"بيت ستي".. مطعم يعبق تاريخا في غزة
محمد عمران-غزة
وتظهر ملامح المطعم الأثرية من مدخله، فبابه مبني محيطه من أحجار قديمة بارتفاع منخفض مقوس أعلاه، يتبعه دهليز صغير معتم إلا من إضاءة فانوس أضيف إليه مؤخرا، وصولا إلى أرض الديار، وهي فناء غير مسقوف وسط المنزل مزروع فيه بعض أشجار الزينة والنباتات المتسلقة على الجدران.
وتتزين أرض الديار ببحرة ثمانية الشكل وسطها نافورة ماء متدفق، وتتوزع حولها طاولات نحاسية بمقاعد خشبية خصصت لمرتادي المطعم، وليس بعيدا بئر تجميع مياه الأمطار تقابله "المزيرة" وهي حفرة بالجدران لتخزين المياه.
وتشرف أرض الديار على قاعات المطعم الثماني بالطابقين الأرضي والأول، ومكوناته المكتظة بمعالم العمارة العثمانية المتأثرة بالطراز المملوكي، خصوصا الإيوان المقوس السقف المغلق الجدران من ثلاث جوانب، بينما الجهة الشمالية مفتوحة بالكامل وتطل على الفناء عبر عمودين.
وتتميز جلسة الإيوان بمقاعد ثابتة فرشت ببسط تقليدية، وأنيرت ببعض المصابيح الباعثة على الهدوء والسكينة، ومن نافذتها الشرقية تطل على قاعة أصغر مقوسة السقف والجدران، استخدم تجويف حوائها المسمى باليوك كأرفف لتوزيع الكتب التاريخية، بدلا من استخدامها التقليدي قديما لترتيب الأغطية والفرش وبعض المستلزمات.
وعلى ذات المنوال من المظاهر الأثرية نسجت خيوط هذا المطعم، كالغرفة الوسطانية والعلّية (الطابق الأول) المرتبطة بـ "سلملك" (درج داخلي) إضافة للنوافذ المستطيلة ذات الأعمدة الحديدية المتقاطعة، والجدران الخشنة البارزة حدود حجارتها جراء استخدام مادة "الكحلة" الأقرب للصفرة.
وبالتوازي مع ملامح عظمة العمارة الإسلامية المنبعثة من مكونات المطعم الإنشائية، فإن محتوياته الأخرى يفوح منها عبق التاريخ، كالسرج والتماثيل والنحاسيات والخشبيات والفخاريات وغيرها.
ووسط هذه الأجواء الجامعة بين الطابعين الأثري والتراثي، يستقبل صاحب المطعم عاطف سلامة مهنئيه وزبائنه بحفاوة كبيرة، وهو يستشعر عظم الإنجاز المتحقق بالحفاظ على معلم تاريخي فلسطيني من العبث والاندثار، كجزء من معركة المواجهة مع الاحتلال، وفق وصفه.
ويعكس الجهد الكبير المبذول على مدار ستة أشهر والتكاليف المالية المدفوعة لإبراز المكان بهذا الرونق، رغبة صاحب المطعم -كما تحدث إلى الجزيرة نت– في تدشين أول محاولة جدية للسياحة بالبيوت الأثرية، رغم تأثر نجاح الفكرة من الناحية الاستثمارية بالأوضاع الاقتصادية المتردية بغزة.
وبينما يبدي المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض إعجابه بالتجربة الباعثة على التفاؤل باعتبارها فرصة استثمارية تحمل أبعادا وطنية بالحفاظ على الموروث الحضاري لـ فلسطين، يدعو إلى إنقاذ البيوت والتكايا والأسبلة والزوايا القديمة من الاندثار، خصوصا في ظل حالة العمران المتصاعدة القائمة على أنقاض مرافق أثرية.
ويركز المبيض بحديثه للجزيرة نت على ضرورة تحقيق مواءمة أكبر بين المكونات الأساسية للبيت الأثري وبين الإضافات الجديدة، بطريقة تظهر المكان بحالة انسجام كامل بكافة مرافقه من دون طغيان للمؤثرات العصرية على عراقة المكونات وأصالتها.
وتبرز حالة الانسجام هذه بتفاصيل كثيرة بالمطعم، فجرس طلب الخدمة يعمل بتحريكه يدويا، وتغطى المقاعد والطاولات بفرش قماش مفرغ لونها أقرب لصفرة الحجارة القديمة، بينما تزيد الأبواب الخشبية بشرائح طولية والمنقوشات والمعلقات الجدارية من أجواء القدم والتراث بالمكان.
وبينما تنفض ملابس العاملين بالمطعم الغبار عن الموروث التقليدي للزي الفلسطيني، حيث السروال والقايش المخيط من ألوان الكوفية والقميص والطاقية ونصف القمباز، يكتمل جزء آخر من المشهد الأثري، عبر شكل قائمة المأكولات والمشروبات المطبوعة على قطعة جلد بنية اللون ملفوفة بخيط يوحي بالقدم.
وتكتمل ملامح المكان بطبيعة المأكولات المقدمة، حيث طبق المسخن الفلسطيني والمخبوزات التقليدية، إضافة لبعض المقبلات والصفيحة الشامية المعدة من قبل الشيف السوري القادم لغزة منذ ثلاثة أعوام وريث قاسم.
ولأن غزة محرومة من مطعم بمكان يحمل مواصفات أثرية، فإن الشيف يتوقع -بحديثه للجزيرة نت- أن يحظى المطعم بالنجاح وقبول الجمهور الفلسطيني، إذا ما أضيفت إليه بعض الجماليات كفرقة تخت شرقي أو عزف بالعود ونحوها وفق تقديره.
ويزدان رونق أول مطعم بطابع أثري في القطاع، من خلال طريقة إعداد وتقديم بعض المشروبات، مثل القهوة المعدة على الفحم أو الرمل الساخن والمقدمة بفنجان فخاري لأول مرة بغزة، وهو ما لفت انتباه بعض الزبائن كالفلسطينية منى حلس.
وعلى أنغام أغنية فيروز "ستي يا ستي" جلست منى تحتسي فنجان قهوتها السادة ومعالم الإعجاب تظهر على محياها، وهي تستمع كغيرها بقضاء وقت هادئ بمكان يشع تاريخا وتراثا وفق قولها للجزيرة نت.