الجانب المظلم من الفيزياء

GENEVA, SWITZERLAND - NOVEMBER 19: A maintenance worker inspects the Large Hadron Collider (LHC) tunnel in the CERN (European Organization For Nuclear Research) research center on November 19, 2013 in Geneva, Switzerland. The CERNs particle accelerator has been powered down for a series of upgrades and according to reports could be reopened in 2014.
مُصادِم الهدرون الكبير قرب مدينة جنيف يعدّ واحدا من أضخم المشاريع العلمية وأكثرها تعقيدا (غيتي)

ماريا سبيروبولو*

قبل قرابة قرن من الزمن، اكتشف العلماء أول مجرة غير مجرتنا، وبعد عشر سنوات اقترح علماء لأول مرة نظرية مفادها أن الكون آخذ في الاتساع. ومنذ ذلك الوقت، أسهمت تطورات تقنية مذهلة في إحداث تقدم ثوري في الفيزياء والفلك وعلم الكونيات وعلوم الحياة.

واليوم تقف الفيزياء عند عتبة جديدة تماما، ففي 4 يوليو/تموز 2012 شهد مجتمع الفيزياء الدولي اكتشافاً عظيم الأهمية في تاريخ فيزياء الطاقة العالية: أو بوزون هيغز (جسيم هيغز).

يُعَدّ بوزون هيغز الذي ظل وجوده لفترة طويلة مجرد افتراض، العنصر الضروري الذي يثبت مصداقية النموذج العياري للجسيمات الأولية باعتباره "مخططاً أولياً" للكون الحقيقي، فهو الذي يعطي هذه الجسيمات كتلتها، وبدونه يصبح العالم المادي -كما نفهمه- بلا ذرات أو كيمياء أو حياة.

من المرجح الآن أن توجِّه البحوث التي أجريت في مصادم الهدرون الكبير بسويسرا، فهمَنا للكون من أصغر الجسيمات الأولية إلى دراستنا في علم الكونيات

مشروع ضخم
وقد تطلب التوصل إلى هذا الاكتشاف الذي كان حتى ذلك الوقت مجرد تكهن نظري، الاستعانة بواحد من أضخم المشاريع العلمية وأكثرها تعقيداً على الإطلاق.

إننا نتحدث عن إنشاء مُعَجِّل الجسيمات أو مُصادِم الهدرون الكبير قرب مدينة جنيف. ومن المرجح الآن أن توجِّه البحوث التي أجريت في هذا المُصادم فهمنا للكون من أصغر الجسيمات الأولية إلى دراستنا في عِلم الكونيات.

وبين عامي 2010 و2012، أنتج المُصادم محاولات مصادَمة البروتون بالبروتون الأعلى طاقة على الإطلاق، ومن المنتظر أن ينتج مصادمات أعلى طاقة عام 2015.

وتوقع علماء الفيزياء لفترة طويلة أن يكشف مصادم الهدرون الكبير عن قطاع جديد من الجسيمات والحقول المرتبطة "بالانكسار المتناظر الكهرو ضعيف" ومادة الكون المظلمة.

وارتكز هذا التوقع على ملاحظتين تجريبيتين كبريين:

الأولى كانت التكتلات من بوزونات دبليو وزد، وهي رُسُل التفاعلات النووية الضعيفة المسؤولة على سبيل المثال عن الشمس المشرقة، بينما تمثلت الثانية في مجموعة كبيرة من الملاحظات الفيزيائية الفلكية التي تشير إلى ضرورة وجود "سقالات" الجاذبية في الكون، وهي المادة المظلمة اللازمة لمنع النجوم والمجرات من التباعد.

ورغم أن اكتشاف بوزونات هيغز ربما يساعدنا في فهم مصدر كتلة الجسيمات الأولية (بما في ذلك كتلتها ذاتها)، فقد فاجأتنا الطبيعة من ناحيتين:

أولا- سنجد أن كتلة بوزون هيغز القابلة للقياس تجعل النظرية بالكامل "متبدلة الاستقرار" في غياب أي ظواهر فيزيائية جديدة، وربما يكون للكون هيئة أخرى أكثر ملاءمة على مستوى الطاقة النشطة.

ثانيا- يبدو أن بيانات مصادم الهدرون الكبير لا تَدعم -وإن كانت لا تستبعد- الظاهرة الفيزيائية الجديدة (التناظر الفائق) الأكثر إرضاءً من الناحيتين الجمالية والرياضية، وهي ظاهرة خضعت للتنظير جنباً إلى جنب مع بوزون هيغز قبل اكتشافه الفعلي.

هناك برنامج تجريبي نظري منسق في مجالات فيزياء الجسيمات وعلم الكونيات والفيزياء الفلكية وفيزياء الجاذبية لاكتشاف مرشَّح لجسيم المادة المظلمة في العقد المقبل

مادة الكون المظلمة
والآن تُصاغ أفكار جديدة حول بوزون هيغز ذاته، وهو ما من شأنه أن يفتح بوابة مباشرة إلى مادة الكون المظلمة.

وقد تبلور برنامج تجريبي نظري منسق في مجالات فيزياء الجسيمات وعلم الكونيات والفيزياء الفلكية وفيزياء الجاذبية لاكتشاف مرشَّح لجسيم المادة المظلمة في العقد المقبل أو ما إلى ذلك.

وما بات على المحك الآن هو تلك النماذج التي صمدت طيلة الـ76 الماضية ودعمتها مؤخراً القياسات المذهلة للكون.

قد يرى البعض عالم الفيزياء هذا بوصفه أزمة، ولكن من الشائع تماماً أن تفتقر نظرية ما إلى الدعم التجريبي، وكل البحوث التي تتناول الكون والعالم المادي بالدراسة تناضل من أجل التوصل إلى فهم كامل.

وبهذا المعنى فإننا نعيش أزمة أبدية وأصبحنا على أعتاب اكتشاف جديد، وقد يكون الوصف الأكثر عدالة للفيزياء الآن هو أنها أصبحت عند نقطة تحول أو مفترق طرق.

إن الفيزياء توفر الإطار الأساسي المتطور الذي يُبنى عليه غيرها من حقول العلم، والآن في ظل الترسانة التقنية والوفرة من البيانات المتاحة، بات بوسع العلم أن يذهب إلى ما هو أبعد من أي توقع أو تخمين سابق.

والواقع أن كل شيء في العقود المقبلة سيكون عُرضة لمراجعة كبرى، مع نشوء أفرع جديدة متقابلة ومواضيع غير منضبطة للدراسة.

والآن تَظهر فِرَق الهندسة الكمية بالفعل في المعاهد الأكاديمية والبحثية في مختلف أنحاء العالم. والواقع أن الدمج بين علوم الحاسوب والهندسة وبين علم الأعصاب أسفر بالفعل عن نتائج كانت قبل وقت ليس ببعيد لا تنتمي إلا إلى الخيال العلمي.

إن الطبيعة قد تبدو معقدة وعشوائية ومخادعة، وقد تبدو لنا بسيطة ومتساوقة وجميلة، وفي كل الأحوال سيستمر الكون الكمي في مفاجأتنا وإدهاشنا.
_______________
* أستاذة الفيزياء في معهد كاليفورنيا للتقنية (كالتيك)

المصدر : بروجيكت سينديكيت