ذاكرتنا العجيبة

إيقاف العادات السيئة في الدماغ - حسب هؤلاء الباحثين فإن ما يعنيه هذا الاكتشاف أنه بالإمكان كسر العادات القديمة لكن لا يمكن نسيانها.
تمر بالإنسان العديد من الذكريات، يحفظ منها الدماغ ما يراد حفظه ويمسح الباقي (دويتشه فيله)

فداء ياسر الجندي

لو سألت أحد عشاق الكرة أن يصف لك أجمل هدف شاهده، فمن المحتمل أن يقول لك: هو ذاك الذي أحرزه مارادونا في مرمى إنجلترا، حين استلم الكرة من منتصف الملعب، فاخترق بها خطوط الإنجليز كلها، يروغ من هذا، ويخادع ذاك، ويرسل الثالث يميناً والرابع يساراً، ثم يتلاعب بحارس المرمى فيلقيه أرضاً ويضع الكرة في شباكه بسهولة ويسر.

سيروي لك صاحبك ذلك وكأنه يراه، ولكن مهلا، هل معنى هذا أن الدماغ يحفظ كل ما تقع عليه الحواس؟
الجواب: نعم، ثم لا. 

نعم.. لأنه ما كان ليتذكر الهدف لو لم تمر أحداث المباراة كلها على ذاكرته، ولا.. لأنه لن يستطيع أن يروي أحداث دقائق المباراة التسعين كلها، بل سيروي لك ما تميز من أحداثها، مثل الأهداف والفرص الضائعة والأخطاء التحكيمية.

كيف يحفظ دماغنا الذكريات؟ ولماذا يذكر بعض الأحداث ولا يذكر بعضها الآخر؟ وماذا يقول العلم عن ذاكرة الإنسان، عن قدرتها التخزينية، وكفاءتها في استدعاء المعلومات، وتعدد أنواعها، وطريقة تواصلها مع حواس الإنسان من جهة، ومع تفكيره ومراكز إدراكه من جهة أخرى؟ 

حتى أمدٍ قريب، كان اعتقاد العلماء أن ذاكرتنا تشبه خزانة ملفات، تحتوي رفوفها على ملفات الذكريات المختلفة، من صور ومقاطع فيديو ونصوص وغيرها، بطريقة تشبه ما يقوم به الحاسوب عند حفظ الملفات. ولكن مع تقدم العلم، تبيّن لهم أن ما يحدث في الدماغ لتخزين الذاكرة بعيد كل البعد عن هذا التصور، ومعقد بشكل مذهل ما زالوا عاجزين عن حل الكثير من ألغازه.

يمر إنشاء الذكريات واستدعاؤها بمراحل عديدة تبدأ بتلقي المعلومات، ثم تشفيرها وتخزينها مؤقتاً، ثم تحليلها واختيار ما يراد حفظه منها، ثم حفظ ما تم اختياره ومسح الباقي، ثم تخزين ما تم اختياره في الذاكرة الدائمة، ثم استدعاء ما تم حفظه وقت الحاجة، وإعادة نشره عن طريق الحواس

باختصار شديد، يمر إنشاء الذكريات واستدعاؤها بمراحل عديدة تبدأ بتلقي المعلومات، ثم تشفيرها وتخزينها مؤقتاً، ثم تحليلها واختيار ما يراد حفظه منها، ثم حفظ ما تم اختياره ومسح الباقي، ثم تخزين ما تم اختياره في الذاكرة الدائمة، ثم استدعاء ما تم حفظه وقت الحاجة وإعادة نشره عن طريق الحواس. وهاكم تفصيل ما أجملنا.

ونبدأ من الحواس، عندما عاش صاحبنا حادثة إحراز الهدف، التقطت عيناه الصور، أي الأمواج الضوئية  التي وصلت إليها، ونقلتها الشبكية عبر العصب البصري إلى مركز الإبصار في الدماغ بعد تحويلها إلى نبضات كهروكيميائية، فتلقاها الفص القفوي من قشرة الدماغ، الموجود في مؤخرة الرأس، وهو  مركز الإبصار، ليحولها من جديد إلى صور، ويخزنها بعد أن يشفّرها، أي يحوّلها إلى صيغة قابلة للتخزين.

وكما التقطت العين الصور، تلتقط الأذن الصوت، والأنف الرائحة، والجلد الملمس، والفم الطعم.. كل منها يلتقط المعلومات الخاصة به بصيغة مختلفة، ويشفرها أيضاً بصيغة مختلفة، ويحفظها في مكان مختلف، فالأمواج الصوتية مثلاً تختلف عن الضوئية من حيث طبيعتها، وطريقة نقلها، وصيغة تشفيرها، ومكان حفظها في الدماغ هو الفص الصدغي.

ثم يكون على الدماغ أن يقرر فوراً: هل يحتفظ بوقائع تلك الحادثة أم لا؟ يحدث هذا بطريقة مدهشة، وبطلها عضو  بحجم الإبهام يسمى "الحصين" (hippocampus) هو المتحكم بذاكرة الإنسان، فهو يقوم فور التخزين الأولي لأجزاء الحدث في أماكنها المحددة المتفرقة من الدماغ، باستدعائها وإعادة تجميعها، ثم يقوم باتصالات ومشاورات مع الفص الجبهي من قشرة الدماغ، المتخصص في اتخاذ القرارات، ويقومان معاً بتحليل وقائع تلك الذكرى بطرق وآليات ما زالت مجهولة، ليقررا معاً إن كانت جديرة بالحفظ أم لا.

وهذه الجدارة قد يتم تحديدها لأنها مميزة لفتت انتباه صاحبها، أو لأنها مرتبطة بذكرى أخرى مخزنة سابقاً، أو لأنها حركت في صاحبها شعوراً مميزاً، مثل أن يمر المغترب بمكان يشبه وطنه الأصلي، أو لأنه أعادها وكررها مراراً ليحفظها، أو غير ذلك من الأسباب، فإن كانت جديرة بالحفظ، يعطي "الحصين" أوامره إلى الأجزاء المختلفة من الدماغ التي سبق أن أرسلت له جزئيات تلك الذكرى، أن لا تمسحوها واحتفظوا بها على أنها ذكرى دائمة أو طويلة الأمد، فتقول له سمعاً وطاعة، وإلا فتمحى من الذاكرة تماماً.

وهكذا فإن كل ذكرى يحتفظ بها دماغنا تكون مخزونة على شكل أجزاء متفرقة، في أماكن مختلفة وبصيغ مختلفة، وليس كما يخزن الحاسوب مشهد فيديو في ملف واحد ومكان واحد. كما أن دماغنا يخزن أيضاً ما لا يستطيع الحاسوب -ولا نحسب أنه سيستطيع يوماً- أن يخزنه، مثل الروائح والمذاقات، وشعور الحماسة والفرحة التي صاحبت إحراز ذاك الهدف (لمن يشجع فريق الأرجنتين)، وشعور الخيبة والأسف (لمن يشجع فريق إنجلترا)، وكل ما يتعلق بأي ذكرى من عواطف وأحاسيس وانفعالات، لتكون جاهزة للاستدعاء بكل تفاصيلها وقت الطلب.

يحتوي دماغ الإنسان أكثر من مئة مليار خلية عصبية، وكل خلية تتفرع عنها فروع دقيقة جداً تسمى النهايات العصبية، يتراوح عددها ما بين ألف إلى عشرة آلاف لكل خلية، تتصل بمثيلاتها في الخلايا المجاورة

ما الوسط الذي يحفظ تلك الذكريات؟
يحتوي دماغ الإنسان أكثر من مئة مليار خلية عصبية، وكل خلية تتفرع عنها فروع دقيقة جداً تسمى "النهايات العصبية"، يتراوح عددها ما بين ألف إلى عشرة آلاف لكل خلية، تتصل بمثيلاتها في الخلايا المجاورة، مكوِّنة عددا يقدر بتريليونات التريليونات من الوصلات العصبية بين الخلايا الدماغية، تشكل عدداً لا يكاد يحصى من الدوائر الكهروكيميائية، أي التي تتواصل بطريقة تجمع بين الكيمياء والكهرباء، وهذه الوصلات والدوائر هي التي تنقل الإشارات والأوامر بين الخلايا الدماغية، ثم بينها وبين أعضاء جسم الإنسان الأخرى، وهي التي يتم فيها حفظ الذكريات، حسب آخر ما توصل إليه العلماء.

كيف تستدعى الذكريات من أماكن حفظها المختلفة؟
تلك عملية بيولوجية معقدة ما زال العلماء مندهشين من دقتها وروعتها، ويسعون جاهدين لكشف أسرارها. ومما يعرفونه عنها، أنه عندما يحدث ما يتطلب استدعاءها، مثل سؤالنا لصاحبنا عن أجمل هدف، يحدث أمر مدهش مذهل عجيب، إذ يحفّز الدماغ الخلايا العصبية والنهايات العصبية التي تحتوي على أجزاء تلك الذكرى، فترسل كل خلية ونهاية عصبية ما خزنته من تلك الأجزاء، بين تريليونات التريليونات من الوصلات العصبية، وبتزامن معجز خارق، وبسرعة أبطأ منها لمحُ البصر، إلى وحدة التحكم المركزية "الحصين" ليعيد تركيبها معا من جديد، كما التقطتها الحواس أول مرة، ذاكرة متكاملة من صوت وصورة وغير ذلك من العناصر، ثم يرسل الأوامر إلى الأعضاء المناسبة حتى تعيد "بثها" أو "إرسالها".. وفي حالة هدف مارادونا، يتم البث عن طريق إعادة رواية قصته بواسطة صاحبنا عاشق الكرة.

الجدير بالذكر أن من فوائد حفظ الذكريات في أماكن متفرقة، عدم ضياعها كلها إن أصيب مكان ما من الدماغ، فإن أصاب مرض ما الفصَّ الصدغي حيث يتم خزن الأصوات، تبقى صور الذكريات محفوظة في الدماغ لأنها في مكان آخر، أما إن أصيب الحصين نفسه فيصبح صاحب الإصابة عاجزاً عن حفظ أي ذكريات جديدة، وهذا هو مرض ألزهايمر.

ما حجم الذكريات التي يستطيع الدماغ تخزينها؟
كلما أوغل العلماء في دراسة الذاكرة البشرية وطريقة عملها، اكتشفوا مدى روعة نظامها، وتعقيد عملها، وحجم تخزينها. وآخر تقديراتهم تقول إن حجم الذاكرة البشرية قد يصل إلى 2500 تيرابايت، أي ما يكفي لتخزين ثلاثة ملايين ساعة بث تلفزيوني، يحتاج عرضها إلى 340 سنة، وهذا يعني أن  إنسانا يعيش 100 سنة لو أمكنه حفظ ذكريات كل لحظة مرت عليه في حياته فسيستهلك أقل من ثلث مساحة الذاكرة المتاحة في دماغه.

هذه ومضات سريعة حول عجائب الذاكرة البشرية، متّعنا الله وإياكم بما وهبنا منها، وأدامها علينا وعليكم حتى نلقاه وهو راض عنا.
___________________
* كاتب وباحث ومترجم سوري في تقنية المعلومات.

المصدر : الجزيرة