المؤرخ المغربي الطيب بياض: نصوص الرحلات وفرت مصادر مهمة للمؤرخين

المؤرخ المغربي الطيب بياض تحدث عن فضل الرحالة المغربي ابن بطوطة في ربط جسور التواصل بين المغرب والصين مند أمد بعيد (الجزيرة)

بعد كتابه "الصحافة والتاريخ: إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن" يواصل الأكاديمي المغربي الطيب بياض مشروعه البحثي، لكن هذه المرة وفق مناخات كتابية مختلفة، بحيث يُطالعنا كتابه الجديد "اكتشاف الصين: رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين" (2022) كنوع من الكتابة التي تتجاوز في ماهيتها النمط التحليلي في الكتابة التاريخية وتقيم في أدب الرحلة بكل ما يحمله من خصائص وتشكلات.

وقد بدا ذلك مغايرا بالنسبة لقراء الطيب بياض، الذين تعودوا عليه مؤرخا وباحثا في البنى الاقتصادية للتاريخ، حيث كتب في هذا المضمار مؤلفات عديدة يمزج فيها بين الأسلوب الأدبي المحض وطريقته التحليلية المميزة في استحضار مفاهيم وتصورات التاريخ الجديد كما بلورتها المدرسة التاريخية الفرنسية المعروفة باسم "الحوليات".

ولأن صاحب "رحالة مغاربة في أوروبا بين القرن السابع عشر والعشرين: تمثلات ومواقف" من المؤرخين المغاربة الذي يؤمنون بأهمية النفس الأدبي داخل الكتابة التاريخية المعاصرة، فقد حرص في كل كتاب جديد له أن يتحرر من ربقة مفاهيم الكتابة "الاستيهامية" والذاتية، مستحضرا الكثير من المصادر المعرفية والمدارس التاريخية والعديد من الدراسات التي تجد زخمها الفكري في تاريخ الأفكار والذهنيات.

ورغم أن الكتاب يسرد سيرة سفر الطيب بياض إلى الصين، فإن ذلك يبقى ضربا من التجريب التاريخي القائم على اجتراح شكل جديد للكتابة التاريخية وتخليصها من ربقة النموذج التقليدي، كما فعل المؤرخ المغربي عبد الله العروي نفسه مع كتابه "استبانة"، حيث بدا العروي محاورا نفسه ومقدما معرفة تاريخية ينسجها الفكر ومفاهيمه التحليلية الصارمة وتعيد الذات كتابتها على شكل تماهٍ مع هذا التاريخ المغربي.

كتاب "اكتشاف الصين" للطيب بياض (الجزيرة)

تجدر الإشارة إلى أن الطيب بياض يعمل أستاذا للتاريخ الاقتصادي بكلية الآداب "عين الشق" في الدار البيضاء، وهو عضو هيئة تحرير المجلة الدولية المتخصصة في الهندسة والعلوم الاجتماعية، وله مشاركات علمية كثيرة بجامعات عربية ودولية.

وبمناسبة كتابه الجديد "اكتشاف الصين: رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين" كان للجزيرة نت هذا الحوار معه.

واقع الكتابة التاريخية

  • الأستاذ الطيب بياض، أولا، كباحث ومؤرخ مغربي مهتم بقضايا التاريخ الاقتصادي وإشكالاته الراهنة. أي أفق ترسمه للكتابة التاريخية العربية، فيما يتصل منها بالتاريخ الاقتصادي خلال الحقبة الحديثة منها والمعاصرة؟

أعتقد أن الكتابة التاريخية العربية المهتمة بالتاريخ الاقتصادي خلال الحقبة الحديثة والمعاصرة حققت تراكما لا بأس به على مستوى الإنتاج من الناحية الكمية، وربما من هنا تأتي أهمية السؤال الذي تفضلت بعرضه، والذي يجعلنا نبحث في المستوى النوعي داخل هذا العدد من الإصدارات العربية في مواضيع تُعنى بالتاريخ الاقتصادي، والتي كان للباحثين العراقيين إسهام مهم فيها إلى جانب باحثين من مختلف البلاد العربية شرقا وغربا.

لذلك فرسم الأفق يستدعي البحث أولا في الحصيلة، برؤية استشرافية نقدية، تستحضر أسئلة تهم سياقات الاهتمام بالتاريخ الاقتصادي في مختلف التجارب العربية، وتبحث في أسباب وأسرار هذا الاهتمام؛ هل من باب تفاعل المؤرخين العرب مع قضايا عصرهم وبلدانهم، حاملين هَمَّ العجز الاقتصادي، ساعين إلى إيجاد عناصر تفسير للظروف الاقتصادية الموسومة بالعجز في أغلب بلدانهم من خلال استحضار البنيات الممتدة في الزمن الطويل الشارحة والمفسرة لذلك، أم هو مجرد ركوب موجات وتيارات فكرية "ماركسية، بنيوية" ومدارس تاريخية (الحوليات في فرنسا، والتاريخ الاقتصادي الجديد أي الأنجلوسكسوني)؟ وعلى هذا الأساس يتطلب سؤال الأفق استحضار أسئلة الجدوى والمنهج والنسب الفكري، لتقييم التجربة وتحديد البوصلة واستشراف الأفق.

استحضار تراث الحوليات

  •  على ذكر النسب الفكري، هل تعتقد أن الكتابة التاريخية المغربية في مجملها، قد استمدت مختلف المفاهيم والرؤى والتصورات، التي جاءت بها مدرسة الحوليات في هذا المضمار وعملت على تطويعها فكريا ومنهجيا داخل أبحاثها؟

لا بد من الإشادة أولا ببعض الجهود الجادة والجيدة في هذا الاتجاه، بيد أني ألفي المسألة نسبية ومحدودة وفردية، وما زالت جنينية لم تتبلور بعد في شكل تيار أو اتجاه مجدد في الكتابة التاريخية.

ومن المفيد في هذا الصدد أن ننبه إلى مسألة أحسبها في غاية الأهمية، ولا بد من توضيحها، إذ لا يمكن أن نتصور استلهام تجربة مدرسة الحوليات كما لو أنه مجرد أمر صوري يقتصر على استعارة المقولات الكبرى للعلوم المجاورة من قبيل السوسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا أو الاقتصاد، لنؤثث بها متوننا التي نكتبها أو نُدبج بها محاضراتنا التي نلقيها.

فالمسألة أعقد من ذلك بكثير، حيث تتطلب تملكا عميقا للمداخل النظرية والمنهجية التي اقترحتها هذه المدرسة الرائدة والمجددة في الكتابة التاريخية، والاشتغال بها كأدوات للفهم والتفسير والتأويل، من منطلق الوعي بالمفهوم المجدد لموضوع التاريخ، أي الإنسان وليس الماضي في حد ذاته، أو بمعنى أدق دراسة أحوال الناس في الزمن، مع ما يستتبع ذلك من مواضيع جديدة بمقاربات وإشكاليات جديدة.

وهو التجديد الذي نحته مارك بلوك في مرافعته دفاعا عن التاريخ، ورسخه لوسيان فيفر في معاركه من أجل التاريخ، وأعاد فيرناند بروديل التذكير به، بطريقته الخاصة، في أكثر من مناسبة.

كتاب "الصحافة والتاريخ" للطيب بياض (الجزيرة)

اكتشاف الصين

  • صدر لك هذه الأيام مؤلف جديد بعنوان "اكتشاف الصين: رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين"(2022). بداية، لماذا الصين وليس اليابان أو كوريا مثلا؟ وكيف جاءت هذه الرحلة وتمثلت أفقها الواقعي/ المتخيل قبل السفر والكتابة؟

كانت الرحلة إلى الصين في إطار مهمة استطلاعية، ضمن وفد مغربي زار بلاد التنين إلى جانب "قادة شباب أفارقة"، في ربيع سنة 2018. وهي الرحلة التي سبقتها -كما أشرتَ إلى ذلك في سؤالك- تمثلات خاصة عن هذا العملاق الآسيوي، لا سيما أن السفر إلى الصين كان في اليوم الموالي لعودتي من السفر إلى باريس، وهو ما عبرت عنه بالقول في متن هذه الرحلة "حملت الشرق معي إلى الغرب في اللاوعي، فكان يقفز من عقلي الباطن كلما شرد الذهن، أو بُحت بأمره إلى جليس. لكنه جثم بثقله في رحلة العودة إلى الرباط، ولازم تفكيري منذ وطأت قدماي مطار أورلي بباريس منتظرا إقلاع الطائرة. وكأني بخيالي يستجمع صورا ومشاهد من الغرب، سيجري استحضارها من باب المقارنة بشكل لا إرادي في رحلة الشرق، وهو ما حصل فعلا في أكثر من مناسبة".

أما فعل الكتابة فجاء محكوما بهذه المحددات معطوفة على كون فكرة الكتابة كانت حاضرة لدي قبل السفر ومؤطرة بتراكم في الفهم، عبرت عنه في مؤلفاتي السابقة لهذا الكتاب. ويتعلق الأمر باستثمار تجربة في الاشتغال على النصوص الرحلية لدراسة تمثلات ومواقف الرحالة، والذي أصدرته في شكل كتاب سنة 2016، تحت عنوان "رحالة مغاربة في أوروبا، بين القرنين السابع عشر والعشرين تمثلاث ومواقف"، ثم أهمية اللغة في عملية إنتاج المعرفة، سواء كانت عملا تاريخيا أكاديميا أو نصا سرديا رحليا، في كتاب "الصحافة والتاريخ، إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن"، الصادر سنة 2019.

وأخيرا مركزية الوثيقة للإشهاد على أي تجربة إنسانية تُحكى، لإضفاء الموضوعية على ما تجود به الذاكرة من حكي، وهو تمرين سبق أن قمت به في كتاب "بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة، أحداث 3 مارس/آذار 1973، حوار مع مبارك بودرقة (عباس)"، الصادر مطلع سنة 2020. لذلك عمدت إلى تدوين يوميات الرحلة في حينها، وعززتها بوثائق وصور، وتركت الأمر للاختمار، إلى أن دقت ساعة التدوين في عز الحجر الصحي خلال ربيع سنة 2020، فتوسلت عُدة العمل من دفتر اليوميات وأرشيف الوثائق والصور، ورمت تحرير النص بلغة أدبية تناسب المطلوب في النصوص الرحلية، مع استطرادات للمقارنة متى استدعى الأمر ذلك.

العلاقات الدولية بين المغرب والصين

  • في نظرك، ما أهمية العلاقات الدولية والتاريخية، بين المغرب والصين على مستوى الدبلوماسية إبان الحقبة المعاصرة، وما الذي يمكن أن تفتحه الصين بالنسبة للأفق الدبلوماسي المغربي؟

من دون أن ننسى فضل الرحالة المغربي ابن بطوطة في ربط جسور التواصل بين المغرب والصين مند أمد بعيد، حري بنا التذكير أنه في زمن التقاطب الدولي الحاد وصراع الإيديولوجيات، اختار المغرب الوقوف إلى جانب الصين الشعبية، في مطلبها القاضي باستعادة العضوية داخل الأمم المتحدة.

فقد أدى انتصار الثورة الاشتراكية في الصين سنة 1949، وإصرار الولايات المتحدة الأميركية على الحيلولة دون تمثيل حكومة الصين الشعبية في الأمم المتحدة، إلى وجود وضع نشاز نجم عنه احتلال حكومة تايوان لمقعد الصين الدائم في مجلس الأمن لما يزيد على عقدين من الزمن.

وطيلة هذا المسار المعقد لم يذخر المغرب جهدا في دعم ومساندة الصين في مطلبها، حتى استرجعت مقعدها بالأمم المتحدة في تصويت 25 أكتوبر/تشرين الأول 1971، وفي الشهر الموالي ألقى مندوب المغرب السيد المهدي زنطار خطاب الترحيب بوفد الصين في الجمعية العامة باسم الدول العربية.

أما اليوم، فالصين -التي دشنت طريق الحرير الجديد منذ 8 سنوات، وتريد أن تبصم في إطار "الطريق والحزام" على حضور قوي في أفريقيا- تجد أمامها المغرب مؤهلا أكثر من غيره للعب دور الجسر الذهبي بين العملاق الآسيوي والقارة السمراء.

  • أول شيء يثير الدهشة وفتنة السؤال، هو عنوان الكتاب وصعوبة تجنيسه بين الكتابة التاريخية وأدب الرحلات. إلى أي حد استطاع الطيب بياض في كتابه هذا الحفاظ على دقة المؤرخ وإمكاناته التحليلية الشاسعة؟

لعل العنوان الفرعي للكتاب "رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين" هو ما يعزز الهواجس المُعبر عنها في السؤال، وهي مشروعة بالنظر إلى أن الكاتب يعلن أنه يقدم لقرائه نصا رحليا، ولكن من تأليف باحث أكاديمي، وربما هنا شرعية التوقف عند مساحة الحضور الأكاديمي في عملية الكتابة.

وجاء تدوين هذا النص، كما أشرت إلى ذلك سابقا، محكوما برؤية وفهم ومنهج مبني على تراكم، يجد عناصر تفسيره في مؤلفات سابقة، مما يعني أن كتابة نص الرحلة لم يكن نشازا ولا انزياحا، بل استمرارية ضمن هذا المشروع الذي أشتغل عليه. لذلك ستلاحظ أنني لم أعتمد فيه منهج السرد التاريخي بفهمه الوضعاني، حتى ولو تعلق الأمر بنص سردي، إذ حاولت القيام بتمرين النفَس الروائي في فعل الكتابة حكيا ولغة وأسلوبا، في حين سعيت على مستوى المضمون إلى اعتماد التحليل التاريخي المنفتح على باقي الحقول المعرفية خاصة الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، مع استحضار المنهج المقارن كلما دعتني ضرورة الفهم أو التأويل إلى ذلك.

وقد ينتصر اعتماد الوثيقة كآلية من آليات اشتغال المؤرخ، للإشهاد على محطات مختلفة من برنامج هذه الرحلة، وملحقين للاستزادة في الفهم في آخر متن الكتاب، لهذا الاختيار الأكاديمي للمؤلف.

كتاب "بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة" للطيب بياض (الجزيرة)

أدب الرحلة

  • يعد أدب الرحلة أحد أبرز المصادر التاريخية المهمة بالنسبة للمؤرخ في الفترة الحديثة من تاريخ المغرب. هل ترى أن هذا النوع من الأدب، قد حظي فعلا بأهمية بارزة داخل مجال البحث التاريخي في المغرب؟

وفرت النصوص الرحلية بالفعل، مادة مصدرية مهمة للمؤرخين، وجرى النهل من متونها التي غطت فترات مختلفة من تاريخ المغرب. غير أن التعامل مع هذه الرحلات يتطلب من المؤرخ مهارات معرفية خاصة تسعفه في استخراج مادته العلمية منها، إذ هي -في جزء مهم منها- انطباعات وتصورات وتمثلات محكومة بالغيرية.

وفي هذا المستوى تحضر المسبقات الوجدانية والذهنية والثقافية للرحالة المتحكمة في إنتاج نص رحلته عن الآخر المختلف حضاريا وعقائديا في غالب الأحيان. لذلك كلما كانت عُدة المؤرخ من أدوات تحليل الخطاب قوية؛ نفذ إلى سراديب النصوص الرحلية لقراءة ما بين سطورها قراءة منتجة تلهمه منهج الظفر بشهدها العلمي، الذي يسعفه إلى جانب مصادر أخرى في عملية بناء التاريخ الذي يطمح إليه بشكل أقرب إلى الموضوعية.

ولقد حصل تراكم مهم في باب انفتاح المؤرخين على موضوع الرحلات، والأهم أنهم لم ينفردوا أو يحتكروا هذا المجال، بل دخله إلى جانبهم باحثون جادون في الدراسات الأدبية والسردية، وتكونت جمعية عالمية مختصة في هذا الباب، حققت تراكما مثمرا وتفاعلا ثريا بين مختلف المهتمين بأدب الرحلة.

وقد يشكل أدب الرحلة -في المغرب بالمستقبل- إطارا جامعا لباحثين من مختلف التخصصات، لخلق مساحة بحث مشتركة عابرة للمعارف الإنسانية، تشكل نموذجا للانفتاح المنتج بين الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، لإنتاج معرفة مبتكرة مخصبة في مختبر التكامل والتفاعل بين باحثين ينتمون لحقول معرفية مختلفة.

المصدر : الجزيرة