خبز القيروان العتيق.. لماذا يصطف الناس في انتظاره؟

الخبز داخل الفرن ولونه يميل الى الذهبي (الجزيرة نت)
الخبز داخل الفرن ولونه يميل للون الذهبي (الجزيرة)

ناجح الزغدودي-تونس

من داخل الفرن الحامي في أحد المخابز العتيقة بمحافظة القيروان تنبعث رائحة الخبز مزيجا من نكهات السمن وزيت الزيتون والقمح تدغدغ أنوف المتزاحمين على أول رغيف ذهبي يخرجه الرايس.

بعد وضع أقراص العجين في قلب فرن الحجارة الملتهب يمسح رئيس الخبازين الكهل الهادي العكريمي جبينه المتلألئ بحبات العرق، ثم يتفقد جوف الفرن مرسلا ضوء الفانوس كأنه يستكشف مغارة الذهب.

أرغفة الخبز البرونزية
ينعكس ضوء الفانوس بريقا لامعا على سطح أرغفة الخبز المستوية ويميل لونها إلى البرونزي، وعندما تستوي نضجا يسحبها الهادي رغيفا تلو الرغيف بحنو ومرونة بواسطة ذراع خشبية طويلة تسمى المخبز.  

عشرات الشبان والنسوة والكهول يترقبون خروج أرغفة الخبز التي نفذت رائحتها الشهية إلى أنوفهم بلا استئذان فتطول لحظات الانتظار ويشتد التدافع وسط المخبز الساخن للفوز بموقع الصدارة.

تمتد الأيادي ماسكة بالقفاف متلهفة وتنطلق الحناجر هاتفة لجذب انتباه الرايس، وقبل أن يقع الخبز الساخن كقطعة جمر على اللوح الخشبي تنقض عليه الأيادي متشابكة كأنها تخشى نفاد خبز تترقبه العائلة على المائدة.

يتكرر مشهد الانتظار يوميا داخل المخابز العتيقة الشهيرة بالقيروان من بين عشرات المخابز بمحافظة القيروان، يحافظ بعضها على الخبز التقليدي الذي تتلاءم نكهاته وأحجامه مع مزاج أهل المدينة وزوارها.

‪مخبز عمراني بالقيروان يعد خبزا تقليديا متوارثا بين الأجيال‬  (الجزيرة)
‪مخبز عمراني بالقيروان يعد خبزا تقليديا متوارثا بين الأجيال‬  (الجزيرة)

ذكريات خبز الطفولة
تصميم مباني المخابز التقليدية من الطراز العتيق والتجهيزات هو نفسه الذي رافق الرايس الهادي منذ فترة شبابه، وهي ذاتها الأفران المبنية من حجر الطوب الطبيعي وطريقة صنع الخبز.

الطابع العتيق الذي يرجع إلى عقود مضت يسرد تفاصيل من ذكريات الماضي الجميلة وذاكرة مشتركة، ما يفسر سر انجذاب المواطنين إلى هذا الخبز المتميز بنكهة الماضي وصنعة الأجداد.

صناعة الخبز التقليدي
ينسجم الخبز العتيق الذي يتم إعداده بشكل تقليدي ومواد طبيعية نباتية في المنازل، توضع عجينة في صينيات نحاسية ثم يحمله الصبيان إلى المخابز، ثم توارثت عائلات قيروانية حرفة صناعة الخبز التقليدي الذي بدأ من المنازل من القمح والشعير، ثم أصبح مهنة وحرفة توارثتها عائلات بن ناظر أو بوفندار أو القهواجي أو عمرانية وغيرها.

بمجرد إخراج الخبز النضج يكرر الرايس الهادي إطعام الفرن بعد تسخينه ليحافظ على حرارة الحجر الأشبه بالجمر فيرصف أقراص العجين المتجانسة والمنضدة ويتركها تنضج على مهل. 

‪إضافات ومحسنات تزيد نكهات الخبز القيرواني‬ (الجزيرة)
‪إضافات ومحسنات تزيد نكهات الخبز القيرواني‬ (الجزيرة)

أسرار النكهات متوارثة
أمام مصطبة خشبية يعلوها سطح مرمري وقف صلاح عمرانية الرجل الخمسيني مشرفا على عملية بيع الخبز متبادلا تحية خفيفة مع الحرفاء المغادرين "شاهية طبية".

"ورثت المخبز عن والدي، وإخوتي أيضا هم أصحاب مخابز عتيقة، وهي مهنة الأجداد التي أبذل قصارى جهدي للمحافظة عليها" يقول صلاح عمرانية، مشيرا إلى تضحيات قدماء الحرفة للحفاظ على هذا الطابع المميز.

سر نكهة الخبز التقليدي وجودته العالية هما سبب الإقبال عليه، ويرجعان إلى محافظة المخابز التقليدية على المكونات الطبيعية من بهارات وإضافات مثل زيت الزيتون البكر المنتج في القيروان والسمن الطبيعي.

وزيت الزيتون هو أحد المنتجات الفلاحية البارزة في تونس ويوصف بالذهب الأخضر، ويوفر موارد رزق لمئات آلاف الأسر التونسية، ويمكن من إنتاج معدل مئتي ألف طن يتم تصدير نحو 145 ألف طن سنويا.

هذه النكهات التي تجذب الزبائن هي في الأصل توابل البسباس والمحلب والعود والجلجلان والقرفة والحبة السوداء وحبة الحلاوة، أو من حيث الطحين (السميد) المستخدم مثل القمح والشعير والشوفان.   

المخابز التقليدية وأصناف الخبز
تقدم المخابز التقليدية أصنافا عدة من الخبز، منه المدور بأحجام مختلفة وترسم عليها نقوش تربيعية مستلهمة من الفن المعماري ونقوش الزربية القيروانية، ويخصص كل مذاق وصنف لأكلة دون باقي الأكلات.

ويتسم الخبز التقليدي بخفة لبابته وسهولة هضمه علاوة على صموده لأيام ومحافظته على صلاحيته الغذائية، ما يجعله محل إقبال العائلات القيروانية والزوار في المناسبات الدينية والأعياد.

ويقدر معدل استهلاك الأسر التونسية من الخبز بـ45 كلغ سنويا وفق المعهد التونسي للاستهلاك، وتقود الحكومة التونسية حملة للتخفيض من كميات الخبز المتلفة المقدرة بـ113 ألف طن سنويا. 

‪خبز القيروان التقليدي جزء من الموروث الحضاري العتيق‬ (الجزيرة)
‪خبز القيروان التقليدي جزء من الموروث الحضاري العتيق‬ (الجزيرة)

ورشة إعداد الخبز
تبدو حركة العاملين بالمخبز نشيطة في حلقات متكاملة لإعداد كميات جديدة من الخبز أمام تزايد الطلب، فيشاهد الزبائن مراحل إعداد الخبز بكل تفاصيلها كأنهم في بث مباشر لبرنامج طبخ.

وعلى الرغم من ارتفاع درجات الحرارة داخل المخبز بسبب النيران التي تحول الأفران إلى كتلة من اللهب ينضج تحت شرارتها الخبز في هدوء لا تتوقف حركة "الرايس" الهادي الذي كان الحرفاء في ضيافته.

وبصفته رئيس العمال فهو مسؤول عن إعداد الخبز منذ مرحلة خلط الدقيق وعجنه وتسخين الفرن إلى رمي العجين ثم إخراج الخبز بحركات شبيهة بالنحلة العاملة وإلى نهاية دوامه المتزامن مع نفاد الخبز.

سر آخر في جودة الخبز أسر به الرايس الهادي إضافة إلى المكونات وهو "إتقان العمل والرغبة في إرضاء الزبون" ليرضي ضميره، خصوصا عندما يعلم أن الخبز الذي صنعه سيسافر خارج البلاد.

تعجز المخابز التقليدية بسبب محدودية طاقة عملها عن توفير الكميات المطلوبة من الخبز، ويضطر الزبائن للوقوف عشرات الدقائق وتكرار التردد على المخبز للفوز بحصة من الخبز القيرواني التقليدي. 

المصدر : الجزيرة