تقرير التعذيب ينال من دعاية القيم الأميركية

أماني السنوار - بعض المشرعين اعترض على أن التعذيب لم يفض إلى نزع اعترافات هامة عجز المحققون عن سحبها بالوسائل المشروعة، وهو ما انحرف عن جوهر تجريم التعذيب بوصفه ارتكاسة أخلاقية إلى كونه وصفة كادت تكون مقبولة.

أماني السنوار*
 

بينما كانت الاستعدادات جارية في مقر الأمم المتحدة بنيويورك للاحتفاء بيوم حقوق الإنسان، والذكرى الثلاثين لإرساء اتفاقية مناهضة التعذيب، كانت فضيحة "تقرير التعذيب" تهز الجناح الشمالي من مبنى الكونغرس في واشنطن، إثر مناقشة مجلس الشيوخ لما سُمح بالكشف عنه من رصيد ثماني سنوات من الانتهاكات ضد معتقلين سريين.

وإن كان في المشهد السابق تصادف يسخر من صورة الولايات المتحدة كراعية ووصية على قيم العدالة وحقوق الإنسان التي طالما سعت لترسيخها في الأذهان، فإن ذاكرة العالم المتخمة بمشاهد القتل والتعذيب كانت غنية عن مطالعة فظائع التقرير الأخير لتؤمن كيف تبدو الولايات المتحدة وعدد من القوى الغربية متواطئة على انتهاك حقوق الإنسان "غير الغربي" في ازدواجية لا إنسانية.

المصادقة على برنامج التعذيب كانت تعني إعطاء الأوامر لتنفيذ جريمة الاختفاء القسري التي يصنفها القانون الدولي على أنها جريمة ضد الإنسانية وفق نظام روما الأساسي وغيره من الاتفاقيات

شرعنة الانتهاكات
منذ إقرار إدارة بوش برنامج "تقنيات الاستجواب المشددة" عام ٢٠٠١ والذي أطلق يد وكالة الاستخبارات الأميركية لاعتقال الإرهابيين المفترضين وزجّهم في سجون سرية، على ألا تكون مشيّدة داخل الأراضي الأميركية، بدا أن هذه الإدارة خلقت لأعدائها الافتراضيين معايير أخرى خارج منظومة القيم التي صاغتها للإنسان الأميركي، وطبقتها داخل حدودها.

وظهرت الإدارة الأميركية وكأنها لم تُقصِ زنازين معتقلي القاعدة إلى سجون سرية خارج أراضيها فحسب، بل عمدت أيضاً إلى إقصائهم خارج نطاق التصنيف الإنساني الذي يحظى به المواطن الغربي حتى وإن كان في نظرها مجرماً، فسلمت الأوروبيين الذين اعتقلوا في باكستان وأفغانستان إلى دولهم، بينما تعمدت أن تعتقل البقية -وغالبيتهم من جنسيات عربية وباكستانية- في سجون استضافتها غالباً دول من العالم الثالث، كي تجرّدهم من حقوقهم التي يكفلها القانون الاتحادي عبر حظره نزع الاعترافات تحت التعذيب، ولكي تضمن تنفيذ "جريمة نظيفة" عبر ثغرات تتيح الإفلات من العقاب، على غرار ما حصل إبان تكشّف الفظائع في سجن أبو غريب، حيث رفض القضاء الأميركي النظر فيها بدعوى أن الجرائم وقعت خارج النطاق الجغرافي لولايته القضائية.

المصادقة على برنامج التعذيب كانت تعني بالمحصلة إعطاء الأوامر لتنفيذ جريمة الاختفاء القسري (الاعتقال في سجون سرية) التي يصنفها القانون الدولي على أنها "جريمة ضد الإنسانية" وفق نظام روما الأساسي وغيره من الاتفاقيات، بينما تنص المادة رقم ١٣ من الاتفاقية الدولية للحماية من الاختفاء القسري على كونه جريمة عالمية التقاضي، موجبة لتسليم مرتكبيها بين الدول.

لكن الكارثة الكبرى في البرنامج تمثلت في مصادقة البيت الأبيض عام ٢٠٠٢ على مذكرة تخوّل السلطات عدم تطبيق معايير اتفاقيات جنيف على الصراع مع تنظيم القاعدة، وهو الأمر الذي وفر ضوءا أخضر لوكالة الاستخبارات الأميركية للتنصل من الالتزامات الدولية إزاء المعتقلين، وهي المكفولة استناداً إلى المادة الثالثة من اتفاقيات جنيف الأربع التي حظرت جملة من الانتهاكات ضد المحتجزين، بينها "التعذيب، والمعاملة القاسية، والمعاملة المهينة والحاطة من الكرامة، والقتل".

وبينما أدان تقرير مجلس الشيوخ عملاء "السي.آي.أي" بارتكاب الانتهاكات السابقة جميعها، برزت هنا مخالفة مركّبة للقانون الدولي تتجاوز اقتراف هذه الانتهاكات، إلى كون المذكرة التي صادق عليها جورج بوش تنطوي في الأصل على مخالفة لما ينص عليه القانون الدولي من "بقاء ممارسات التعذيب محظورة في جميع الأوقات والأماكن" (اتفاقيات جنيف/المادة ٣ المشتركة وغيرها مما هو مستقر في القانون الدولي)، مما يعني أن نقل أماكن الاحتجاز أو إعلان حالة الطوارئ لا يمكن بحال أن يكون مبرراً لاقتراف التعذيب.

اتهام القاعدة بأن لديها مشكلة مع منظومة القيم الأميركية، يبدو متهاويا أمام سلوك واشنطن التي قادتها غريزة الانتقام لأن تكون أكبر المنتهكين لهذه القيم

قيم نفعية
حصة كبيرة من سهام الانتقاد في مجلس الشيوخ الذي يهيمن عليه الديمقراطيون، نالت وكالة الاستخبارات الأميركية لكونها بالغت في تصوير نجاعة التعذيب.

وعلى إثرها احتدم الجدل الإعلامي حول ما إن كانت تحقيقات الوكالة قادت فعلاً إلى منع هجمات "إرهابية" وسهّلت من عملية اعتقال أسامة بن لادن لاحقاً، أم هي محض مبالغات وتبريرات روج لها غرماؤهم الجمهوريون الذين ارتكبت الفظائع في سنوات حكمهم بين عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٩.

وإلى هذا استندت نسبة لا بأس بها من الأصوات في اعتراضها على أن التعذيب لم يفضِ إلى نزع اعترافات هامة عجز المحققون عن سحبها بالوسائل المشروعة، وهو الأمر الذي انحرف عن جوهر تجريم التعذيب بوصفه ارتكاسة أخلاقية إلى كونه وصفة كادت تكون مقبولة، لولا فشلها عملياتيا.

ديك تشيني نائب الرئيس السابق والذي مثل بشراسة جناح المدافعين عن برنامج التعذيب، تجاهل تماماً في مقابلة مع فوكس نيوز الحديث عن الانتهاكات، مركزًا على أن الإدارة الأميركية "قامت بما يفترض القيام به للقبض على مهاجمي ١١ سبتمبر/أيلول 2001، ومنع هجمات جديدة".

وعندما سئل عن رأيه في كون ربع المعتقلين الذين وردت أسماؤهم ضمن ضحايا التعذيب ثبت لاحقاً أنهم أبرياء، رد بالقول "ليس لديّ مشكلة طالما حققنا هدفنا". وبدا سلوك هذا الفريق الذي يتهم "إرهابيي القاعدة" بأن لديهم مشكلة مع منظومة القيم الأميركية، متهاويا أمام سلوك واشنطن التي قادتها غريزة الانتقام لأن تكون أكبر المنتهكين لهذه القيم.

الولايات المتحدة التي طالما أعطت لنفسها الحق في أن تصنف أنظمة العالم إلى تنويرية ورجعية، وتعمم قوائم الإرهاب، وتسقط حكومات ورؤساء، وتغزو دول العالم الثالث لانتشالها من الدكتاتورية والتخلف، خوطبت للمرة الأولى من قبل الأمم المتحدة كما تُخاطب دول العالم الثالث الغارقة في انتهاكات حقوق الإنسان

خطاب دولي جديد
موجة الانتقادات الدولية والحقوقية التي تبعت التقرير ودعت إلى فتح تحقيقات جنائية بحق المتورطين ومن ساهم بإعطاء أوامر التعذيب أو التستر عليها، سجّلت هذه المرة جملة من العلامات الفارقة وغير المسبوقة.

فالولايات المتحدة التي طالما أعطت لنفسها الحق في أن تصنف أنظمة العالم إلى تنويرية ورجعية، وتعمم قوائم الإرهاب، وتسقط حكومات ورؤساء، وتغزو دول العالم الثالث لانتشالها من الدكتاتورية والتخلف، خوطبت للمرة الأولى من قبل الأمم المتحدة كما تُخاطب دول العالم الثالث الغارقة في انتهاكات حقوق الإنسان.

وظهرت لأول مرة بصورة الدول الرجعية التي لا تقيم وزناً للقانون الدولي، حين أكدت وزارة العدل الأميركية غير مرة أنها لا تخطط لفتح أي تحقيق جنائي نتيجة لتقرير مجلس الشيوخ، بينما أعلن المدعي العام إيريك هولدر أنه لن يتجاوب مع مذكرات قد تصدر لاعتقال مسؤولين على علاقة ببرنامج التعذيب، وأن السلطات لن تسمح بتنفيذ أي مذكرات اعتقال.

وبدت المؤسسات الأممية لأول مرة غير واثقة بنزاهة القضاء الأميركي ولا برغبة واشنطن السياسية في تحقيق العدالة، مما دفع المقرر الخاص لحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب بالأمم المتحدة بن إيمرسون إلى دعوة ضحايا "السي.آي.أي" إلى استخدام حقهم في التقاضي عبر مبدأ الولاية القضائية العالمية.

التصريح الذي كان لافتاً جداً وبثته شبكة "سي.أن.أن" عبر لقاء متلفز، أكد فيه إيمرسون أن عملاء وكالة الاستخبارات الأميركية المتهمين بالتعذيب يمكن القبض عليهم في أي دولة يقصدونها فور خروجهم من الولايات المتحدة.

وتكمن خطورة الدعوة في كون الاختصاص القضائي العالمي لا ينفذ إلا بتحقق مقاصد وشروط رسّختها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أهمها أن تنطوي الانتهاكات على خطورة وبشاعة تشكل تهديداً للأمن والسلم العالميين، وأن ترتكب في بيئة يستحيل معها ممارسة ولاية قضائية محلية تنصف الضحايا، مما يعني أن الأمم المتحدة باتت تعتقد أن أميركا لم تقترف انتهاكات فظيعة فحسب، بل هي تتستر على مرتكبيها.

وفي استحضار مبدأ الولاية القضائية العالمية، يَمثل واقع أسود يعيدنا إلى عدد من الدول الغارقة في الانتهاكات والصراعات، حوكم مجرمون منها وفقاً لهذا المبدأ، مثل: تشاد ورواندا وسيراليون.

وإن كان صدى التقرير الذي استأثر باهتمام الصحافة الغربية طوال الأيام الماضية، لم ينل التغطية ذاتها في الإعلام العربي، فقد يُطرح التساؤل عن الجديد الذي يقدمه بعد تكشّف فظائع التعذيب في سجن أبو غريب قبل عشرة أعوام.

وبينما يرى الكاتب البريطاني روبرت فيسك أن عدم تفاعل العالم العربي جاء لأن أبناءه كانوا ضحايا شاهدين على الفظائع الأميركية قبل أن يتم الاعتراف بها، إلا أن ما انفضح مؤخراً يكتسب أهميته من كونه ليس سوى جزء يسير مما رفعت عنه قيود السرية، من جملة فظاعات وقعت ولم تتلف أدلتها كما أتلف الأقسى والأكثر وحشية منها في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠٠٥، وذلك بعد أيام قليلة من نشر تقرير استقصائي لصحيفة واشنطن بوست فضح لأول مرة وجود سجون سرية أميركية.

وجاءت صدمة تقرير التعذيب بينما عجزت القيم الأميركية عن أن تظلل المواطن الأسود الذي حمل هوية البلاد منذ استقلالها قبل أكثر من ثلاثة قرون، حيث أقر باراك أوباما بعجز هذه القيم عن التحرر من وطأة "العنصرية القومية"، مما يجعلنا نتساءل: هل تمنح هذه القيم فعلاً لأبناء العالم الثالث؟
_______________________
* حقوقية وباحثة في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية

المصدر : الجزيرة