وفاة غورباتشوف وانهيار التفاؤل بـ"سلام الأقواس الذهبية".. تاريخ مقلوب لنهاية الحرب الباردة وانتصار الرأسمالية

كشفت الحرب الروسية عن قيود القوة الأميركية وأظهرت أن الدول -سواء خاضت الحرب أم لا – لا تتصرف دائما لمصالحها الاقتصادية فحسب.

أول مطعم ماكدونالدز افتتح في ميدان بوشكين بموسكو السوفياتية في 31 يناير/كانون الثاني 1990 على وقع سياسات الانفتاح التي بشر بها ميخائيل غورباتشوف آخر الزعماء السوفيات (الفرنسية، أرشيف)

أعادت وفاة ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفياتي عن عمر ناهز 91 عاما الضوء لسلسلة من التحولات في زمن نهاية الاتحاد السوفياتي، ومنها افتتاح علامة الوجبات السريعة الأميركية ماكدونالدز فروعها في روسيا، وهو الحدث الذي شكل علامة على نهاية حقبة الحرب الباردة حيث كان الطعام -ولا يزال- رمزا سياسيا مهما، وللمفارقة أغلقت ماكدونالدز فروعها في روسيا مؤخرا على خلفية الحرب على أوكرانيا، مما جعل محللين يعتبرون أن بقايا حقبة غورباتشوف قد انتهت حتى قبل وفاته.

في صباح شتوي يوم 31 يناير/كانون الثاني 1990 كان حشد كبير من سكان موسكو في ساحة بوشكين الشهيرة، وسط العاصمة موسكو، يتوقون لتذوق برغر ماكدونالدز عقب افتتاح أول فروعه في الاتحاد السوفياتي، مما شكل رمزا لازدهار الرأسمالية الأميركية وسقوط أيديولوجية الاتحاد السوفياتي.

انضم للحشد عدد من الصحفيين والمصورين والمراسلين الروس والأجانب وحتى الدبلوماسيين، وعشرات من رجال الشرطة تحسبا لخروج الحشد عن السيطرة، وعرف المراسلون الذين يكتبون هذه التفاصيل أن هناك قصة صحفية مهمة تتجاوز شهية الروس العاديين لكل الأشياء الأميركية، أو حرصهم على التهام البرغر الأميركي عندما افتتح المطعم الساعة 10 صباحا.

بالنسبة للسكان المحليين والأجانب على حد سواء، كان الافتتاح أول تأكيد مادي، بعد شهرين فقط من سقوط جدار برلين، أن رئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف كان جادا بشأن الإصلاح الاقتصادي والسياسي. وأشارت الأقواس الذهبية إلى أن الديمقراطية والتحرير لا رجوع فيهما، الدليل آنذاك كان في وجبة بيغ ماك.

وبعد أكثر من 3 عقود، عاد التاريخ إلى الوراء، حيث أغلقت ماكدونالدز 850 مطعما في روسيا بحجة أنها لا تستطيع تجاهل "المعاناة الإنسانية" التي سببتها حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا.

وقالت الشركة -التي تتخذ من شيكاغو مقرا- إن الإغلاق مؤقت، لكن هذا يبدو تعبيرا عن الأمل أكثر من كونه خطة، فهل يعني ذلك عزلة موسكو أم انسحاب الغرب؟

ذكريات 1990

بالنسبة للروس الأكبر سنا لا يزال ماكدونالدز له أهمية رمزية، كانت أول علامة تجارية دولية كبرى تنشئ متجرا بموسكو وتبعته بيتزا هت بعد بضعة أشهر، في ذلك الوقت كان أمام الاتحاد السوفياتي أقل من عامين للعيش، ولكن كان لا يزال من الصعب تخيل أن روسيا ستدخل عقدا جامحا من الخصخصة الجامحة، أو أن طبقة جديدة من "الأوليغارشية" ستستولي على الموارد النفطية والمعدنية للبلاد، أو أن المستثمرين الأجانب سيتدفقون على العاصمة الروسية بحثا عن عائدات ضخمة.

عام 1990، منع معظم الروس من حيازة العملات الأجنبية، لذلك قامت ماكدونالدز بتسعير البرغر بالروبل غير القابل للتحويل، كان الجانب السلبي أن بيغ ماك تكلف ما بين 2% و3% من متوسط ​​الراتب الشهري للروس، والفاتورة المعادلة له بالولايات المتحدة اليوم 60 دولارا.

لم يكن السعر رادعا فقد أعجب الزبائن بحجم اللبن المخفوق ولم يستاؤوا كثيرا من طابور الانتظار الطويل الذي اعتادوا عليه في الزمن السوفياتي، وقدمت ماكدونالدز أكثر من 30 ألف وجبة في اليوم الأول، ولم يكن البرغر بيغ ماك مجرد طعام غريب، بل كان طعما للولايات المتحدة التي كانت علاماتها التجارية موضع إعجاب وحسد، وتداول نشط بالسوق السوداء سنوات الاتحاد السوفياتي القاتمة.

جاء احتضان الروس للوجبات السريعة الغربية وثقافة البوب ​​والجينز للدلالة على اندماج البلاد وطبقتها الوسطى في النظام الرأسمالي العالمي، وأظهرت فروع ماكدونالدز وغيرها من مطاعم الوجبات السريعة أن روسيا كانت تنضم بسرعة للعولمة الغربية، حيث سمح للروس أخيرا بالسفر. وقبل الافتتاح ببضعة أشهر، تجمع المواطنون في ساحة بوشكين لاستخدام حريتهم الجديدة للتظاهر والتعبير عن نفاد صبرهم من وتيرة الإصلاح البطيئة، ويمكن اعتبار افتتاح مطعم ماكدونالدز بمثابة رد غورباتشوف على المتظاهرين بالقول إن الإصلاحات جادة وحقيقية.

A Soviet customer of the just opened first McDonald's in the Soviet Union holds little flags of the US fast food enterprise on January 31, 1990 at Moscow's Pushkin Square. AFP PHOTO VITALY ARMAND (Photo by VITALY ARMAND / AFP)
مواطن أمام ماكدونالدز الذي افتتح لتوه بالاتحاد السوفياتي (الفرنسية، أرشيف)

حلم السلام "الساذج"

بمقاله في مجلة فورين بوليسي الأميركية (foreign policy) قال بول موسغريف، الأكاديمي بجامعة ماساشوستس، إنه في تسعينيات القرن الماضي كان الأميركيون يتخيلون عالما يمكن أن يكون مثلهم تماما، حيث ساد الاعتقاد بأن التكامل الدولي والمصالح والعولمة الاقتصادية في حد ذاتها يمكن أن تجعل الحرب أقل احتمالية.

لكن تطورات الأحداث الحالية توحي بأن الموروثات التي خلفها "الانحدار الإمبراطوري" ستولد موجة جديدة من الصراع، على خلاف ما كتبه الصحفي والمنظر السياسي الأميركي توماس فريدمان الذي اعتبر أن فوائد التكامل الاقتصادي تقلل من الخيارات السياسية المفتوحة للحكومات، مما يجعل الحرب -التي تعطل هذا التكامل- غير جذابة بحيث لا يمكن تصورها عمليا.

ويقول الكاتب إنه إذا كانت هذه الفكرة تبدو مثل نظرية "السلام الرأسمالي" -كما فهمها الاقتصاديون مونتسكيو وآدم سميث وريتشارد كوبدن- فهذا صحيح إلى حد كبير.

وراجت تلك الأفكار زمن نهاية الحرب الباردة وصعود أحادية القطب الأميركي، وفي زمن التفاؤل الأميركي ذلك، شارك الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف في إعلان لـ بيتزا هت، وراجت نظرية "الأقواس الذهبية لمنع الصراع" والتي اقترحها فريدمان وخلاصتها أن توسع الرأسمالية العالمية سيؤدي لتراجع الحرب، ولخصها "لم تخض دولتان لديهما ماكدونالدز حربا ضد بعضهما البعض".

ولكن فريدمان اعترف لاحقا أن العلاقة بين ماكدونالدز والعلاقات السلمية لم تكن سببية. فوجود مطعم ماكدونالدز لم يقدم خصائص سحرية لتقليل الصراع. بدلا من ذلك، وضعت ماكدونالدز مطاعمها بشكل مدروس في البلدان التي كان من غير المرجح أن تخوض الحرب بالمقام الأول وهي التي قطعت شوطا في بناء طبقة وسطى تستطيع تحمل الكماليات الغربية، وكمثال تعمل ماكدونالدز اليوم في بلدان أفريقية قليلة فقط.

وجاء مقال الأكاديمي وعالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون عام 1993 في فورين بوليسي أيضا "صراع الحضارات" ليتوقع أن المستقبل سيشهد حمامات دم حضارية.

فتح ماكدونالدز أم احتلال كوسوفو؟

اهتزت نظرية الأقواس الذهبية نهاية التسعينيات، بعد أن بدأ الناتو الضربات الجوية على العاصمة الصربية بلغراد (بفروع ماكدونالدز السبعة بها) خلال حرب البلقان. ومع ذلك، ادعى فريدمان أن هذا "استثناء مؤقت أثبت قاعدتي" وكتب في صحيفة نيويورك تايمز "بمجرد أن أطفأ الناتو الأنوار في بلغراد، وأغلق شبكات الكهرباء والاقتصاد، طالب مواطنو بلغراد بإنهاء الحرب، بكل بساطة، لقد أرادوا أن يكونوا جزءا من العالم، أكثر مما أرادوا أن تكون كوسوفو جزءا منهم، لقد أرادوا إعادة فتح ماكدونالدز، أكثر بكثير مما أرادوا إعادة احتلال كوسوفو".

جاءت الاختبارات الأخرى للنظرية عام 1999 عندما هددت الهند وباكستان بضربات نووية على خلفية أزمة كشمير، والحروب بين إسرائيل ولبنان عام 2006، وعندما تفاقمت التوترات بين روسيا وجورجيا عام 2008، لكن هذه الصراعات كانت صغيرة نسبيا وتم حلها بسرعة، بفضل الاقتصاد.

عام 2022، تم اختبار نظرية الأقواس الذهبية بجدية أكبر من أي وقت مضى، وقبل ذلك عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، كانت ماكدونالدز في الجبهة مجددا، تم إغلاق الفروع الثلاثة بالمنطقة في سيفاستوبول وسيمفيروبول ويالطا.

الشهر التالي، تم إغلاق 5 فروع أخرى شرق أوكرانيا، بما في ذلك 3 بمدينة دونيتسك التي يسيطر عليها المتمردون، بحسب تقرير صحيفة بيج إيشو bigissue البريطانية.

ومع تنامي المشاعر المعادية لأميركا، أصبح ماكدونالدز هدفا، فقد أظهر استطلاع للرأي في أبريل/نيسان 2014 أن 62% من الروس يرغبون في رؤية الشركة تغادر البلاد، حتى الرئيس بوتين شارك في النقاش، داعما التوسع في امتياز على الطراز السوفياتي "استنادا إلى أنواع مختلفة من المأكولات الروسية التقليدية التي تنافس في معايير الجودة مع سلاسل المطاعم مثل ماكدونالدز".

ويقول مؤلف كتاب "صناعة الوجبات السريعة" آدم تشاندلر في مقاله بصحيفة واشنطن بوست (washington post) الأميركية إن نظرية الأقواس الذهبية لمنع الصراع تضمنت أيضا فكرة أن النظام الاقتصادي الذي يدعمها سيكون بقيادة أميركية.

عام 1986، حتى قبل انتهاء الحرب الباردة وقد بدت نظرية الأقواس الذهبية ممكنة، أطلقت صحيفة إيكونوميست (The Economist) الأميركية مؤشر بيج ماك الذي يستخدم سعر وجبة بيج ماك حول العالم كطريقة لقياس قيم العملات، وكانت الفكرة أيضا أن الولايات المتحدة هي من صنعت أداة القياس.

لكن هذا الجانب من الصراع يبدو مختلفا جدا اليوم، يقول تشاندلر، فقد لعبت الدول الأوروبية -وربما كانت ألمانيا أبرزها- أدوارا قوية بشكل غير متوقع بالأزمة في أوكرانيا، في حين أن أميركا تعمل إلى حد كبير وراء الكواليس ولم يغير ذلك (حتى الآن) مسار عمل روسيا.

وسواء أكانت الحرب الروسية قد كشفت عن قيود القوة الأميركية أو أعادت التذكير بالعديد من عوامل متانة جاذبيتها، فإن الحقيقة أن الدول -سواء خاضت الحرب أم لا- لا تتصرف دائما لمصالحها الاقتصادية الخاصة، وإذ ترمز نظرية الأقواس الذهبية للحرب والسلام إلى تفاؤل مغر بعد الحرب الباردة، تبدو الفكرة الآن غريبة وساذجة ونرجسية وغارقة بعض الشيء في الإدراك المتأخر. إن تمزيق النظرية ونهاية التفاؤل الذي ألهمها تذكير بمدى محدودية السلام ومدى فوضى القوة.

المصدر : الجزيرة + وكالات + الصحافة الأميركية + رويترز