القوة الاقتصادية لا تكفي.. لماذا غيرت حرب روسيا على أوكرانيا ثوابت ألمانيا السياسية؟

Scholz addresses special German parliament meeting on Ukraine
المستشار الألماني أولاف شولتز أعلن من البرلمان تزويد أوكرانيا بالسلاح لصد الهجوم الروسي (رويترز)

نوفمبر/تشرين الثاني 2019، طالبت أنغريت كرامب كارينباور وزيرة الدفاع الألمانية السابقة -في حكومة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل- بأن يشارك الجيش الألماني في مهمات عسكرية خارج البلاد لحماية مصالحها الإستراتيجية، وعدم الوقوف على الهامش، مما دعا -حينها- ميركل إلى زيادة المخصصات المالية للجيش الألماني.

لكن التطورات السياسية والعسكرية التي وقعت بعد ذلك الاقتراح -ولاسيما الحرب الروسية على أوكرانيا والدعم العسكري المقدم من برلين لكييف- دفعت المسؤولين الألمان للعمل على إستراتيجية جديدة تختلف عما مضى، فقد أصبحت الظروف موجبة لتكون ألمانيا قوة عسكرية كبرى وليست قوة اقتصادية كبرى فحسب.

شكّل الهجوم الروسي على أوكرانيا لحظة فارقة ليس في تاريخ أوكرانيا وحدها، بل في تاريخ أوروبا كلها، وفي القلب منها ألمانيا؛ فقد فاجأت القرارات السيادية الألمانية العالم أجمع، حيث أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز في البرلمان الألماني (البوندستاغ) أن بلده سيعمل على تزويد أوكرانيا بالسلاح، وخاطب الرئيس الروسي باسمه بدون ألقاب، وتحدث عن المخاطر التي تحيق بالحرية والديمقراطية في أوكرانيا، وأن هذه الحرب تهدد الأمن الأوروبي عامة.

الخطوة الألمانية بتزويد أوكرانيا بالسلاح تعد خروجا عن المألوف في سياسة ألمانيا العسكرية ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنذ عام 1955، حيث سمح لها بتشكيل جيش لا يشارك بأعمال قتالية خارج ألمانيا، وطلب منها ألا تساهم في تزويد أطراف متصارعة بالسلاح في العالم.

فما الذي تغيّر في السياسة الألمانية؟ وهل سنشهد ولادة جديدة لألمانيا القوية عسكريا كما هي قوية اقتصاديا؟

السياسة الألمانية تغيرت

السياسي الألماني والبرلماني السابق جمال قارصللي قال -للجزيرة نت- إن ألمانيا وصلت لقناعة تامة بأن الحكومة الروسية "تكذب" على حدّ وصف وزيرة الخارجية الألمانية، وأضاف أن السياسة الألمانية تغيرت بالفعل، "ففي الوقت الذي ترفع ميزانيتها 300% وتقول علينا أن نجهز جيشنا أكبر ونستعد لكل الاحتمالات، نستطيع أن نقول إن المارد الألماني -بما يملكه من اقتصاد وتكنولوجيا وصناعات متطورة- قد انتفض، ويتزامن هذا مع وقوف الشعب الألماني خلف الحكومة".

وعن موقف ائتلاف الحكومة، قال قارصللي إن اللافت للنظر هو الرأي الموحد في تحالف الحكومة وتأييد حزب الخضر لتقوية ألمانيا عسكريا، وهو الحزب القادم من حركة السلام، فثمة شعور بالخطر حسب ما نبه لذلك المستشار الألماني شولتز في كلمته حين قال إن علينا أن نعمل على حماية حريتنا وديمقراطيتنا.

ويرى البرلماني السابق أن ثمة تسارعا في التسلح سيحدث، وقد يعارض زيادة الميزانية العسكرية حزب اليسار، وسبب ذلك أنه من بقايا الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية، أما بقية الأحزاب فإنها "ستؤيد زيادة الميزانية العسكرية، بما فيها الأحزاب التي كنا نطلق عليها الأحزاب المسالمة كالليبرالي والخضر والاشتراكي الديمقراطي".

الدعم الألماني تعبير عن السيادة

وعن انعكاس القرار الألماني بدعم أوكرانيا على الاقتصاد الألماني، قال خبير الاقتصاد السياسي عبد النبي عبد المطلب إن روسيا تعد الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 50 مليار دولار، طبقا لبيانات أولية عن التجارة الخارجية بين روسيا وألمانيا.

وتبلغ الخدمات المالية المتبادلة بين البلدين أضعاف هذا المبلغ، ولذلك فإن الموقف الألماني الداعم لأوكرانيا سوف يؤثر بشكل سلبى على الاقتصاد الألماني، وذلك لعدة أسباب منها: خسارة سوق كبيرة كالسوق الروسية، كما ستتأثر ألمانيا على مستوى الطاقة بتوقف الغاز، إذ تعتمد الصناعة الألمانية على الغاز الروسي الرخيص في توفير 50% من احتياجاتها للطاقة.

وأضاف عبد المطلب أن توقف خط "نورد ستريم2" سيحرم ألمانيا من أرباح كبيرة كانت ستحصل عليها نتيجة مرور الغاز الروسي في أراضيها، لكن القرار الألماني يعد تعبيرا عن السيادة الألمانية، وأن ثمة تغييرا كبيرا قد حصل في السياسة الألمانية الخارجية، ولا سيما في ما يخص الأمن الأوروبي.

وعن الأسباب التي دفعت ألمانيا لدعم أوكرانيا بالسلاح، رأى المحلل السياسي محمود الجاف أن توجه ألمانيا لدعم أوكرانيا، وإعادة بثّ الروح العسكرية الألمانية من جديد أمر طبيعي، نتيجة معرفة ألمانيا بـ"الإجرام الروسي"، وأن "أوكرانيا ليست سوى مرحلة مؤقتة وسيتبعها غزو دول أوروبية أخرى".

وأضاف الجاف -للجزيرة نت- أن ثمة مشكلات قديمة بين روسيا وألمانيا سواء ما فعلته القوات السوفياتية بعد احتلال برلين وما تركته من مآس عند الشعب الألماني، أو على المستوى الديني كما ألمح لذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وأشار إلى أن هذا يهدد الأمن الأوروبي ككل، وألمانيا دولة كبيرة في أوروبا وستشعر بخطر روسيا عليها إذا ما اجتاحت أوكرانيا، كما أن النظام في ألمانيا حليف للولايات المتحدة الأميركية وإذا كان لابدّ من أن تفاضل بين روسيا وأميركا ستختار أميركا في أي صراع محتمل بين واشنطن وموسكو.

الاعتماد على الذات

من جهته، يرى المحلل السياسي فواز تللو -في حديثه للجزيرة نت- أن هناك أمرين دفعا بالمستشار شولتز لاستخدام هذه اللغة في الخطاب، أولهما أن ألمانيا وصلت لقناعة أن أميركا -ولا سيما تحت حكم الديمقراطيين- لا يمكن الاعتماد عليها في حماية أوروبا، و"الأمر الثاني أن بوتين هو ’هتلر‘ اليوم ولا يمكن انتظار عدوانه بدون تغيير جذري في السياسة العسكرية الألمانية".

وأضاف تللو أن خطاب شولتز يشير إلى تغير إستراتيجي بدأ في ألمانيا سيحوّلها من سياسة دفاعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى رفع قدراتها وميزانيتها العسكريتين سواء بتطوير السلاح العسكري والسيبراني، مع ما يعنيه ذلك من زيادة حجم جيشها ودوره الخارجي، أو أن يكون ذلك ضمن سياسة أوروبية أكثر عمقا.

ويرى خبير القانون الدولي طارق شندب أن دعم ألمانيا أوكرانيا بالسلاح يتسق مع القانون الدولي الذي منع "غزو" البلاد بالقوة وأكد على حق الدول التي تتعرض للاعتداء والغزو بالدفاع عن نفسها، فضلا عن أن ما أسماه "الغزو" مخالف لمبادئ القانون الدولي ولم يتم تحت تفويض من مجلس الأمن، ويوجب ذلك وضع الدولة "الغازية" تحت الفصل السابع.

وأضاف شندب أن ألمانيا دولة كبيرة ويجب أن تكون لديها القوة الذاتية، التي تمنع أي عدوان يهدد الأمن الأوروبي، ولدى الألمان ذاكرة بشعة عن جرائم الروس في اجتياح برلين، لذلك فهم أعرف الناس بـ"العقلية الإجرامية لدى الجيش الروسي" كما يقول شندب.

المصدر : الجزيرة