ماذا جرى لحرية التعبير في الأردن؟

سلوك الحكومة الأردنية وتشريعاتها لم ينسجما مع كفالة حق الرأي، إذ كان عليها –بموجب متطلبات الدستور- أن تهيئ للمواطن الأردني الأدوات للتعبير عن رأيه، مثل توفير الإذاعة والتلفزيون والصحف، والأماكن مثل إتاحة الشوارع والساحات.

أنيس فوزي قاسم*

طرأت على الدستور الأردني منذ صدوره عام 1952 ثلاثة عشر تعديلا طال المادة (15) منه -ولحسن الحظ- التعديل الـ13 الذي زاد في تحصينها.

فالفقرة الأولى من المادة (15) ظلت دون تعديل منذ صياغتها الأولى، ولا زالت تقرأ "تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط ألا يتجاوز حدود القانون".

جاء التعديل الـ11 حيث أبقى على نص الفقرة الأولى، وأضاف فقرتين تبدأ كل منهما بكلمة "تكفل"، هما: تكفل الدولة حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي، وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر…"، وألغى التعديل أسلوب الرقابة على موارد الصحف، وأهمية التعديل الـ11 أن المشرع استخدم في الفقرتين المضافتين تعبير "تكفل".

ومن الملفت للنظر أن المشرع استخدم هذا التعبير دون غيره، فلم يستخدم مثلاً تعبير "لا يجوز للدولة أن تمسّ أو تقيّد حرية الرأي" أو تعبير "تمنح الدولة الأردني حق التعبير عن رأيه" أو غير ذلك من التعابير. وإذا تمسكنا بما يردده رجال القضاء والقانون من أن المشرع لا يلغو، فإن استخدام المشرع الأردني لكلمة "تكفل" كان مقصودا لذاته وينطوي على مغزى قانوني ذي أهمية خاصة في سياق حرية التعبير وحرية البحث العلمي والإبداع الأدبي وحرية الصحافة؛ فالكفالة في القانون، من حيث طبيعتها ونشأتها وتطبيقها، هي عقد تابع لالتزام أصلي، أي أن الكفالة ليست التزاماً أصليا، بل تتبع الالتزام الأصلي وتأتي في ذيله، فلو ذهب شخص للبنك لاقتراض مبلغ من المال، فوافق البنك على طلبه بشرط تقديم كفيل يضمن سداد القرض، فيكون عقد القرض هو الالتزام الأصلي، وعقد الكفالة عقدا تابعا للعقد الأصلي، فإذا انقضى عقد القرض، سقطت الكفالة بالضرورة.

وإسقاطا لذلك على النص الدستوري الأردني الذي نحن بصدده، فإن الدولة "تكفل" حرية الرأي، والتزامها بالكفالة هذا التزام يتبع الالتزام الأصلي الذي هو حق الأردني في حرية التعبير وإبداء الرأي، وهو حق أقدم وأسبق من تشريع الدستور وظهور الدولة للوجود، والتي ما إن تكونت وتشكلت ووضعت عقدا اجتماعيا للأردنيين -كما عبر عنه دستور عام 1952- حتى التزمت الدولة بـ"كفالة" حقوق سبق قيامها وسبق قيام دستورها، وكأن حرية التعبير حق من الحقوق الطبيعية التي تولد مع الإنسان وتسبق وجود الدولة. ألم يقل الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟" ومن الجدير ذكره أن هناك إجماعا في الرأي بين فقهاء القانون على أن حرية الرأي والتعبير هي الحرية الأهم، إذ بدونها فإن الحريات الأخرى تكون دائماً مهددة.

وليست صدفة أن التعديلات السابقة للتعديل الـ11 للدستور لم تمسّ المادة (15/1) بالتعديل، وحين جاء التعديل الـ11 جاء ليؤكدها ويتوسع في جوانبها المتعددة من "كفالة" حرية الصحافة، و"كفالة" حرية البحث العلمي والإبداع الفني، وهما حرّيتان من صلب حرية الرأي والتعبير، بل يمكن القول إن المشرع الأردني ظل بمنأى عن المساس بحرية الرأي، ليس باعتبارها حقاً كفله الدستور، بل باعتبار حرية الرأي حقاً طبيعياً، وجاء الدستور لكي يكفل استمرار وضعها كما كانت قبل النص عليها.

إن كلمة "تكفل"، بخلاف ما ورد في تعديل المادة (15)، لم ترد أصلا إلا في ثلاثة مواضع بالدستور؛ فقد وردت الكلمة مرتين في المادة (6/3)، الأولى حين نصت على أن "تكفل" الدولة التعليم والعمل "ضمن حدود إمكانياتها" و"تكفل" الدولة الطمأنينة وتكافؤ الفرص، وطبعاً بالإضافة إلى "تكفل" الواردة في النص الأصلي للمادة (15/1).

من الواضح أن كفالة الدولة الخاصة بالتعليم والعمل جاءت مقيدة بحدود إمكانيات الدولة باعتبار أن الحق الأصلي المكفول لم يكن متوفرا على نطاق واسع في فترة وضع الدستور، بخلاف ما ورد بخصوص الطمأنينة وتكافؤ الفرص وحرية الرأي؛ فالكفالة بشأنها جاءت طليقة من القيد.

ونصت المادة (15) على أن "لكل أردني أن يعبر بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير…". جاء النص موفقا في صياغته من حيث شموليته واتساعه لأي تطورات مستقبلية. فالوسائل التقليدية كانت تأخذ شكل الخطابات والهتافات، أو كتابة البيانات والشعارات والمنشورات، كما أن التصوير لم يكن مقتصرا على الصور الشمسية، بل تشمل كذلك رسومات الكاريكاتير أو رسومات الشعارات أو الأشكال التي تحمل معنى أو ترمز إلى أمر يأباه المحتجون.

وتطورت وسائل التعبير في العصر الحديث، وأصبحت خبزا يوميا لأجيال من الشباب (واتس آب، فايبر، إنستغرام، تويتر، فيسبوك… إلخ). هذه الأدوات الحديثة أصبحت أكثر فعالة وبعيدة في الغالب عن رقابة أجهزة الأمن، ولا أدل على ذلك من أن الحراكات التي سميت "الربيع العربي" في بدايات عام 2011 كانت تتحرك بواسطة هذه الأدوات الجديدة.

أما الجملة الأخيرة من الفقرة الأولى للمادة (15)، التي تنص على أن ممارسة حرية الرأي يجب "ألا تتجاوز حدود القانون" فهي ليست رخصة للسلطة لسحب حق الرأي أو شلّه، ذلك أن حدود القانون المشار إليها تعني النصوص التي يضعها الشارع لتنظيم ممارسة حق الرأي وليست لشلّ تلك الحرية أو فرض القيود عليها. وإن جاء القانون بخلاف ذلك، فإنه يصطدم بالدستور بالضرورة؛ فالدستور يعلو ولا يعلى عليه. ولا جدال في أن حرية الرأي يمكن ضبطها في مسائل تتعلق بالأمن الوطني والآداب العامة دون توسع، لأن الأصل حماية حرية الرأي. كما أن القانون يجب أن يمحّض الحماية للمواطن العادي أكثر مما يمحضها للموظف العام الذي يتعامل مع الجمهور.

وبعد استعراض الركائز القانونية لحرية الرأي والتعبير في القانون الأردني، فإنه من الثابت والمؤكد أن سلوك الحكومة لم يكن على هذا النحو، ولم تنسجم تشريعاتها التالية مع كفالة حق الرأي، إذ كان عليها -بموجب متطلبات الدستور- أن تهيئ للمواطن الأردني الأدوات والمكان للتعبير عن رأيه، مثل توفير الإذاعة والتلفزيون والصحف، وتوفير الأماكن مثل إتاحة الشوارع والساحات.

في عام 1966 صدر قانون مؤسسة تلفزيون المملكة الأردنية الهاشمية  الذي حدد الأهداف من تأسيس التلفزيون بأنها "توعية المواطن الأردني وتثقيفه وتنمية فكره وذوقه وتقديم التسلية المفيدة له…"، وهذا نصّ أبوي بامتياز؛ فالدولة عبر قناتها التلفزيونية سوف تعلمنا وتثقفنا وتنمي مواهبنا

نظرة أبوية
فالسلطة ملزمة دستوريا بأن توفر بيئة تمكّن المواطن من ممارسة حقه الطبيعي في إبداء الرأي، وما حدث -ولا زال يحدث- هو عكس ذلك تماما؛ فصدر السلطة -على ما تنبئ به قوانينها- يضيق رويدا رويدا إلى أن "تمارس حريتها" في الترهيب وتقويض حرية الرأي. وتأييداً لذلك لا بدّ من الاطلاع على بعض التشريعات التي جاءت بها الدولة لكي تلوي عنق "حرية التعبير". وعلى سبيل المثال، صدر عام 1966 قانون مؤسسة تلفزيون المملكة الأردنية الهاشمية الذي حدد الأهداف من تأسيس التلفزيون بأنها "توعية المواطن الأردني وتثقيفه وتنمية فكره وذوقه وتقديم التسلية المفيدة له…". هذا نصّ أبوي بامتياز، فالدولة عبر قناتها التلفزيونية سوف تعلمنا وتثقفنا وتنمي مواهبنا، فهي المؤهلة في تصدير وتلقين الشعب الأردني وتنمية وعيه والأخذ بيده.

ويلحظ من النص أن التعامل هو باتجاه واحد، أي من السلطة باتجاه المواطن وليس هناك تبادل في الرأي ولا فسحة للحوارات بين المواطن والمسؤول. ويلحظ أيضاً أن النص لا يتعامل مع تدفق المعلومات إلى المواطن ولا تبادل المعلومات مع المسؤول. إن السلطة هي التي تقرر للمواطن الأردني المادة التي تزيد من وعيه أو تنمي ذائقته الفنية أو الأدبية أو تحدد مواد التسلية، وهذا يدلل على أن المشرع لم يستقر في ذهنه أن الدولة "تكفل" بل نظر إليها على أنها "الأب الرحيم" بأبنائه وهي الأدري بمصلحتهم ومصلحة عائلته أكثر مما هو يعي ويدري. ولم يتخل المشرع الأردني عن ذهنية "الأب الصالح" وذلك حين اقتبس ذات النص الوارد أعلاه في قانون عام 1968، إلاّ أن المشرع أسقط هذا النص في قانون 1985 والقانون الصادر عام 2000، وكأن الدولة شعرت بألا حاجة لتكرار النص على دور "الأب الصالح" وافترضت أن الأمر أصبح مفروغاً منه.

جاء قانون المطبوعات والنشر لعام 1998 يحمل في مواده نصوصا تختلف جذرياً عما ورد في قانون التلفزيون، ويوحي للقارئ بأنه قانون متقدم ويتماشى مع المعايير الدولية، فهو ينص على أن الصحافة والطباعة حرتان وحرية الرأي مكفولة لكل أردني، وله أن يعبر عن رأيه بحرية القول والكتابة والتصوير والرسم وغيرها من وسائل التعبير والإعلام، ومن الواضح أن هذا نص قريب جداً من نص المادة (15/1) من الدستور. ويتوسع القانون في إفساح المجال للنقابات والأحزاب للتعبير عن أفكارها وآرائها، ومنع فرض أي قيود تعيق حرية الصحافة في إيصال المعلومات للمواطن. هذه بلا شك نصوص متقدمة وجديرة بالإعجاب والاحترام، إلاّ أن قراءة متمعّنة في القانون تكشف أن هذه الحريات الوارد النص عليها هي فقط "للصحفي"، وليس للمواطن الأردني. حيث تنص المادة (8) منه على أن "للصحفي الحق في الحصول على المعلومات" وللصحفي حق تلقي الإجابة، وللصحفي حق حضور الاجتماعات العامة وجلسات مجلس النواب، ويشترط القانون في مراسل المطبوعات الدورية أن يكون "صحفياً أردنيا"، و"لا يجوز لغير الصحفي ممارسة مهنة الصحافة" (م/10).

وهكذا جاء قانون المطبوعات والنشر مقيداً لحق الأردني في التعبير وإبداء الرأي وأطلق للصحفي -على الأقل نظريا- حرية الوصول للمعلومات ونشرها، ولا تثريب على المشرع في ذلك، إلاّ أنه من الواضح أنه وقر في ذهنه أنه يمكن التعامل مع مجموعة من الصحفيين (الذين يجب أن يكونوا أعضاء في نقابة الصحفيين) وتحديد حركتهم، بيد أن إطلاق العنان للمواطن الأردني وإعطاءه الحق في إبداء الرأي سيكون من الصعب جداً ضبط إيقاعه، وبالتالي يمكن القول إن قانون المطبوعات والنشر بالقيود التي فرضها على الجمهور يتصادم مع الدستور الذي كفل حرية التعبير والرأي لكل مواطن أردني، وليس للصحفي فقط.

قيود وغموض
كما تجب الإضافة أن القيود على حرية الصحفي بدأت تتناسل باستمرار وبجرأة، ابتداءً بالتعديلات التي أدخلت على قانون المطبوعات والنشر، ومعظم هذه التعديلات غامضة، حيث جرى تعديل المادة (43)، على سبيل المثال، والتي نصت على أنه: "يعتبر أصحاب المطابع والمكتبات ودور النشر والتوزيع ودور الدراسات والبحوث ودور قياس الرأي العام مسؤولين بالتضامن عن الحقوق الشخصية ونفقات المحاكمة التي يحكم بها على مستخدميهم في قضايا المطبوعات التي تنطبق عليها أحكام القانون". ومن قراءة النص نجد أن التعديل فرض "عقوبة جماعية" على من ورد ذكرهم دون احترام لمبدأ "ولا تزر وازرة وزر أخرى". وفي هذا ترهيب واضح، مما يؤدي بالنتيجة للجم حرية الرأي والتعبير.

ومقارنة العقوبات التي كان يفرضها قانون المطبوعات والنشر مع العقوبات التي جاء بها قانون الجرائم الإلكترونية يبدو واضحاً، فالأول كانت عقوباته غرامات مالية بينما يفرض الثاني عقوبة الحبس بالإضافة إلى الغرامة المالية، فضلاً عن إدخال صياغات غامضة تحتمل أكثر من تفسير. وتجلّت هذه الصياغات الغامضة في قانون الإعلام المرئي والمسموع، حيث ورد، على سبيل المثال، في المادة (20/ل) أن المرخص له يلتزم "باحترام الكرامة الإنسانية والخصوصية الشخصية وحريات الآخرين وحقوقهم وتعددية التعبير". فمن الذي يحدد هذه الصفات؟ فهل إذا نشر الصحفي خبراً عن رئيس شركة أو مؤسسة أنه أحيل لهيئة مكافحة الفساد بتهمة اختلاس، هل يعدّ ذلك عدم احترام للكرامة الإنسانية والخصوصية الشخصية؟ وإذا كان المتهم شخصية عامة، هل يعامل كأنه شخص عادي لا تأثير له في أمور الشأن العام؟ ثم تأتي المادة (21) من القانون بقائمة من القيود "المحددة في الرخصة الممنوحة له" أي أن الجمهور الأردني سوف يظل تحت رقابة الدولة التي تحدد له نوع البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي على المرخص له أن يأخذ الموافقة المسبقة عليها.

ثم نأتي إلى قانون منع الإرهاب الصادر عام 2014 الذي أصبح قانون إرهاب بحذ ذاته. من يقرأ التعريف الموسع في المادة (2) والتوسع في تعداد الأعمال الإرهابية (المادة 3) بما يهدد -على نحو خاص- نشاط أي أردني، صحفياً كان أو غير صحفي، ويشلّ حريته، سيجد درجة النكوص الشديد الذي جُرّت إليه حرية التعبير، فهل استخدام الشبكة العنكبوتية أو إنشاء موقع إلكتروني لرصد الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، أو التنديد بسياسة إسرائيل ضد أهلنا في النقب والتي تهدم القرى المرة تلو الأخرى سوف يكون عملاً إرهابياً، باعتبار أن مثل هذه الحملات قد تهدد حياة الأردنيين أو مصالحهم؟ أو تعكر صفو العلاقات مع دولة صديقة؟ والمخالفات لهذا القانون محكومة بعقوبات في غاية القسوة والشدّة مثل الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.

ومع التدرج في فرض القيود باستمرار لكبح حرية الرأي للمواطن الأردني، وفرض قيود على قدرة المواطن الأردني في الوصول للمعلومات وعلى حريته في التعبير واستحداث قيود إضافية على الصحفي وعلى وسائل البث والنشر، وهما من الوسائل المهمة لتمكين الأردني من تشكيل رأيه والتعبير عنه؛ لجأ المواطنون لوسائل تعبير أقل مخاطرة من الاصطدام مع أجهزة الأمن، وهي أدوات الاتصال الاجتماعي لتحريض الناس على مقاطعة السلع التي رُفعت أسعارها فوق طاقتهم، وفي حملة ضد زيادة تكلفة الهواتف الخلوية ظهرت حملة "سكّر خطك"، وفي رد على زيادة أسعار المحروقات، ابتكر الناس طريقة للتعبير عن آرائهم بركوب الحمير وسيلة للنقل بدل السيارات. والجمهور ذو قدرة هائلة وإمكانات ذكية في الالتفاف على قيود الدولة التي تفرض عليهم لمنعهم من إبداء الرأي وممارسة حق التعبير. ويظل الدستور الأردني هو الملجأ الأخير لصيانة حرية الرأي وكفالتها وعلى الدولة الوفاء بالتزامها الدستوري "بكفالة" هذا الحق الأصيل.
____________________________

*أكاديمي وخبير في القانون الدولي

المصدر : الجزيرة