"المطيرجي" في العراق.. من هواية منتقدة إلى مهنة مربحة

اياد ابو انمار يدخل برج الطيور
لحظة إطلاق المطيرجي العنان لحمامه للتحليق في السماء (الجزيرة نت)

وليد المصلح-بغداد

يفتح "الأبراج" الموصدة صبيحة كل يوم بحيوية ونشاط في موعد لا يخلفه أو يتوانى عنه رغم السنين المتعاقبة، غير آبه بعبارات اللوم أو الانتقاد التي يتعرض لها بين الحين والآخر من مقربيه وأترابه، "المطيّرجي" إياد أبو أنمار (57 عاما) يصر على ممارسة هوايته بتربية الحمام.

دفعته روح المغامرة والمنافسة إلى تربية الحمام منذ نعومة أظفاره، مزاولا هوايته الملتصقة بنفسه على سطح منزله الصغير بمنطقة السيدية في بغداد وهو يحلق ببصره خلف سربه من الحمام، بمعزل عن جلبة الحياة وضجيجها الخانق.

ويطلق على من يمارس هواية تربية الحمام باللهجة العراقية "المطيّرجي"، وهي مركبة من مُطيِّر بمعني "الذي يُطَيِّر" وجي، إضافة أعجمية تعطي معنى "صاحب الحرفة".

يتحدث أبو أنمار عن تجربته للجزيرة نت بالقول "ورثت تربية الطيور من أخي الأكبر الذي كان شغوفا بها ومواظبا على الوجود قرب طيوره صباحا ومساء".

وأضاف أنه منذ العاشرة من عمره إلى الآن يحمل الكلف ذاته لهوايته الأولى، ويشعر بأن الطيور التي بحوزته هي متنفسه الوحيد في زمن تقلّ فيه المواساة ويندر الأصحاب.

برج الطيور الذي يملكه أبو أنمار من الداخل (الجزيرة نت)
برج الطيور الذي يملكه أبو أنمار من الداخل (الجزيرة نت)

النشأة والتربية
المولعون بتربية الطيور يودعونها في أقفاص من الخشب تسمى "أبراجا" تحتوي على رفوف من الداخل وسلات من سعف النخيل أو القصب تستخدم لوضع البيض والتكاثر، وأبواب خارجية غالبا ما تغلق بأقفال خاصة لتلافي السرقة.

غالبا ما يعد الدخن العراقي وجبة أساسية للحمام في الأوقات العادية، لكنها تتغيّر عند حلول موسم التكاثر نهاية أغسطس/آب ويستمر لشهرين، ويختلف الطعام أيضا باختلاف الطير نفسه، فطعام الزاجل مثلا ليس كسواه.

أمهات الحمام التي تحتضن البيض تسمى "دايات" وتقوم بالمهمة لحين إفقاسه وخروج الأفراخ منه، بينما الأب هو من يطعم الأفراخ وقد يؤازر أنثاه في احتضانها للبيض.

وعندما تكبر الأفراخ وتكون قادرة على تناول الطعام تعزل عن الآباء لإكسابها صفات ومهارات جديدة غير التي يحملها الأبوان.

إحدى إناث الحمام تحتضن بيضها (الجزيرة نت)
إحدى إناث الحمام تحتضن بيضها (الجزيرة نت)

أنواع نادرة
يختلف الحمام في أنواعه وأشكاله وقدرته على الطيران، وذلك ما يحدد رغبة المربين والهواة في تربيته، فثمة من يميل إلى لون الطائر كاللون الأحمر البغدادي أو الأصفر "الزيراي" -الذي يصل سعره إلى 3400 دولار، وهناك من يفضل ذات الطيران البعيد كأنواع الزاجل المعروفة التي تستخدم في السباقات.

غيث عبد الله أحد أصحاب محلات بيع الطيور أوضح للجزيرة نت أن لكل صنف من الطيور هواته ومحبيه الذين تختلف أعمارهم ومكانتهم الاجتماعية عن سواهم، وأن موسم بيع الطيور لديه يزدهر خلال العطلة الصيفية بسبب إقبال طلبة المدارس على شرائها.

سرب حمام أثناء تحليقه (الجزيرة نت)
سرب حمام أثناء تحليقه (الجزيرة نت)

نظرة مستهجنة
من ينظر إلى سماء العاصمة اليوم يجدها مزدانة بأسراب الحمام الملونة التي تجوب الأفق محلّقة قرب بيوت مالكيها، بعد أن كانت تربيته هواية مستهجنة يعاب على ممتهنيها ولا تقبل المحاكم العراقية شهادتهم.

وكانت بعض العوائل ترفض تزويج بناتها للمطيّرجي وتنظر له نظرة دونية، بسبب وجوده المستمر على أسطح البيوت ولكثرة مشاكله مع منافسيه وقسمه بأغلظ الأيمان بغية اختطاف طائر بعد استدراجه أثناء الطيران من مالكه الحقيقي.

أما اليوم فقد تحولت تلك الهواية إلى الاحتراف في غالبية المدن العراقية، بحسب الباحث الاجتماعي علاء الصفار الذي أكد للجزيرة نت أن تفشي البطالة بين أوساط الشباب وسهولة الانصراف لهذه المهنة والأرباح التي تدرها ضاعف من أعداد الملتحقين بها.

وعزا الأسباب "لكون مجتمعاتنا ما زالت راكدة ولم تلحق بركب الحداثة وتطوير الاقتصاد لعوامل سياسية ودولية متعددة".

طفلة تشاهد أنواع الطيور في أحد الأسواق في بغداد (الجزيرة نت)
طفلة تشاهد أنواع الطيور في أحد الأسواق في بغداد (الجزيرة نت)

أعراف خاصة
من يلج إلى عالم "المطيرجية" يطلع على سلوكيات وأعراف خاصة لا يمكن تخطيها أو القفز عليها لمن أراد أن ينأى بنفسه عن المشاكل والصراعات، تلك القوانين تحدد نوع العلاقة بين أصحاب المهنة الواحدة بما يسمى "الحرب والصلح".

فالعرف السائد لديهم عدم إرجاع الطير الغريب بعد صيده إلا بتقاضي مبلغ من المال يساوي قيمته أو في حالات الصلح التي تكفل إرجاعه بموجب العرف الساري بين الطرفين، وبخلافه تنشب الحروب بين المتنافسين لرد الاعتبار وحفظ الاسم والمكانة.

وتبقى تربية الطيور وتدجينها نوعا من الفولكلور الشعبي الموروث، غير أن طيور الزاجل التي كانت تحمل الرسائل بين الأمصار والمدن أضحت اليوم تكسب السباقات والرهان وتحمل الأموال لمالكيها.

المصدر : الجزيرة