الاحتجاجات المتصاعدة في لبنان.. هل يستثمر الساسة غضب اللبنانيين لتمرير رسائلهم؟

Army soldiers stand guard as demonstrators set fire during a protest in Tripoli Army soldiers stand guard as demonstrators set fire near a Lebanese politician's house, during a protest against the lockdown and worsening economic conditions amid the spread of the coronavirus disease (COVID-19), in Tripoli, Lebanon January 28, 2021. REUTERS/Omar Ibrahim
طرابلس تعيش منذ ثلاث ليال حالة من الانفلات الأمني (رويترز)

بين جموعٍ من المتظاهرين عند "ساحة النور" في طرابلس شمال لبنان، وقف شاب عشريني ملثم بكوفيته، جاء مع رفاقه من "حارة البرانية" الشعبية في المدينة.

يقول الشاب الذي رفض الكشف عن اسمه "سنخوض المواجهة ضد السلطة التي جوعتنا مهما كلف الثمن لأن القوى الأمنية تطاردنا بتهمة إثارة الشغب والفوضى".

وتعيش طرابلس منذ ثلاث ليال حالة من الانفلات الأمني، إثر مواجهات بين مئات المتظاهرين وقوات الأمن، لكن أعنفها وقعت ليل الأربعاء الماضي، وأسفرت عن مقتل متظاهر يدعى عمر طيبا (30 عاما)، توفي فجرا متأثرا بإصابته برصاصٍ حيّ بظهره، وهو أحد أبناء الأحياء الفقيرة، ونعته عائلته بـ "الشهيد المظلوم الشاب"، كما سقط نحو 226 جريحا بين مدنيين وعسكريين، وفق السلطات الصحية.

ورغم أن مناطق لبنانية عدة تشهد بعض التحركات المتنقلة، اعتراضا على الظروف المعيشية التي ضاعفت مأساة آلاف العائلات بعد الحزر الصحي العام الذي فرضته السلطات بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، لكن مشهد الاحتجاج في طرابلس بدا استثنائيا.

LEBANON ANTI GOVERNMENT PROTEST
قوات الأمن تدرجت في استخدام القوة ضد المحتجين (الأوروبية)

ومن هذه المدينة الشمالية المعروفة بعاصمة لبنان الثانية،  تقاطر المئات عصرا إلى "ساحة النور" وانطلقوا بمسيرات سرعان ما تطورت لمواجهات عنيفة ليلا، تخللها رمي للحجارة وقنابل "مولوتوف" من جهة المتظاهرين، فيما ردت القوى الأمنية بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، ثم تطورت لتبادل إطلاق الرصاص الحي والقنابل اليدوية.

وعلى مدار ساعات، كان المتظاهرون يصرّون على اقتحام سرايا طرابلس، الذي يضم مركز المحافظة وبعض المراكز الحكومية والقضائية والأمنية، فتسلقوا على السور مرّات عدّة، وأضرموا النيران عند بعض مداخله.

ودفعت هذه التطورات رجال الشرطة لإصدار بيانات متتالية، حذرت فيها أنها ستتعامل "مع المهاجمين بكل شدّة وحزم مستخدمين جميع الوسائل المتاحة وفقًا للقانون"، وقالت إن "القنابل التي أُطلقت على العناصر هي قنابل يدوية حربية، وليست صوتية أو مولوتوف، مما أدى إلى إصابة 9 عناصر بينهم 3 ضباط أحدهم اصابته حرجة".

صرخ غاضبا

أحد المتظاهرين يدعى محمد (35 عاما)، وهو أب لثلاثة أطفال، خسر عمله بتصليح السيارات قبل أشهر، وصار عاجزًا عن تأمين قوت عائلته، صرخ غاضبا "نحن لسنا هواة معارك في الشارع، لكننا خسرنا كرامتنا، وصرت عاجزا عن شراء الحليب لطفلي، لأنه مفقود ولا أجده إلا بأسعار خيالية، وتحولنا جميعا لمتسولين بسبب الغلاء المعيشي".

في الأثناء، يقاطعه شابٌ ملثم "تريد السلطة قمعنا بكورونا، لكنهم لا يعرفون أننا نخاف من الذل والحاجة أكثر من المرض، ولن نعود من الشارع بعد اليوم مهما كلف الثمن".

LEBANON ANTI GOVERNMENT PROTEST
المواجهات كانت عنيفة بين رجال الشرطة والمحتجين (الأوروبية)

ويشكو أبناء طرابلس من تهميش الدولة لهم، حسب قولهم، إذ يعيش أكثر من نصف سكانها تحت خطّ الفقر، رغم أنها تضم أكبر أثرياء لبنان.

وفي مراحل تاريخية سابقة، عانت من سلطة وصاية النظام السوري (1990 – 2005)، كما تأثرت نسبة كبيرة من شبابها بالثورة السورية، وعاشت أكثر من 20 جولة قتال بين باب التبانة وجبل محسن (ذات الغالبية العلوية)، وبرز فيها ملف "الموقوفين الإسلاميين"، وقد لعبت دورًا بارزا خلال التحركات الاحتجاجية ما بعد 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وشهدت حينها مواجهات أيضا بين المتظاهرين والجيش، واستمرت الخشية من زجّ المدينة بخصومة مع المؤسسات الأمنية.

وبدت طرابلس على مدار عقود كخاصرة رخوة للبنان، وأرض خصبة لتبادل الرسائل السياسية والإقليمية بين القوى المتنازعة في البلاد.

السؤال الأبرز

غير أن السؤال الأبرز الذي أثاره بعض المراقبين يبقى التالي: هل ثمة من يسعى لاستثمار غضب المواطنين المتأثرين بالأزمات المعيشية لتسجيل النقاط وتمرير رسائل سياسية؟

وفي هذا السياق، يعتبر أديب نعمة، وهو عضو في لقاء "تشرين" المدني والخبير في سياسات التنمية، أن ما يحدث بطرابلس، يختلف عن مناطق أخرى على مستوى العنف، وأن "خروج الناس إلى الشارع متأخر عن مستوى الأزمة"، لأن اللبنانيين الفقراء  كما الطبقات الوسطى مسالمون وسلميون، ما يتجاوز التوقعات في أوضاع مماثلة أو اقل خطورة مما يحصل في لبنان.

ويضيف نعمة للجزيرة نت أن لا أحد يستطيع التنبؤ بمسار تصاعد الأمور، بعد أن عجز الناس عن تحقيق أهدافهم بإسقاط سلطة عنيدة في تحركات 17 أكتوبر.

LEBANON ANTI GOVERNMENT PROTEST
جانب من المظاهرات في طرابلس أكس (الأوروبية)

ويرى الخبير أن الناس التي نزلت للمواجهات العنيفة بطرابلس، هم أكثر استعدادا من غيرهم ليكونوا في الصفوف الأمامية، لأن ليس لديهم ما يخسروه ولأنهم شباب جاءوا من مناطق فقيرة ومهمشمة، متوقعا أن تتصاعد التحركات الشعبية في المرحلة القبلة، لتعمّ مختلف المناطق اللبنانية، "لأن الدولة لم تبادر بأي فعل يمتصّ غضب المواطنين ونقمتهم".

ويخشى نعمة من محاولة أطراف سياسية لاستغلال الشارع، بناء على تجارب سابقة، من دون أن يلغي الأمر أحقية التحركات، ومن يدفع الناس لمزيد من العنف والفوضى وفقه، هم أطراف السلطة بشكل ممنهج.

رسائل سياسية

سياسيا، أدت مشاهد العنف في طرابلس إلى استقطاب سياسي بين مختلف القوى التي تبادلت الاتهامات غير المباشرة فيما بينها. وقال رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، أمس، إن "الحكومة لا تتشكل ولا تتعطل بالدواليب المشتعلة وقطع الطرق والاعتداء على مؤسسات الدولة واستهداف قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني".

وسارع رئيس الحكومة اللبناني المكلف سعد الحريري بالتغريد عبر التوير قائلا "قد تكون وراء التحركات في طرابلس جهات تريد توجيه رسائل سياسية، وقد يكون هناك من يستغل وجع الناس والضائقة المعيشية التي يعانيها الفقراء".

وفي وقتٍ تستمر حالة المراوحة، ما زالت الخلافات قائمة بين الحريري والرئيس ميشال عون وفريقه السياسي بالملف الحكومي. وكانت قوى عديدة في لبنان تراهن على متغيرات دولية لحلحلة القضايا العالقة في لبنان، إذ كان ينتظر البعض دخول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض، وأن تكون مقاربته للملف اللبناني أكثر مرونة من مقاربة إدراة سلفه دونالد ترامب، لكن الأجواء ما زالت ضبابية في لبنان على المستوى الإقليمي.

عمليا، تأخذ التحركات في طرابلس أبعادا سياسية وأمنية معقدة، لأنها ذات غالبية سنية، ولطالما تنازعت عليها القوى السنيّة السياسية في الانتخابات النيابية، باعتبارها منطقة "استراتيجية" لتثبيت نفوذهم.

وفي هذا الخصوص، يرى الكاتب والمحلل السياسي منير الربيع، أن ثمة جهات سياسية تسعى لاستثمار التحركات الشعبية المحقة، لتحويرها بما يخدم أجندتها.

وقال الربيع في تصريح للجزيرة نت أن بعض القوى السياسية تسعى لاستخدام الشارع معنويا بسبيل الضغط السياسي، وقد يكون ذلك عبر الاندساس بمجموعات تابعة لها، كما راج تاريخيا بلبنان.

لكن هذا الاستغلال السياسي، لا يعني أن التحركات الشعبي هي مؤامرة، حسب الربيع الذي علق على تصريحات دياب، بالقول إنها تحمل اتهاما للحريري باستخدام الشارع السني في سبيل الضغط على القوى التي تعيق تشكيل الحكومة.

ويشير الربيع إلى أن الحريري وصلته اتهامات أخرى من فريق الرئيس عون، تحمله مسؤولية تحريك بعض المجموعات في طرابلس بهدف الضغط في سبيل تشكيل الحكومة ودفع رئيس الجمهورية لتقديم تنازلات.

في المقابل، يرى مراقبون أن الشارع تحول لساحة تخترقها مختلف القوى المتنازعة. ويرى الربيع أن الاستثمار السياسي بهذا التحرك قابل للتوسع أيضا، بإطار لعبة تبادل الرسائل السياسية، وهو ما يعقّد أي إمكانية لولادة الحكومة.

ويتوقع الربيع أن يجري استخدام الشارع لاحقًا بوجه الحريري، من أجل دفعه لتقديم التنازلات لصالح عون وحلفائه، مما يعني أن الاستعصاء سيبقى قائما إذا تصلب كل من الحريري وعون على موقفهما، وأن تطول أجواء الفراغ والفوضى على المشهد اللبناني بحسب المحلل.

في غضون ذلك، تستمر الدعوات بطرابلس للنزول إلى الشارع، بينما القوى الأمنية تزيد من إجراءاتها، مما يعني أننا قد نكون أمام ليالٍ مقبلة من العنف والمواجهات.