جدل التراث والاختناق المروري.. جسور القاهرة التاريخية في خدمة العاصمة الجديدة

هدم مقابر تاريخية في مصر
هدم مقابر تاريخية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)

رغم تأكيدات السلطة في مصر اهتمامها بالحفاظ على القاهرة التاريخية، فإن الشهور الماضية شهدت تزايد غضب العديد من سكان العاصمة ومحبي التراث وهم يرون معاول السلطة لا تتردد في هدم المزيد من المناطق التاريخية وإزالة الحدائق لتحل محلها كتل خرسانية لجسور عملاقة.

تقول الحكومة المصرية إن الطرق والجسور الجديدة ضرورية لإنهاء الاختناق المروري، في حين يقول معارضون إنها تخدم الطريق إلى العاصمة الإدارية الجديدة التي يحتفي بها الرئيس عبد الفتاح السيسي ويعتبرها أحد أكبر إنجازاته، ويرون أنها لا تراعي التراث ولا تحافظ على المساحات الخضراء.

ووفقا لرئيس المجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري، فإن الحكومة تستهدف تطوير 7 مناطق في القاهرة التاريخية ضمن خطة يبدأ تنفيذها خلال أسابيع وتستمر على مدى 3 سنوات.

وترد الحكومة المصرية على المحتجين الذين تعالت أصواتهم في الأشهر الأخيرة بعد هدم عدد من المواقع التاريخية، بأنها ليست مواقع أثرية، أي ليست مسجلة رسميا لدى وزارة الآثار، رغم امتداد تاريخها لقرون.

وتعد القاهرة التاريخية من أهم وأكبر المدن التراثية في العالم، حيث تعتبر نموذجا فريدا للمعمار الإسلامي، وتجمع طرزا معمارية من عصور الأمويين والطولونيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، مما جعلها تسمى باسم "مدينة الألف مئذنة"، وتم إدراجها على قائمة التراث العالمي عام 1979.

مصر الجديدة تعاني

وفي مقابل معاناة القاهرة التاريخية من هدم مقابر ومبان أثرية، فإن العديد من أحياء العاصمة المصرية شهدت عمليات لإزالة مواقع تراثية وكذلك حدائق وأشجار، مما أثار غضبا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي.

وكان حي مصر الجديدة الراقي من أبرز النماذج على ذلك، حيث تفاجأ سكان الحي الذي يشتهر بكثرة الأشجار والمساحات الخضراء، بما يشبه حملة على الأشجار امتدت أيضا إلى حي مدينة مصر المجاور، وذلك بدعوى إقامة جسور وتوسيع طرق.

كما عبّر أهالي نصر الجديدة ومعهم بعض المهتمين بالتراث المصري عن غضبهم من خطط للحكومة المصرية لإنشاء جسر يمر قرب كنيسة البازيليك الأثرية، التي بناها البارون إدوارد إمبان ووضع حجر أساسها عام 1911.

وأصدر عضو مجلس النواب عن مصر الجديدة عمرو السنباطي بيانا الشهر الماضي، يؤكد أن مرور الكوبري (الجسر) قرب كنيسة البازيليك يمثل ضررا حضاريا كبيرا على المنطقة، رغم ثقته في أن الدولة لن تقوم بأي عمل يسبب ضررا للعمارات أو أمن وسلامة المواطنين، على حد وصفه.

وقبل ذلك، علّق المهندس المعماري الشهير ممدوح حمزة، معتبرا أن إقامة الجسور والطرق المفتوحة وإلغاء الحدائق وإعدام الأشجار يعتبر نوعا من "التشويه المتعمد للقاهرة بعقلية مريضة مشوهة"، وأن "السكوت هو استسلام لضياع القاهرة".

وأضاف عبر منشور على صفحته على فيسبوك "الكباري ليست الهدف، الهدف هو رغبة مريضة في تشويه القاهرة. الكباري هي وسيلة التشويه وفي الوقت نفسه أرباح هائلة حرام في بطن المقاولين المقربين".

 

العاصمة الجديدة

ويربط محللون بين ما يجري من عمليات هدم المواقع التاريخية وإزالة المسطحات الخضراء بهدف إنشاء الجسور والأنفاق، وبين خطة الدولة لإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة، والتي يوليها السيسي اهتماما كبيرا، ووصف افتتاحها بأنه سيكون "إعلان جمهورية جديدة وميلاد دولة جديدة".

وبحسب وزير النقل المصري كامل الوزير، فقد أنشأت الحكومة أكثر من 600 جسر و20 محورا جديدا في عهد السيسي، بتكلفة تجاوزت 85 مليار جنيه مصري (الدولار يساوي نحو 15.7 جنيها)، وتخطط لتنفيذ أكثر من مئة جسر، وتقول وسائل إعلام قريبة من السلطة إن هذه الجسور أنقذت القاهرة من "شلل مروري عام 2020".

في المقابل تمت إزالة نحو 390 ألف متر مربع من المساحات الخضراء في محافظة القاهرة خلال الشهور القليلة الماضية، كما تم اقتلاع الأشجار والنخيل في شوارع وميادين مصر الجديدة من أجل توسيع طريق السياحة لقرابة 12 مسارا، بتكلفة نحو 48 مليون دولار.

بين التراث والآثار

ورغم حملة الاحتجاجات، ترد الحكومة المصرية بأن كنيسة البازيليك ليست مسجلة في عداد الآثار، حيث لا تتبع وزارة السياحة والآثار، وهي الحجج التي تسوقها الحكومة كلما اشتعل الخلاف حول هدم مواقع تاريخية.

ويرى أسامة طلعت رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بالمجلس الأعلى للآثار، أن ما يحكم العمل هو القانون ولوائحه التنفيذية التي يتحتم تنفيذها بكل دقة، ومن أهمها القانون 117 لسنة 1983 وتعديلاته عام 2018، والتي تتضمن أن المنطقة الأثرية المختصة تعرض ملفا لتسجيل الأثر شاملا معلومات تفصيلية عنه.

ويضيف، في تصريحات صحفية، أن ما يثيره غير المتخصصين عن كنيسة البازيليك يثير البلبلة، فهي لا تخضع لقانون الآثار، لذلك فهي كنيسة غير مسجلة ولا تتوافر لدى المجلس الأعلى للآثار أي معلومات عن المطالبة بتسجيلها.

بدروه، يفرّق الباحث الدكتور حسين دقيل بين هدم الآثار والتراث، فالمواقع الأثرية هي تلك المواقع المسجلة في وزارة الآثار، أما المواقع التراثية فهي غير مسجلة كآثار ولكنها في الوقت نفسه تحمل طرازا معماريا متميزا وفريدا، أو تعود لحقبة تاريخية معينة، أو كانت مسكنا خاصا لإحدى الشخصيات التاريخية، ويلزم القانون بالحفاظ عليها.

ويذكر دقيل -في دراسة نشرها المعهد المصري للدراسات- أن عملية هدم المواقع التراثية تعود لعقود، لكن وتيرتها ازدادت بشكل مرعب خلال السنوات الأخيرة، وأبرزها هدم جبانة المماليك، وسبقها هدم وكالة العنبريين.

يذكر أن جبانة المماليك تقع في الشرق من طريق صلاح سالم، وأنشئت في نهاية القرن الثامن الهجري، حيث بدأ سلاطين المماليك بإنشاء المساجد والمدافن في صحراء المماليك، ومع انتهاء القرن التاسع الهجري اجتمعت فيها مجموعة من العمائر الدينية والقباب لم تشهدها القاهرة من قبل، بحسب وصف دقيل.

أما سوق العنبريين فيقع في شارع العز في قلب القاهرة الفاطمية، وتم البدء في إنشائه عام 751 الهجري، وصار وكالة مميزة في عهد محمد علي باشا، لكن وزارة الآثار رفضت ضمه للمواقع الأثرية، مما تسبب في هدمه.

ورغم الجدل المثار حول الآثار ومواقع التراث، فقد حسم الدستور المصري هذه القضية، حيث يلزم الدستور الدولة بالحفاظ على المواقع التراثية، وتقول المادة 47 من دستور 2014 إن الدولة مُلتزمة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة، وتلزم المادة 50 الدولة بالحفاظ على جميع مواقع التراث المصري، وكذلك الرصيد الثقافي المعاصر المعماري والأدبي والفني بمختلف تنوعاته، ويمثل الاعتداء على أي من ذلك جريمة يعاقب عليها القانون.

المصدر : الجزيرة