نادي الصنوبر.. "المدينة المحظورة" في الجزائر

إقامة الدولة الساحل بنادي الصنوبر في الجزائر العاصمة (مواقع التواصل)
مدخل إقامة الدولة الساحل بنادي الصنوبر في الجزائر العاصمة (مواقع التواصل)

سالم جمال-الجزائر

هي مدينة محظورة على الطريقة الجزائرية، ربما هو أدق وصف للمؤسسة العمومية "الساحل"، المعروفة بإقامة الدولة نادي الصنوبر، حيث يعيش المسؤولون الجزائريون وعائلاتهم بمعزل كامل عن الشعب.

الدخول إلى المحميّة ممنوع إلا بترخيص مسبق، والحصول على موطئ قدم هناك يجبر الطامع فيه على الانحناء أمام عبد الحميد ملزي المدير السابق للإقامة الذي عمّر فيها لأكثر من عشرين سنة، آمرا ناهيا، قبل أن ينتهي به المطاف في الأسبوع الماضي في سجن الحراش بالجزائر العاصمة، بتهمة تهديد الاقتصاد الوطني والتجسس الاقتصادي.

خبر اعتقال ملزي أثار تفاعلا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لما تمثله إقامة الدولة في مخيال الشعب الجزائري كرمزٍ لطبقية مكرّسة بقوة القانون.

صنوبر وشواطئ
نادي الصنوبر كان منطقة سياحية مفتوحة أمام الشعب الجزائري دون أي عراقيل، قبل أن يتغيّر كل شيء بداية تسعينيات القرن الماضي مباشرة بعد وقف المسار الانتخابي وتدهور الأوضاع الأمنية.

يتحدث بحسرة الأستاذ الجامعي المتقاعد سليمان، مُتذكرا طفولته التي لم يعد بإمكانه تتبع أثرها في شواطئ نادي الصنبور "كانت كل هذه الشواطئ ملكا للشعب، في السبعينيات والثمانينيات لم يكن هناك حرس ولا تراخيص، لم نكن مواطنين من درجة ثانية، أولئك الناس (يقصد قاطني المحمية) يعاملوننا كشعبٍ أجرب، كأنهم يفرّون من واقعنا للعيش في جزائر نشرة الثامنة (في إشارة إلى واقع تنقله نشرات التلفزيون الحكومي يراه الجزائريون مغايرا لواقعهم)".

يتابع سليمان "فضلا عن الظلم والحيف الذي طال كل الشعب الساكن قرب الإقامة والذي شاهد أرضه تتقلّص مع كل عملية توسيع للمحميّة، فإن الأقسى في كل هذا هو حرماننا من تربة حرّرها الشهداء لنا جميعا، لا لشيء سوى لأننا لسنا وزراء ولا رجال أعمال أو نوابا يسبحون في فلك السلطة، ما عشناه ونعيشه هو تمييز طبقي يعود لعصور خلت".

‪من داخل منطقة نادي الصنوبر في الجزائر العاصمة‬ (مواقع التواصل)
‪من داخل منطقة نادي الصنوبر في الجزائر العاصمة‬ (مواقع التواصل)

تمّ استحداث "إقامة الدّولة" في ديسمبر/كانون الأول 1992، من أجل حماية الوزراء وكبار المسؤولين الجزائريين وعائلاتهم، بعد تزايد الهجمات المسلحة واستهداف الشخصيّات السياسية والثقافية. وتقابل الإقامة الواجهة البحرية لمدينة سطاولي، وتضم شققا وفيلات وشاليهات.

كان الأمر في بدايته شبه مقبول أمنيا، قبل أن يتحوّل إلى طريقة عيش، وإلى رمز لفوارق طبقية جعلت بعض الناس يلهثون من أجل الحصول على بطاقات تسمح لهم بالدخول واكتشاف جزائر "سادة" القوم، بطاقات تباع وتشترى من أجل العيش يوما أو شهورا مع أصحاب القرار في عالمهم الفخم.

مزاحمة النافذين
أصداء حياة مشابهة لألف ليلة وليلة أغوت بعض ميسوري الحال، ودفعتهم للتودد لأبناء المسؤولين من أجل الحصول على البطاقة السحرية.

تقول المحامية سارة -وهي في نهاية عقدها الثالث- "لقد اشتريت بثلاثة ملايين سنتيم (نحو 250 دولارا) بطاقة مدعوة سمحت لي بالدخول بعض المرات، وبعدها بسنة استطاع أحد النافذين أن يمنحني بطاقة إقامة كأني فردٌ من عائلته مقابل سبعة ملايين سنتيم (نحو 580 دولارا)".

وعن سبب دفعها لهذه الأموال، تقول سارة "أنا أدفع سنويا أموالا كثيرة للسفر خارج البلاد للاصطياف والعيش كما أشاء، لهذا قررت دفع الأموال نفسها من أجل دخول نادي الصنوبر، فهناك لا أحد يزعجني في البحر ولا أحد يتحرش بي في الملاهي والحانات. أنا شعبية لكن قاطني هذه الفيلات ليسوا أحسن مني لكي ينعموا بكل هذا وأنا أتفرج، هم أسسوا نظاما يجعلهم أحسن منّا فتلوّنت بلونهم"، تقول ذلك وهي مقتنعة بأن ما قامت يعتبر حقا لا يمكن أن تعاب عليه، رغم أن خلف تلك الأسوار شعبا يتساءل هل نحن مواطنون أم "أهالي"؟

يجيب الشاب سمير الذي اشتغل سابقا بوابا في أحد مداخل الإقامة "لم يتعلموا من الحضارة الصينية العظيمة إلا مدينتها المحظورة على الشعب، تخيّل لقد شيّدوا جنانا وفيلات وشاليهات فخمة، ثم اشمأزوا منا فسيّجوها بالأسوار ومنعوا الزوالي (المواطن الشعبي البسيط) من شواطئ المنطقة، كأنهم يقولون لنا كل يوم: أنتم لستم مثلنا، راقبتهم سنة كاملة (مدة عمله بوابا)، لم ألاحظ في وجوههم أنهم يعون أنهم يؤدون دور الكولون الجديد (نسبة إلى الاستعمار في عهد الاحتلال الفرنسي)".

يختتم سمير حديثه بالتأكيد أن "هذه الإقامة وكيفية إدارتها السرية أبعدت الشعب عن الساسة والنواب والوزراء وكرست القطيعة بينهم، بل ساهمت بشكل ما في الحراك الشعبي الذي نعيشه اليوم".

لم يكتف أصحاب القرار بأخذ الأرض وتسيّيجها بأموال الخزينة العمومية ومنع الشعب من دخولها فحسب، بل حرموهم من السماء والبحر وما تحت التراب في المحميّة،  فبعد إنشائها ومع تواصل توسّعها الجنوني على حساب أراض فلاحية، مُنع السكان قرب الإقامة من الصيد ومن ممارسة الرياضة البحرية.

كما منعوا من أي نشاط قد يهدد سلامة وأمن سكان إقامة الدولة، وتم ترك الباب مفتوحا دون تحديد كل الأنشطة المعنيّة، لكي يتم منع أي شيء بمجرد اتفاق والي العاصمة مع مدير الإقامة، وهذا بقوة القانون.

القاطنون الأبديون
رغم أن إقامة الدولة ليست ملكية خاصة، فإن العديد من الوزراء المدعومين من الرئاسة أو من قيادات الجيش يرفضون مغادرة فيلاتهم التي يمكن اعتبارها سكنات وظيفية فخمة وجب تسليمها بعد انتهاء الخدمة، فالحاصل هو العكس تماما، إذ نادرا ما يطرد وزير أو مسؤول سام منها، ما لم يغضب عليه صناع القرار الفعليون.

وبعد سقوط خطة الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ودخول مدير الإقامة السابق عبد الحميد ملزي إلى السجن، يعيش سكان "المدينة المحظورة" حالة رعب، خاصة مع تداول تقارير تؤكد تبليغ أكثر من مئة شخصية بضرورة إخلاء مقرات إقامتهم في الأيام المقبلة.

ومع تواصل الحراك السلمي، تعالت الأصوات الشعبيّة والسياسية المعارضة المطالبة بفتح "إقامة الدولة الساحل" وتحويلها إلى منتجع سياحي مفتوح للجميع، ومحاولة جعلها قطبا سياحيا، عوض تركها في أيادي رجالات نظام أدوا بالبلاد إلى ما تعيشه حاليا من أزمة متعددة الأوجه.

المصدر : الجزيرة