أزمة عاصفة بأكبر ائتلاف لليسار التونسي.. ما الأسباب وأي تداعيات؟

بعض النواب المستقيلين ممن الجبهة الشعبية/مقر البرلمان/العاصمة تونس/مايو/آيار 2019 (مواقع التواصل)
بعض النواب المستقيلين من الجبهة الشعبية خلال اجتماع في مقر البرلمان (مواقع تواصل)

خميس بن بريك-تونس

تعيش الجبهة الشعبية (ائتلاف أحزاب يسارية وقومية تونسية) أزمة حادة هي الأسوأ منذ تشكّلها عام 2012، بعد استقالة تسعة من نوابها في البرلمان بسبب صراعات داخلها، ما جعل مراقبين يتوقعون إمكانية اندثارها وتكبدها هزيمة قاسية في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة.

وقدّم أمس تسعة نواب من كتلتها الحاصلة على 15 مقعدا بالبرلمان (من جملة 217) استقالاتهم إلى مكتب مجلس نواب الشعب، وسيتم تفعيل الاستقالة بعد خمسة أيام لتنخفض كتلة الجبهة -الخصم اللدود للائتلاف الحاكم وحركة النهضة خاصة- إلى ستة نواب فحسب.

وليست هذه الأزمة العاصفة حكرا على الجبهة الشعبية في المشهد السياسي التونسي، حيث شهدت قبلها حركة نداء تونس -الفائزة بالانتخابات الماضية سنة 2014- تفككا بكتلتها التي تدحرجت من المركز الأول إلى الثالث، فضلا عن انقسام الحزب وتشتته.

وتأتي هذه التطورات المتسارعة قبيل الانتخابات التشريعية التي ستجرى في 6 أكتوبر/تشرين الأول والرئاسية في 10 نوفمبر/تشرين الثاني المقبلين، في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية متردية على جميع الأصعدة.

تناقضات كبيرة
وأرجع زهير حمدي الأمين العام لحزب التيار الشعبي أحد مكونات الجبهة الشعبية، الأزمة إلى أسباب بعيدة وقريبة مرتبطة بالأساس بالفشل في إدارة اختلاف الرؤى السياسية داخل هذا الائتلاف المكوّن من أحزاب يسارية وماركسية.

وقال حمدي للجزيرة نت إن هناك تناقضات كبيرة داخل مكونات الجبهة تتعلق بمسائل عدة، أبرزها إعداد القوائم الانتخابية واختيار المرشح للرئاسيات وطريقة اتخاذ القرارات داخل الجبهة، معتبرا أن إقدام تسعة نواب على الاستقالة هو خطوة غير محسوبة أضرت بصورة الجبهة ووحدتها.

وأقر حمدي بإمكانية انعكاس هذا التفكك داخل الجبهة على مصيرها ووحدتها وعلى حظوظها في الانتخابات التشريعية والرئاسية، لكنه اعتبر أن فتح الحوار بين مكونات الجبهة وتغليب المصلحة الوطنية على الرهانات الشخصية والحزبية قد يرأب الصدع داخلها.

وتضم الجبهة الشعبية أساسا حزب العمال الذي يقوده المعارض حمة الهمامي، وحزب الديمقراطيين الموحد لمؤسسه القيادي شكري بلعيد الذي اغتيل عام 2013، وحزب التيار الشعبي، وحزب الطليعة العربي الديمقراطي وحزب رابطة اليسار العمالي وأحزاب أخرى.

وتنظيميا، يعتبر المجلس المركزي للجبهة الشعبية الذي يضم الأمناء العامين لتلك الأحزاب أعلى سلطة قرار بالجبهة. ومنذ تشكيلها تم تعيين حمة الهمامي -وهو أحد أبرز المعارضين الشيوعيين للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي- ناطقا رسميا للجبهة، لكنه لم يكن محل إجماع.

صراع مواقع
ورغم تباين المواقف داخلها خاصة بشأن إدارتها، استطاعت كتلة الجبهة في البرلمان أن تبقى موحدة منذ انتخابات 2014، لكن إعادة اختيار حمة الهمامي مرشحا للرئاسيات كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس فأطلت الأزمة بإصرار حزب الديمقراطيين الموحد على ترشيح قيادي منها.

وهذا القيادي ليس سوى منجي الرحوي رئيس لجنة المالية في البرلمان وأحد الوجوه البارزة بكتلة الجبهة الشعبية والمعروف بانتقاداته اللاذعة للحكومة. 

‪منجي الرحوي رئيس لجنة المالية في البرلمان وأحد الوجوه البارزة في كتلة الجبهة الشعبية‬ (الجزيرة)
‪منجي الرحوي رئيس لجنة المالية في البرلمان وأحد الوجوه البارزة في كتلة الجبهة الشعبية‬ (الجزيرة)

وكان حمة الهمامي حل في رئاسيات 2014 بالمركز الثالث وحصل على أقل من 8% من الأصوات.

وكان الرحوي انتقد قرار المجلس المركزي أو ما يعرف بمجلس الأمناء للجبهة الشعبية، بعد اختيار حمة الهمامي بالأغلبية مرشحا للرئاسيات، معتبرا أن مسألة الترشح للانتخابات الرئاسية بحاجة إلى أطر أوسع واستشارات داخل مكونات الجبهة وخارجها من الطيف اليساري.

ورغم أنه من النادر سماع صدى الأزمات المكتومة داخل الجبهة في السنوات الماضية، فإن الرحوي كان يغرد أحيانا خارج السرب بسبب انتقاده المعلن لأداء الجبهة الشعبية التي ارتبطت لدى الرأي العام التونسي بمعارضة كل شيء دون المشاركة بالحكم وتقديم البدائل.

إجهاض المشروع
ويقول الرحوي للجزيرة نت إن قرار تقديم الاستقالات من الجبهة ليس الغاية منه إجهاض مشروع الجبهة وتوحيد اليسار وإنما إحداث رجة داخل الجبهة لحلحة الواقع المتأزم الذي فرضته بعض مكونات الجبهة، في إشارة إلى هيمنة حزب العمال وزعيمه حمة الهمامي عليها. 

بدوره، قال الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين والنائب المستقيل عن كتلة الجبهة زياد لخضر إن هناك أطرافا في الجبهة لا تقبل النقد ورفضت سابقا الدعوة لفتح حوار لإيجاد مخرج وسعت لتشكيل قائمة انتخابية تتعلق بانتخابات بلدية جزئية بجهة باردو بالعاصمة دون تشاور.

وأرجع النواب المستقيلون داخل الجبهة -خلال مؤتمر صحفي عقدوه اليوم بالبرلمان- أزمة الاستقالات إلى وجود قطيعة بين مجلس الأمناء (المجلس المركزي) للجبهة وبين كتلتها النيابية التي لا تشارك في صنع القرار، نافين أن يكون الأمر متعلقا بترشيح الرحوي للرئاسيات.

لكن رئيس كتلة الجبهة الشعبية أحمد الصديق -الذي تخلى عن رئاسة الكتلة مع احتفاظه بعضويتها- قال إن الاستقالات التي أودعها نواب الجبهة الشعبية لا تساعد في حل الأزمة داخل الجبهة، داعيا -في بيان نشره حزبه- إلى العدول عنها والجلوس مجددا إلى طاولة الحوار للخروج من الأزمة.

وكان الصديق القيادي بحزب الطليعة العربي الديمقراطي برر استقالته من رئاسة الكتلة بـ"استحالة" القيام بدوره، بسبب الخلافات داخل الجبهة"، داعيا الناطق الرسمي للجبهة حمة الهمامي إلى دعوة المجلس المركزي للانعقاد لفض الإشكاليات وتجنب تفكك الجبهة الشعبية.

تفكك الجبهة
ولا يستبعد المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي أن تؤدي أزمة الاستقالات داخل الجبهة -إذا تم تفعيلها دون إيجاد حلول سريعة- إلى إمكانية انهيار كتلتها وتفكك هذا الائتلاف تماما جراء استفحال الخلافات والصراعات بين مكونات اليسار عموما سواء القوميون والماركسيون.

ويقول للجزيرة نت إنه إذا عجزت مكونات الجبهة الشعبية عن إيجاد مخرج للأزمة الراهنة ستكون حظوظ فوزها بالانتخابات التشريعية ضعيفة جدا فيما ستكون حظوظها في الرئاسية منعدمة تماما، متوقعا أن تحصد الجبهة مع استمرار خلافاتها أقل من الـ15 مقعدا التي حصدتها في 2014.

ويرى الجورشي أنه بتلاشي ائتلاف الجبهة الشعبية ستفقد المعارضة التونسية صوتا احتجاجيا قويا، معتقدا أن تراجع هذا الائتلاف السياسي سيكون لمصلحة عودة الأحزاب المنبثقة عن حزب النظام السابق على غرار الحزب الدستوري الحر الذي تضعه نتائج سبر آراء (استطلاعات الرأي) في مراكز متقدمة.

المصدر : الجزيرة