بعد استفتاء الدستور التونسي.. ما دور الأحزاب للصمود أمام فرض سياسة الأمر الواقع للرئيس قيس سعيد؟

جانب من إقبال التونسيين على عملية الاستفتاء/مركز اقتراع/قرب العاصمة تونس/يوليو/تموز 2022 (خاصة)
جانب من عملية الاقتراع في أحد المراكز قرب العاصمة تونس (الجزيرة نت)

تونس- يستخلص مراقبون من قراءة نتائج الاستفتاء حول مشروع الدستور في تونس وجود ارتفاع كبير في حجم المقاطعة، فأغلب الجسم الانتخابي عزف عن المشاركة في الاقتراع، مرجعين ذلك إلى وجود قطيعة مع الأحزاب السياسية "لخذلانها لهم بعد الثورة".

وبعد تركيز الرئيس قيس سعيد السلطة في قبضته قبل عام بموجب الإجراءات الاستثنائية، تظهر تطورات المشهد السياسي تراجعا لافتا في تأثير الأحزاب السياسية على المشهد، رغم تحركاتها المناوئة للرئيس، مقابل بروز حركية أكبر في نشاط منظمات المجتمع المدني المدافعة عن الديمقراطية.

وشارك في الاقتراع على مشروع الدستور، الذي ألغى به الرئيس النظام البرلماني وكرّس بموجبه نظاما رئاسيا واسع الصلاحيات، نحو 30% من إجمالي أكثر من 9 ملايين ناخب، أي أن زهاء 6 ملايين ونصف مليون ناخب رفضوا المشاركة، إما عزوفا منهم أو مقاطعة.

ويؤكد سياسيون أن اكتساح التصويت بنعم على الدستور بنسبة 94% هو من باب التصويت العقابي ضد منظومة الأحزاب التي "فشلت في الحكم" على امتداد السنوات العشر الماضية، بينما يرى آخرون أن ضعف المشاركة بالاستفتاء لا يعني فقط القطيعة مع الأحزاب وإنما مع الرئيس.

جانب من الاحتجاجات بالعاصمة تونس ضد مشروع الدستور الجديد - شارع الحبيب بورقيبة - العاصمة تونس - يوليو/تموز 2022
احتجاجات بالعاصمة تونس ضد مشروع الدستور الجديد قبل عدة أيام (الجزيرة نت)

أحزاب من زمن غابر

من ناحيته، يقول الناشط السياسي حاتم المليكي للجزيرة نت إن عدم مواكبة الأحزاب السياسية لتطورات الواقع المعيشي للمواطنين وأولويات مطالبهم كان الأصل في بروز القطيعة مع الأحزاب، مقابل احتفاظ منظمات المجتمع المدني بصورة أفضل لدى الرأي العام بفضل خدماتها المقدمة.

المليكي يوضح أن سقوط النظام السابق إبان ثورة 2011 نفض الغبار عن الحركات السياسية الكبرى التي كانت تنشط قبل صعود الرئيس السابق زين العابدين بن علي للسلطة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، حيث بدأ يركز آنذاك أُسس حكم استبدادي قوّض به التعددية الحزبية.

وانتمت العائلات السياسية الكبرى التي نشطت في الجامعة التونسية قبل صعود الدكتاتورية من تيارات أيديولوجية عدة على غرار العائلة اليسارية والعائلة الدستورية والحركة القومية والعائلة السياسية الإسلامية التي تركز نشاطها في المهجر هربا من الملاحقات الأمنية بعد 1987، وفقا للمليكي.

ويضيف الناشط أن سقوط النظام السابق أزاح الستار عن تلك العائلات القديمة، فظهرت بعد الثورة "خارج زمانها في واقع لم تعرفه من قبل"، ثم استعادت نشاطها لكن بعقلية وتوجهات الثمانينيات ولم تتحول لحركات سياسية عصرية، بل ركزت فقط على كسب الأصوات للاستئثار بالسلطة.

لكن المليكي يلاحظ في المقابل بروز حركية أكبر في نشاط منظمات المجتمع المدني بفضل الصورة الإيجابية التي علقت بأذهان الناس، باعتبارها تدافع عن القيم الإنسانية والحقوق والحريات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين بقطع النظر عمن يحكم.

جانب من إقبال التونسيين على عملية الاستفتاء/مركز اقتراع/قرب العاصمة تونس/يوليو/تموز 2022 (خاصة)
مشاركة ضعيفة في عملية الاستفتاء (الجزيرة نت)

قطيعة شملت الرئيس

من جانبه، يقرّ محمد العربي الجلاصي القيادي بحزب التيار الديمقراطي المقاطع للاستفتاء بوجود "هوّة بينة" بين التونسيين والأحزاب السياسية، لكنه يرى أن مقاطعة أكثر من نصف الجسم الانتخابي للاستفتاء هو مقاطعة للأحزاب وللرئيس قيس سعيد وللحياة السياسية بأكملها.

الجلاصي يقول للجزيرة نت إن ما يمكن استنتاجه من قراءة أرقام المشاركة في الاستفتاء أن الأحزاب السياسية ورئيس الجمهورية بعيدان كل البعد عن واقع التونسيين، مشيرا إلى أن المسار الحقيقي هو النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وليست كتابة دستور "محشو بالأخطاء".

وبالنسبة إليه كلما ابتعدت الأحزاب عن دورها الأصلي في تقديم الحلول الاقتصادية والاجتماعية خفت موازين تأثيرها وازدادت نفورا، مرجعا تعمق القطيعة مع الأحزاب إلى ابتعادها عن أهدافها الرامية لإصلاح الأوضاع وفشلها في إيجاد حلول للفقر والبطالة والانقطاع عن التعليم.

ولدى سؤاله عما إذا كانت سياسة الأمر الواقع للرئيس سعيد ستزيد في إضعاف دور الأحزاب وأفولها، يقول إن ما أقدم عليه الرئيس التونسي منذ العام الماضي يمثل فرصة حقيقية للأحزاب لتصحيح مسارها وتحديث أساليبها وبرامجها لتستجيب لواقع التونسيين وتسترجع دورها.

الأمين العام لحزب التيار الشعبي زهير حمدي/العاصمة تونس/ديسمبر/كانون الأول 2019
زهير حمدي: التصويت لصالح مشروع الرئيس كان عقابا للطبقة السياسية التي لم تحقق أية وعود (الجزيرة)

تصويت عقابي ضد الأحزاب

من جهته، يقول الأمين العام لحزب التيار الشعبي زهير حمدي، الداعم لمسار الرئيس، إن تونس تعيش في خضم هذه التحولات مفارقة تتمثل في وجود قطيعة تامة بين التونسيين والنخبة السياسية التقليدية التي خربت البلاد وتورطت في الفساد والتهريب والإرهاب وإفقار التونسيين، كما يرى.

بالنسبة إلى حمدي لم تكن نتائج التصويت بنعم لفائدة مشروع الدستور الجديد مفاجئة له، بالنظر إلى حالة الازدراء التي تواجهها النخبة السياسية، مؤكدا أن التصويت لصالح مشروع الرئيس كان تصويتا عقابيا للطبقة السياسية التي حكمت البلاد بعد الثورة ولم تحقق أية وعود.

لكنه يرى بالمقابل أنه لا يزال للأحزاب السياسية بعد التغيرات التي أصابت المشهد السياسي دور لتحصين تصحيح المسار، معتبرا أن الأحزاب مكون رئيس من مكونات الديمقراطيات الحديثة منذ خلقت، وهي فاعل سياسي رئيسي في تأطير الشعوب والمجتمعات.

سقف الوعود

وفي نظر الباحث الاجتماعي محمد بريك، يمكن اختزال سبب نفور أكثر من نصف الجسم الإجمالي للناخبين من الحياة السياسية والأحزاب في بلوغهم حالة قصوى من الإحباط جراء تدهور معيشتهم بكل المستويات، واكتشافهم أن الوعود الانتخابية للأحزاب لم تكن سوى "أوهام متبخرة".

ويقول للجزيرة نت إن الخطأ الكبير الذي سقطت في فخه أغلب الأحزاب، سواء من الإسلام السياسي أو التيار اليساري أو غيره، هو ترفيعها في سقف الوعود الانتخابية، حيث ظهرت حملات انتخابية تدعي توظيف نحو نصف مليون تونسي في سنة واحدة، أو زيادة الأجر الشهري بضعفين.

وغذت حالة الاستقطاب الإيديولوجي بين الأحزاب وحالة التناحر والتشنج داخل البرلمان بين الفرقاء من حالة احتقار التونسيين لطبقة السياسة، في خضم تدهور أوضاعهم وعجز الحكومات المتعاقبة عن إدارة البلاد لضعف الكفاءة أو للتعطيلات المفتعلة، وفق رأي بريك.

وما يفسر تأييد جزء من الشعب للرئيس سعيد، الذي اتخذ في 25 يوليو/تموز الماضي تدابير استثنائية أطاح بها بالحكومة وجمد بها البرلمان وعزل المجلس الأعلى للقضاء، هو تعطش التونسيين إلى التغيير أملا فيما هو أفضل، إضافة إلى خشيتهم من الفراغ السياسي والذهاب للمجهول.

ويلاحظ الباحث أن الشارع التونسي أصبح ينفر دور الأحزاب المنحسر حاليا في الاستنكار والتنديد والاحتجاجات، بينما يمر الرئيس إلى السرعة القصوى، معتقدا أنه كان الأجدر على الأحزاب السياسية أن تقوم بنقد ذاتي لأدائها في المرحلة السابقة وتتهيأ للانتخابات القادمة.

أما عن دور منظمات وهيئات المجتمع المدني التي تشكلت حديثا وعقدت بتحالفات فيما بينها في خضم هذه التحولات، فيقول بريك إن المجتمع المدني سيبقى النواة الأساسية للمجتمع وفي الدفاع عن الحرية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية ومكافحة الفساد وغيرها.

ويرى بريك أن المجتمع المدني قادر على تقديم المقترحات والحلول ولعب دور كبير في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد، لكنه أشار في المقابل إلى ما تعانيه منظمات المجتمع المدني من نقص التمويلات وعدم القدرة على التحرك مقارنة بالأحزاب السياسية.

المصدر : الجزيرة