الرواية السعودية لاغتيال خاشقجي.. من الإنكار الشامل إلى الإقرار الناقص

احتاجت السلطات في المملكة العربية السعودية إلى ثلاثة أسابيع لكي تستقر على روايتها الرسمية النهائية في قضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.

وتأرجحت هذه الرواية الرسمية بين الإنكار التام والقاطع في البداية لمعرفتها بقضية الاغتيال، وبين الاعتراف الناقص في نهاية المطاف، حيث اضطرت للإقرار بأن خاشقجي تم قتله في القنصلية السعودية، لكنها قالت إن هذه الجريمة كانت "عملا مارقا" ارتكبه أشخاص، وإن كانوا موظفين في الدولة لكن مسؤوليهم لم يكونوا على علم بذلك.

المنتقدون للرواية السعودية يعتبرون أنها "رواية على المقاس"، فصلت لكي تبعد نار الجريمة عن جلباب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تصر الرواية الرسمية على أنه لا علاقة ولا علم له بالتخطيط لهذه الجريمة.

اقتفاء التسريبات التركية
ويرى هؤلاء المنتقدون أيضا أن التذبذب في الرواية السعودية مرده إلى أنها كانت تقتفي أثر ما كانت تسربه تركيا من حين لآخر من معلومات عن الجريمة، ويعتبرون أن السلطات التركية نجحت في استدراج السعوديين إلى تناقضات صارخة بسبب سعيهم الحثيث وراء تكييف روايتهم لمحو "آثار" المعلومات التي تسربها أنقرة.

أول رد فعل رسمي سعودي صدر من قمة السلطة بعد ثلاثة أيام من اغتيال خاشقجي، حيث قال ولي العهد محمد بن سلمان في حوار مع شبكة بلومبيرغ الإعلامية الأميركية يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول 2018 إن ما تردد آنذاك عن القضية هو شائعات.

وأكد أن خاشقجي مواطن سعودي، وأن المملكة مهتمة بمعرفة ماذا جرى له، وأنها تتواصل مع الحكومة التركية في هذا الشأن. كما أكد أنه دخل إلى القنصلية وخرج منها بعد دقائق وربما بعد ساعة.

وأضاف "لست متأكدا، ونحن نحقق في هذه القضية عبر وزارة الخارجية لمعرفة ما الذي جرى بالضبط". وعبر عن استعداد بلاده للسماح للحكومة التركية لتفتيش مبنى القنصلية إذا طلبت ذلك، وقال بكل ثقة "ليس لدينا ما نخفيه" في هذه القضية.

رواية الإنكار هذه كررها سفير السعودية في واشنطن الأمير خالد بن سلمان في تصريحات صحفية، كما فتح القنصل السعودي في إسطنبول محمد العتيبي يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2018 أبواب القنصلية لوكالة رويترز لتأكيد عدم وجود خاشقجي بها ولا حتى بالمملكة العربية السعودية، وأجرت معه الوكالة حوارا نفى فيه أن يكون خاشقجي داخل القنصلية، وقال إنهم بالقنصلية يبذلون ما في وسعهم لمعرفة مصيره.

كبش فداء
وبعد أن سربت الأجهزة الأمنية التركية معلومات جديدة تؤكد مقتل خاشقجي داخل القنصلية، بدأت الرواية السعودية تبتعد شيئا فشيئا عن الإنكار وتتجه نحو تخريجة تقبل برواية مقتل خاشقجي، لكن بحبكة تلبس الجريمة لـ"كبش فداء" (18 سعوديا) وتبعد التهمة عن محمد بن سلمان.

ففي 14 أكتوبر/تشرين الثاني 2018 اقترحت السعودية تشكيل فريق تحقيق مشترك مع السلطات التركية لبحث اختفاء خاشقجي، وبعد يومين من ذلك نشرت وسائل إعلام غربية معلومات تفيد بأن الرياض تعد تقريرا تقر فيه بأن خاشقجي "قتل خطأ" خلال التحقيق معه بالقنصلية في إسطنبول، وأن العملية كانت تهدف إلى اختطافه وإعادته إلى المملكة.

كما نقلت شبكة "سي أن أن" الأميركية عن مسؤول سعودي تأكيده أن قرارا ملكيا صدر بتوجيه المدعي العام بإجراء تحقيق داخلي في قضية خاشقجي، بناء على معلومات استخباراتية مشتركة مع تركيا.

وصدر في اليوم نفسه (16 أكتوبر/تشرين الأول) بيان عن وزير الداخلية السعودي، الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف يؤكد فيه أن ما تم تداوله بوجود أوامر رسمية بقتل خاشقجي هي "أكاذيب ومزاعم لا أساس لها من الصحة". ونوه "بالتعاون مع الحكومة التركية من خلال لجنة التحقيق المشتركة وغيرها من القنوات الرسمية".

وفي يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2018 أقرت السعودية رسميا بمقتل خاشقجي داخل قنصليتها في إسطنبول. وقال النائب العام السعودي سعود بن عبد الله بن مبارك المعجب إن التحقيقات الأولية أظهرت وفاته "في شجار وقع داخل القنصلية"، وأكد أنه يتم التحقيق مع 18 سعوديا موقوفين على ذمة القضية.

وفي اليوم نفسه أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمرا ملكيا بإعفاء كل من أحمد عسيري نائب رئيس الاستخبارات العامة، وسعود القحطاني المستشار برتبة وزير في الديوان الملكي من منصبيهما، وهما ضمن المتهمين بقتل خاشقجي، كما شكل لجنة برئاسة ولي العهد لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة وتحديث نظامها ولوائحها وتحديد صلاحياتها بشكل دقيق.

عمل مارق
وعلى الرغم من كون الشخصيتين المذكورتين، إضافة إلى ضابط الأمن ماهر المطرب، من الدائرة الضيقة المقربة إلى ولي العهد السعودي، فإن الرواية الرسمية ظلت تؤكد أنهم تصرفوا من تلقاء أنفسهم ودون تشاور مع مسؤوليهم، وخاصة ولي العهد.

تعديل آخر للرواية الرسمية السعودية ظهر يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، إذ أعلن النائب العام السعودي أن جريمة قتل خاشقجي تمت "بنية مسبقة"، وهو ما يناقض الرواية التي قالت إن الأصل في العملية كان هو التفاوض معه لإعادته إلى السعودية، وأن عملية قتله كانت عن طريق الخطأ بعد شجار مع محتجزيه في القنصلية.

كما أكدت النيابة العامة السعودية أن الجثة تم تقطيعها ونقلها إلى خارج مبنى القنصلية، عبر خمسة من عناصر الفريق، وتم تسليمها إلى "متعاون محلي" قالت إنه تم التوصل إلى صورة تشبيهية له وطلبت من السلطات التركية التعاون للكشف عنه.

وزير الخارجية السعودي آنذاك عادل الجبير (الذي أصبح فيما بعد وزيرا للدولة في الخارجية) حرص في كل مناسبة سئل فيها عن قضية خاشقجي على التأكيد أن الأمير محمد بن سلمان لم يعلم بالجريمة و"غير مسؤول عنها"، وكرر في أكثر من مناسبة القول إنها "عمل ارتكبه مارقون" وإن المملكة تحقق معهم وسوف تعاقبهم.

أمثلة غربية
وعندما سئل الجبير عن تناقض الرواية السعودية، أجاب بأن اختلاف الرواية وتطور صيغها كان تبعا لتطور المعلومات المتوفرة أولا بأول، ولمزيد من الإقناع استنجد ببعض القضايا التي شهدتها الولايات المتحدة الأميركية في العقود الماضية وتذبذبت فيها الرواية الرسمية وتغيرت أكثر من مرة.

وضرب الجبير مثلا لذلك بقضية سجن أبو غريب الذي شهد فضيحة تعذيب معتقلين عراقيين على يد جنود أميركيين، والذي قال المسؤول السعودي إن التحقيقات الأميركية بشأنه طال أمدها ولم تنكشف الحقيقة منذ اليوم الأول.

وليعضد رواية أن "بن سلمان لم يعلم"، استنجد أيضا بما عرف بقضية "إيران غيت" في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، والتي تم فيها بيع أسلحة أميركية لإيران في خرق للقوانين الأميركية التي تحظر ذلك، كما استثمرت أموال هذه الصفقة في دعم حركات معارضة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا آنذاك.

وقال الجبير إن موظفين في البيت الأبيض آنذاك وعلى رأسهم أوليفر نورث تصرفوا بغير علم ريغان، كما تصرف قاتلو خاشقجي بغير علم بن سلمان، معتبرا أن "هذه الجريمة ما كان لها أن تكون"، وأن أحد أهداف الإجراءات التي اتخذتها السعودية هو أن تضمن عدم تكرار مثل هذا الفعل مستقبلا.

تذبذب الرواية السعودية بشأن مقتل خاشقجي جعل المملكة في مرمى انتقادات دولية فضلا عن انتقادات من منظمات وسياسيين وحقوقيين كثر، ويبدو أنها رواية لم يصدقها إلا الرئيس الأميركي دونالد ترامب حفاظا على علاقته مع "حليف إستراتيجي"، وصونا لمصالح عديدة للولايات المتحدة.

المصدر : وكالات