجمعا من ثلاثة مجاميع صغيرة تسمي نفسها أحزابا وسطية، وهي في الحقيقة محاولات رجال الحكم العرفي لبس ثوب حزبي يناسب مرحلة عودة الحياة النيابية, ولا أقول الديمقراطية التي لم تعد بعد.

والدمج كان قسريا، فقد أرغم اثنان من تلك "الأحزاب" على الانضمام إلى الثالث وتم تسليمه قيادة الحزب الجديد, ما أدى إلى إفشاله جزئيا ومن الداخل.

أما قصة إفشال محاولته الوصول إلى الحكم بزعم فوزه بأغلبية نيابية، فهي أبعد من هذا بكثير وأتركها لحين نشر مذكراتي.

ولكن ما يعرفه الأردنيون ولا يشكل مادة حصرية، هو أن تلك "المعارضة الشرعية" البديلة لم تتمكن من أداء الدور لافتقارها التام إلى القاعدة الشعبية ولوضوح ارتباطها بوادي عربة والتطبيع، ناهيك عن ملفات أخرى داخلية تعتبر من أولويات مطالب الإصلاح وفي مقدمتها محاربة الفساد، وهو أهم وأدق مقياس شعبي لفرز المعارضة الحقيقية.

وما يعرفه الأردنيون أن ذلك الحزب سقط تماما في انتخابات عام 1997، إلا من أنقذتهم الحكومة وبجهد استثنائي.

ولكن ما غفل عنه الكثيرون أن الإخوان تراجعوا عن مقاطعة تلك الانتخابات مقابل وعد شكلي يحفظ ماء وجههم، وهو تعهد الحكومة بإصدار قانون انتخاب عصري لاحقا.

غير أن الحكومة حينها توقفت عامدة عن إطلاق هذا الوعد الذي كانت تطلقه -ككل الحكومات التي أتت منذ عام 1989- لسد باب التراجع في وجه الإسلاميين.

كان هذا أول سقوط -أو إسقاط- لدعاية أن الإخوان هم أكبر جسم معارضة، تلاه سقوط آخر حين نزلوا إلى الانتخابات التالية في ظل قانون الصوت الواحد ذاته, ولم يفوزوا إلا بـ14 مقعدا في مجلس رفع عدد أعضائه إلى 110. وكانوا قبلها يشغلون 23 من 80 مقعدا في مجلسين متتالين لم يتغير فيهما عددهم، ما يثير تساؤلا عن ترتيبات ليس هنا مجال إثباتها.

وقول الإخوان إن سبب تراجع تمثيلهم النيابي هو الصوت الواحد لا سحب جزء من الدعم الرسمي لهم يرد عليه بأنهم قبلوا التهميش, وهو ما لا يقبله في السياسة من كان قادرا على حشد التأييد الشعبي.

فقد رشحوا للنيابة -وهي أعلى منصب سياسي منتخب في الأردن- في تلك الدورة من قالوا هم أنفسهم إنهم من "الصف الثاني" باستثناء واحد هو الدكتور محمد أبو فارس.

والعجيب أن الدكتور أبو فارس هو الذي اعتذروا عن تصريحاته في النهاية وأداروا ظهرهم له قائلين إن قضيته في يد القضاء.

"
نص البيان الذي صدر باسم الإخوان المسلمين في الأردن, لم يأت ملبيا لكافة طلبات الحكومة وحدها، بل والخصوم والمنافسين والطامعين في وراثة الحظوة
"

هذا مع أن قضيته في يد القضاء العسكري الممثل بمحكمة أمن الدولة التي هم أشد المعترضين على أحكامها وحتى شرعيتها.

وفي النتيجة فإن تهرب الإخوان من مسؤولية خفض سوية أدائهم السياسي بتحويل البرلمان من ميدان المعركة الديمقراطية الأول إلى معسكر تدريب لكشافة من الصف الثاني, انتهى بتهرب الإخوان بالذات من موقف النائب الوحيد الآتي من صفوة الصف الأول.. وهو وحده الذي لا يمكن عزو تصريحه الذي جرى الاعتذار عنه في النهاية بأنه "لنقص في خبرته" أو بإنكار دوره القيادي في التنظيم, كما فعلوا من قبل في تبرير أداء بقية نوابهم!

وبعد سجال وممانعة طويلة، جاء اعتذارهم وقبولهم بإصدار بيان أدت صيغته لأول شق علني في صفوفهم تمثل في استقالة قيادي كبير من حزبهم.

نص البيان الذي صدر باسم "جماعة الإخوان المسلمين-الأردن", لم يأت ملبيا لكافة طلبات الحكومة وحدها، بل والخصوم والمنافسين والطامعين في وراثة الحظوة, أو من هم أيضا "عينهم اليمنى على العرش"!

وأرجح أن جزءا غير يسير من نقاش الساعات الثلاث التي قضاها قادة الإخوان في لقاء مع الحكومة ومدير المخابرات والذي خرجوا بعده ببيانهم هذا، كان حول صيغة النقطة الثالثة منه والتي نصها "إعلان الولاء الصريح والواضح لله تعالى ثم للوطن والملك".

فهذه الصيغة تذكر بالقسم النيابي الذي يبدأ بـ"أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا للملك والوطن وأن أحافظ على الدستور وأن.. ", وهو النص الذي ألحقه نوابهم الحاليون بعبارة "بما فيه طاعة الله".

فجندت حملة رسمية تقول بعدم دستورية هذه الإضافة للقسم, وأجبر نواب الإخوان على إعادة القسم تحت تهديد عدم اعتبار عضويتهم فاعلة.

كما يمكن قراءة ما قصد استخلاصه من الإخوان في هذه الحملة, من صياغة جريدة "الرأي" الرسمية لعنوان خبر اللقاء والبيان الذي يقول الجزء الواقع منه على النصف الأعلى من الصفحة الأولى (أي ما تتم قراءته والجريدة مطوية وموضوعة على مسند العرض في الأسواق) وبالبنط العريض هو "جماعة الإخوان: الولاء للملك والالتزام بثوابت الدستور ومصالح الأردن".

وتحت هذا وببنط أصغر وعلى الجزء الأسفل المطوي للصفحة، يأتي الموضوع الذي قيل إنه سبب اعتقال نواب الإخوان وطلب الاعتذار من التنظيم نفسه, وهو "استنكار الإرهاب والفكر التكفيري والتصريحات المسيئة لذوي ضحايا تفجيرات عمان"!

أما ترويسة الخبر في الصفحة الداخلية لذات الصحيفة فتقول إن "الحركة الإسلامية تعلن الالتزام بثوابت الوطن والدستور والولاء الصريح للملك", وتحتها أيضا وبخط أصغر يأتي استنكار التفجيرات والحديث عن الإساءة لمشاعر ذوي الضحايا.

وللمقارنة نورد عنوان صحيفة "الغد" المستقلة الذي يقول "بوادر انفراج الأزمة بين الحكومة والحركة الإسلامية", و"المفتاح" (العنوان التمهيدي فوق العنوان الرئيسي وبخط أصغر) يقول "الإسلاميون يؤكدون الولاء للملك وإدانة الإرهاب والتزام الدستور", أضيف له في ترويسة الخبر الداخلي "وتقديم مصالح الوطن على غيره".

ويجب أن لا يفوتنا حجم الإذلال غير الضروري بل والمستفز للإخوان الذي جرى على امتداد الأزمة ولأسابيع.

ومنه ما قيل عن بيان "الفرصة الأخيرة لبراءة الإخوان" من نوابهم الأربعة الذي أصدرته غالبية النواب الذين تقول "الرأي" إنهم يمثلون أيضا "القواعد الانتخابية للنواب الإسلاميين"، وتقول إنها فرصة لتبني عقلاء الحركة لهذا البيان المقترح.. وبلا لف ولا دوران".

كل هذا ليس موضوعنا، بل موضوعنا هو ما تلاه، إذ بعد أن أحرقت الحكومة الأردنية "المعارضة المشروعة" الوحيدة التي حمتها ونمتها لأكثر من ستة عقود، نجدها تعيد استصلاحها ثانية وتظن أنه بالإمكان إعادة ترويجها -أو تمكينها من ترويج نفسها- باعتبارها المعارضة الوحيدة, أو على الأقل تريد أن توحي بأن هذا الحليف التاريخي ما زال يقود المعارضة!

تلك المعارضة التي ساهم الإخوان في قمعها باعترافهم في حملة تبادل المن والجمائل التي بدأت منذ عام 1997، وتواطؤوا على سوقها -بمن فيهم نوابها الذين شكلوا غالبية مجلس النواب في انتخابات عام 1956- إلى معتقل الجفر الصحراوي عام 1957.

والمفارقة أن هذا هو المعتقل الذي استصلح الآن باعتبار حاجتنا المتنامية للمعتقلات، وسيق إليه نواب الإخوان الأربعة!

ففي خضم الحرب البشعة التي تشنها قوات الاحتلال الصهيوني على غزة والضفة ثم على لبنان بأكمله، ظلت القوى الوطنية تجابه برفض الحكومة المتكرر السماح لها بأي نشاط ولو مجرد اعتصام أو مسيرة.

"
ما جرى في لبنان له تبعات وفواتير لابد أن تسدد، وبغض النظر عن أي مشروع أو مشاريع سياسية ستولد من هذا المخاض ولمن سينتسب المولود، فإن الشعوب هي وحدها القابلة والحاضنة الحقيقية التي تضمن سلامة وحياة المولود
"

ولكن في يوم الجمعة 7 يوليو/تموز نجد أن مهرجانا خطابيا للحركة الإسلامية ينتهي بصدامات محدودة أمام مسجد الجامعة الأردنية (والجامعات نقطة حساسة عند الدوائر الأمنية, والمفترض أن الإسلاميين باتوا كذلك).. بينما مفتاح الخبر يقول: "محافظ العاصمة يرفض ترخيص مسيرة لأحزاب المعارضة"!

وتعود الحكومة لتصرح للجنة تنسيق أحزاب المعارضة بإقامة مهرجان تضامني مع أهالي لبنان وغزة في ساحة عامة بجبل النزهة يوم الجمعة 14 يوليو/تموز.. والنزهة منطقة شعبية تقطنها أكثرية من أصول فلسطينية ومنطقة نفوذ للإسلاميين.

وحين تصل الأحزاب هناك تفاجأ بأن اليافطات المعلقة في الساحة وعلى المنبر الخطابي كلها باسم جماعة الإخوان، وأن الخطابات كلها تقريبا لهم، بل ومنع الهتاف بشعارات غيرهم!! وسكتت الأحزاب كي لا تبدو مشرذمة, رغم اتفاقها.. باستثناء الإخوان!

وفيما يخص الجمعة التالية أي يوم 21 يوليو/تموز، تنشر صحيفة الرأي الرسمية ذاتها يومي الأربعاء والخميس على التوالي, إعلانا للنقابات المهنية عن إقامة صلاة الغائب على أرواح شهداء لبنان وغزة داخل مجمع النقابات.

والنشاط داخل المجمع لا يحتاج إلى تصريح رسمي حسب قانون النقابات، وقد تمت إقامة صلاة الغائب فيه مرارا من قبل.

ثم يفاجأ الحضور بمحاصرة رجال الأمن لكافة المنافذ المؤدية إلى المجمع ومنع الجماهير من الوصول إليه بالقوة، بل وتوجيه الحضور إلى الجامع الحسيني في وسط العاصمة، حيث ستنطلق لذات الغرض مسيرة قامت الداخلية بترخيصها لجبهة العمل الإسلامي أواخر ساعات الدوام الرسمي يوم الخميس!

هذا مع أن وسط البلد حيث الجامع, منطقة شعبية مزدحمة جدا كانت الحكومة ترفض إعطاءنا التصريح لبدء مسيرة منها لتخوفات أمنية تبديها، وتقترح بدائل لجوامع أو أمكنة أخرى في الضواحي.. بينما مجمع النقابات المهنية يقع في منطقة الشميساني الفارهة, الهادئة جدا أيام الجمعة!

نعرف أن لما جرى في لبنان تبعات وفواتير لا بد أن تسدد، وبغض النظر عن أي مشروع أو مشاريع سياسية ستولد من هذا "المخاض" ولمن سينتسب المولود، فإن الشعوب هي وحدها القابلة والحاضنة الحقيقية التي تضمن سلامة وحياة المولود.

وأصحاب المشاريع وآباء المواليد الشرعية وغير الشرعية يحتاجون إلى حد أدنى من رضى الشعوب, ومن يمثل الشعوب.

فهل هذا هروب إلى الأمام بترميم جثة معارضة بدأت مدجنة ثم جرى حرقها علنا على امتداد أكثر من شهرين, لتحاشي الاعتراف بأن "المعارضة المشروعة" فعلا الممثل الحقيقي للشعوب، هي غير هذا الذي جرى زعمه وترويجه لعقود؟

وأين يمكن ترويج مثل هذا البعث؟ لدى الشعب الذي يعرف أكثر مما تعرف الحكومة وأجهزتها الأمنية, ولهذا يجري بث العيون بين صفوفه واعتقال واستجواب الناس؟ أم لدى أميركا وأوروبا, بعد أن "دفنوه سواء"؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.