سويسرا تحقق مع سلامة بشأن "الأموال المنهوبة" في لبنان.. فهل تنتصر السياسة على القضاء؟

حاكم البنك المركزي رياض سلامة  خلال كلمته للبنانيين - الجزيرة نت
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في دائرة الاشتباه بملف الأموال المنهوبة في بلده (الجزيرة)

بينما يغرق لبنان في أزمات سياسية واقتصادية غير مسبوقة، ومع انسداد أفق تشكيل حكومة سعد الحريري الذي مضى على تكليفه أكثر من 3 أشهر إثر احتدام خلافاته مع فريق رئيس الجمهورية ميشال عون عاد إلى الواجهة ملف ما تسمى "الأموال المنهوبة".

للمرة الأولى بعد انفجار أزمة لبنان المصرفية منذ خريف 2019 سلطت الأضواء رسميا على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وذلك عقب تسلم وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم الأسبوع الفائت طلب تعاون من السلطات السويسرية يتعلق بتقديم مساعدة قضائية بشأن ملف تحويلات مالية تخص سلامة، لتشمل التحقيقات كلا من شقيقه رجا سلامة ومساعدته ماريان الحويك.

وفي 21 يناير/كانون الثاني الجاري حصل لقاء بين سلامة والمدعي العام التمييزي في لبنان غسان عويدات، ليبلغه مضمون الطلب السويسري، فأعلن سلامة عن استعداده للمثول أمام القضاء السويسري لتقديم إفادته بشأن الملف.

ويرى مراقبون أن جوهر الطلب السويسري هو التحقق من شبهة تحويل أموال لصالح سلامة، ولا سيما أنها أتت بأسماء مقربين منه، أي شقيقه ومساعدته.

ورغم الإجماع اللبناني على شعار "استعادة الأموال المنهوبة" فإن قضية سلامة أخذت أبعادا سياسية، خصوصا أنه يشغل منصبه منذ العام 1993 بدعم من الرئيس الراحل رفيق الحريري، واستمر التجديد له طوال هذه الأعوام.

وكان النائب في البرلمان السويسري فابيان مولينا أشار في تصريحات للإعلام اللبناني إلى أن مجمل "الأموال التي وصلت من لبنان إلى سويسرا بعد عام 2016 زادت على ملياري دولار".

لكن، بعد أن دوت فضيحة تهريب الأموال من المصارف اللبنانية إلى الخارج بين أكتوبر/تشرين الأول 2019 ويناير/كانون الثاني 2020 رجحت بعض التقديرات أن المبالغ المحولة من لبنان إلى المؤسسات المالية السويسرية قاربت نحو 2.3 مليار دولار.

وأصدر سلامة أمس الاثنين بيانا اتهم فيه مسربي الأرقام المتداولة التي وصلت إلى نحو 350 مليون دولار بالسعي إلى "ضرب صورة المصرف المركزي وحاكمه"، ووصفها بالمضخمة، فيما كان لافتا تقدم النائب اللبناني جميل السيد بطلب رسمي إلى القاضي عويدات لإدراجه بصفة "شاهد طوعي أمام القضاء السويسري حصرا"، وأنه مستعد للإدلاء بالمعلومات "الوقائع المتعلقة بعمل مصرف لبنان".

مسار قضية سلامة قضائيا

ينطلق الخبير الدستوري والقانوني سعيد مالك من ثوابت عمل النيابة العامة السويسرية باعتبار أن القضاء السويسري محترف، وحتى يصل إلى الإحالة يعني أن هناك ملفا متكاملا لا غبار بشأنه.

ويقول إن وصف سلامة حجم الأموال المتداولة بـ"المضخم" "يحمل اعترافا ضمنيا بالأمر وبتوافر الشروط، ولكن خلافه على تحديد قيمة المبالغ، والقضاء السويسري ينظر بالأدلة للإدانة أو التبرئة، لذا ستكون له الكلمة الفصل في هذه المنازعة".

ويرى مالك -في حديثه للجزيرة نت- أن سلامة كان باستطاعته أن يسلم بصلاحية القضاء اللبناني، لكنه اختار المثول أمام المحاكم السويسرية، وبالتالي ينبغي عليه تكليف مكتب محاماة للدفاع عنه هناك.

وفي حال وجدت النيابة العامة التمييزية أن الأدلة كافية للادعاء على سلامة فستحيله إلى المحاكمة، أما إذا كانت غير كافية فستعمل على حفظ الملف.

ويلفت الخبير إلى أنه عملا بالمبدأ العام القانوني لا يعاقب المتهم على الفعل مرتين، أي لا يمكن أن تكون هناك قضية مرفوعة ضد سلامة في سويسرا وأخرى بلبنان، ويتوقع أن يأخذ مسار التحقيقات في سويسرا أشهرا.

تسييس القضية

أصبحت ملاحقة سلامة -بحسب محللين- مرهونة سياسيا بين من يحمله مسؤولية الانهيار المالي، وفي طليعتهم فريق رئيس الجمهورية الذي يدفع نحو محاسبة سلامة بوصفه جزءا مما تسمى "الحريرية السياسية"، وبين قوى أخرى تعتبر أن هناك من يسعى إلى استغلال قضية سلامة عبر تسريب معطيات للقضاء السويسري بهدف تصفية حساباتهم مع داعميه وتوريطهم معه.

بدوره، يعتبر المحامي وديع عقل عضو المكتب السياسي في التيار الوطني الحر (برئاسة جبران باسيل) أن "ثمة شبهات قوية ضد سلامة، لأنه لم يصرح عن أمواله في المصارف الخارجية بصفته الشخصية، مما يعني أنه متهم بجرم إخفاء هويته".

ويذكّر عقل -عبر الجزيرة نت- بأن سلامة يشغل منصب رئيس هيئة التحقيق الخاصة في لبنان، وهي مؤتمنة على مكافحة تبييض الأموال وفقا للقانون 44/2015، ومن غير المقبول أن يبقى سلامة في هذا المنصب بعد الاشتباه به.

لكن المحلل السياسي أسعد بشارة يعتبر أن التحقيقات مع سلامة لا بد أن تخرج من الحسابات السياسية، وأن تُجرى عملية المحاسبة بكل الاتجاهات.

ويتهم بشارة فريق عون السياسي بالاستعراض برمي المسؤولية على الآخرين، في حين أنه مشارك في السلطة منذ العام 2008، وتسلم الوزارات التي شهدت كما من الهدر والفساد، وعلى رأسها وزارة الطاقة.

ويذكّر بشارة بأن عهد عون الذي بدأ من 2016 جدد في 2017 لسلامة للبقاء في منصبه بإجماع كافة الأطراف السياسية، بمن فيهم حزب الله، مما يعني أن كل الطبقة السياسية متورطة معه.

لكن وديع عقل يعتبر أن التجديد لسلامة كان محكوما بظروف 2017 "لأنه أعطى حينها تطمينات للعهد بأن الليرة بخير، مما يعني أن سلامة مارس الاحتيال بحق اللبنانيين".

بالمقابل، رفع ناشطون مدنيون على مدار أكثر من عام شعارات ترفض اختزال التحقيقات بسلامة، وطالبوا بمحاسبة أركان المنظومة السياسية التي أغرقت البلاد بالإفلاس.

ويطالب هؤلاء القضاء السويسري أو اللبناني بتوسيع دائرة التحقيقات لتشمل مختلف أركان السلطة المالية والسياسية التي تعاقبت على الحكم من التسعينيات وصولا إلى عهد ميشال عون.

أبعاد خارجية

على مدار سنوات رُوّج في لبنان أن رياض سلامة يحظى بغطاء غربي -وبالذات أميركي- استمد منه قوة نفوذه على رأس حاكمية مصرف لبنان، وهنا يثار سؤال: هل حان موعد رفع هذا الغطاء عنه؟

يعتبر الكاتب والمحلل السياسي حسين أيوب أن سلامة لم يعد "عنوانا مقدسا" بالمناخ الغربي، وما يحدد الموقف الدولي من ملفه هو "بديله".

وأضاف أنه إذا كان بديل سلامة يخضع لاختيار ميشال عون وفريقه السياسي فسيفضل المجتمع الدولي بقاء سلامة، أما إذا كانت الإطاحة به تأخذ الحاكمية لنائبه الأول وسيم منصوري (من الطائفة الشيعية) فلن يفضل المجتمع الدولي رحيله أيضا، لذلك قد تتحول عناصر ضعف سلامة إلى عناصر قوته، بحسب قول أيوب للجزيرة نت.

ويعود أيوب إلى المبادرة الفرنسية، وتحديدا لزيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لبيروت بعد انفجار المرفأ في أغسطس/آب 2020 "وجرى الترويج حينها لاسم المرشح الفرنسي لحاكمية مصرف لبنان سمير عساف، وهو أحد المصرفيين العالميين، وكان مؤشرا عن عدم رضا دولي على سلامة".

أما العنصر الدولي الأساسي "فهو الموقف الأميركي من قضية سلامة، ولا سيما أنه شكل على مدار سنوات ركيزة التعامل الإيجابي بالملف اللبناني مع المنظومة الأميركية".

ويرى أيوب أن تبدل المناخ الدولي تجاه سلامة يهدد القوى السياسية بسبب الترابط بين المنظومتين المالية والسياسية، وأي محاولة للمس بأحد الاتجاهين ستؤثر على الآخر، خصوصا أن سلامة كان يمول عملية إنفاق السلطة السياسية بالانتخابات ولتأمين مختلف مصالحها.

بالمقابل، فإن طلب استجواب سلامة ينقل لبنان إلى مرحلة تشوه سمعة قطاعه المصرفي خارجيا، وأخطر ما في القضية -بحسب أيوب- أنها تطورت من اتهام المصارف بالعبث بأموال المودعين إلى شبهات تطال الحاكم المركزي مباشرة، مما يعني أن ترميم سمعة لبنان المصرفية في المرحلة المقبلة سيكون مهمة شاقة.

المصدر : الجزيرة