خلال ألف يوم بالسجن.. أسرة محمود حسين وساعات فرح مبتسر وأحزان مستمرة

صور لمناسبات اجتماعية تخص أسرة محمود حسين
والدا محمود وأحد أشقائه، خلال حفل زفاف ابنته الزهراء (الجزيرة)
عبد الله حامد-القاهرة
 
في كل يوم من الألف يوم التي مرت والصحفي بقناة الجزيرة محمود حسين في محبسه، توالت على أهله وأصدقائه ساعات وساعات، كان بعضها مصدرا للبهجة والأمل، وكثير منها باعث على الحزن واليأس، وفي كل الأحوال حالت أسوار السجن دون مشاركة محمود أسرته هذه اللحظات.
 
لعل الحدث الأشد إيلاما للمرء هو أن يسمع أن والده يعاني ويتوجع ولا يستطيع مساعدته أو حتى مواساته بلمسة كف أو تقبيل جبهة أو الربت على كتف.
 
فقد سببت محنة سجن محمود دون ذنب جناه ألما مضاعفا لوالده عم حسين أضيف إلى متاعب الشيخوخة لينوء الجسد الواهن للشيخ السبعيني بحمل المرض وضغط القهر.
 
كل أصدقاء محمود كانوا يحبون أباه، ذلك الفلاح الصلب الثابت ذو الابتسامة الصافية النقية، فقد كان محمود يحرص دائما على دعوة أصدقائه إلى منزله أو إلى بستان بسيط يمتلكه ويفتخر بأبيه وأمه ويحرص على تقديمهما لأصدقائه، لكن بعد محنة السجن غابت الابتسامة عن الأب المكلوم وغامت ملامحه في سحابة حزن عميق، فضعفت مناعته وانهارت مقاومته.
 
سقط الوالد مصابا بجلطة في المخ مطلع عام 2018، ثم تعافى منها نسبيا لكن الجلطات عاودته مرة وثانية وثالثة حتى جاءت الرابعة لتقضي على قدرته على المشي، أو تحريك ذراعه اليسرى.
undefined
فرحة مغتالة
في مايو/أيار الماضي، رفرفت روح محمود وأحبته بالفرح، حينما أُخبر بقرار المحكمة بإخلاء سبيله، لانعدام الأدلة، بعد عامين ونصف العام تقريبا من السجن دون محاكمة، وانتظر الجميع إتمام إجراءات الإفراج عنه، لكن المفاجأة المؤلمة تمثلت في قرار ظالم بإعادته إلى السجن متهما هذه المرة بقضية أخرى جديدة لا يعرف تفاصيلها.
 
هنا كانت النكسة الأشد، فانهارت مقاومة الرجل أكثر، وتدهورت صحته وهو يرى العمر ينزف، فلا هو قادر على زيارة محمود -كبير أبنائه وعمود أسرته- ولا محمود قادر على استصدار إذن من سلطات السجن ليزور والده.
 
قبل أيام قليلة، فقد العم حسين القدرة على النطق، وعجز عن تناول الطعام والشراب إلا من خلال أجهزة معاونة بالمستشفى، في حين لم تكن الوالدة السبعينية أفضل حالا، فهي لا تكف عن البكاء على فلذة كبدها منذ بدأت محنته فتدهورت صحتها بشكل واضح وأصيبت بشلل العصب السابع ففقدت القدرة على الابتسام وباتت زاهدة في الكلام.
 
طوال الألف يوم، وفي كل زيارة يتلقاها محمود من أحد أفراد أسرته، كان يوصيهم بوالديه إحسانا، ألا ينقصهم شيء مما كان معتادا بذله لهما، رعاية واهتماما، وفي تلك الزيارة الأخيرة التي علم فيها بتدهور صحتهما معا، انخرط في بكاء مرير، حسب ما أخبرتنا أسرته.
الزهراء الابنة الثانية لمحمود تزوجت خلال وجود والدها في السجن (الجزيرة)
الزهراء الابنة الثانية لمحمود تزوجت خلال وجود والدها في السجن (الجزيرة)
ماجستير آية وزفاف زهراء
ولم يختلف الأمر عند أبناء محمود التسعة، الذين تبدلت أحوالهم وملامحهم، وجرفهم نهر الحياة، فأي دهشة مريرة تلك التي تعتري وجه أب يفاجأ بما تغير في حياة وملامح أبنائه، وهم يزورونه على فترات متباعدة؟!
 
قررت الابنة الكبرى آية -الفرحة الأولى لمحمود من زينة هذه الحياة الدنيا- أن تبدل حزنه فرحا، ومضت في استكمال رسالتها للماجستير بالعاصمة الفرنسية باريس، حتى حصلت عليه بتقدير مرتفع، أبهج محمودا بهجة منقوصة، فقد كان يود لو أقام وليمة لهذه المناسبة، كما اعتاد أن يفعل في مثل هذه المناسبات، بدعوة أحبائه وأصدقائه.
 
وهو يتلقى النبأ السعيد، رف طيف من الحزن في عينيه لم يستطع كتمانه وهو يستقبل ابنته أثناء زيارتها له، فحاولت التخفيف عنه بأن أنبأته بأنها ماضية في رفع رأسه بالحصول على درجة الدكتوراه عما قريب، ليحتفلا معا وهو حر دون قيود احتفالاً يعوض ما لم يحتفلا به من مناسبات.
 
حينما تصل آية للقاهرة في زيارات متقطعة، تكون وجهتها الأولى زنزانة والدها، لكن في الزيارة الأخيرة الشهر الماضي، ذهبت لزيارته قبل عودتها لباريس بيوم، فأُوقفت على باب السجن وأخبرها الحراس بمنع زيارته، وكان عليها السفر في اليوم التالي، حاملة حقائبها على ظهرها ودموعها في عينيها.
 
أما ثاني زهراواته، "الزهراء" فقد طلب أبوها في بداية سجنه -تأجيل إتمام زواجها لحين خروجه الذي كان يأمله قريبا، ولكن عام السجن بات عامين، وأكثر، حينها قرر محمود ألا يحرم العروسين المقبلين على الحياة بسبب سجنه من فرحتهما باستكمال ارتباطهما، فألحّ هو على ابنته وخطيبها لإتمام الزواج دون انتظار خروجه.
 
وفي عيد الأضحى من عام 2018، كانت الزهراء وعمها على موعد مع محمود حسين في زيارة لم تبلغ مدتها خمس دقائق، كان مقررا خلالها مفاتحته في أمر تحديد موعد الزفاف، وعقب السلام وتبادل التهاني والتبريكات بالعيد، رن جرس انتهاء الزيارة، فبكت الابنة، وطلبت من عمها عدم مفاتحته، لكن العم أصر على الكلام في الأمر، وفي دقيقتين كان محمود يهز رأسه بأسى ممزوج بالفرح موافقا على الموعد.
 
تزوجت الزهراء -في ليلة يسميها المصريون ليلة الفرح- لكنه عند الزهراء المحرومة من حضن الأب ودموع فرحته في هذه الليلة، كان فرحا مبتسرا، اختلطت فيه دموع فرحة الدخول لحياة جديدة، بدموع الحزن على غياب الأب، ولم يكن الأهل بأفضل حالا منها.
أما محمود القابع في زنزانته، فلك أن تتخيل حاله.
 
هاجر ورباب وبتول وأسماء
وفي الشهور الأولى لمحمود في محبسه، نجحت ابنته الثالثة هاجر في عبور عنق الثانوية العامة الخانق، لتقرر الالتحاق بكلية الحقوق، على أمل أن تنجح يوما ما في استرداد تعويض عن عمر أبيها المهدور فترة سجنه ظلما وجورا.
 
تأمل هاجر التي وصلت للفرقة الثالثة بكلية الحقوق في أن تساعدها دراستها بكلية الحقوق في أن توقف قطار الظلم بمصر، وأن تساعد كل مظلوم مثل والدها بعد أن تجرعت مرارته بفقدانه ألف يوم ترجو ألا تزيد.
 
ويقلق محمود وحده وهو عاجز عن إبداء المساندة والمساعدة الأبوية لابنته رباب في واحدة من أخطر مراحلها الحياتية الفاصلة، وهي الثانوية العامة، باعتبارها مفترق طرق تعليميا يحرق أعصاب الآباء وهم أحرار يقفون بجانب أبنائهم، فما بالنا وهم خلف الأسوار الحديدية؟
 
حسن وعلي وفاطمة
بقية الأبناء، أسماء وبتول وحسن، يدرسون في مراحل أساسية تعليمية مختلفة، ظلوا خلال الأيام الأولى من الألف يوم، يتعرضون للتنمر من أقرانهم لأن والدهم "إرهابي" كما وصفه المذيع المقرب من النظام أحمد موسى، بدرجة دفعتهم لعدم الذهاب للمدرسة.
 
حتى أولئك الأقران المتعاطفون مع أبناء محمود، كانت نظراتهم وكلماتهم المتعاطفة مؤلمة لأنها تذكرهم دائما بوضع أبيهم.
 
أصغر الأبناء، أو آخر العنقود، بتعبير المصريين هو الصغير علي، كان عمره عامين حينما عوقب بالحرمان من والده، وأجرى في غيابه عدة عمليات جراحية، وكبر الصغير الذي تركه محمود رضيعا كان ينطق بالكاد كلمة بابا وصار الآن يتساءل: لماذا حرمتموني من حضن أبي، وأي ذنب جناه؟
المصدر : الجزيرة